عزت سعد

على حين يسابق العالم الزمن من أجل إيجاد علاج أو لقاح لوباء كورونا المستجد، يتنامى تيار واضح يرفع شعار «التعايش مع كورونا»، وأنه بالتزامن مع تنفيذ تدابير مواجهة واحتواء الوباء لابد من الاستعداد لفترة طويلة قادمة يتعايش فيها البشر مع الفيروس، بما فى ذلك احتمال تفشيه من جديد.

ويخلص هؤلاء إلى ضرورة العمل على تخفيف عبء الفاتورة التى يدفعها الاقتصاد يومياً ولأجلٍ غير معلوم، وبالتالى عودة النشاط الاقتصادى ولو تدريجياً من خلال تخفيف سياسات العزل، وذلك بما يضع الخسائر الاقتصادية المحتملة فى حدها الأدنى. وبالفعل بدأ بعض الدول فى تبنى نوع من التطبيع لنشاطها الاقتصادى وعلى رأسها الصين وبعض البلدان الأخرى مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان، كما أعلن بعض الدول فى مناطق مختلفة أنها على طريق تخفيف التدابير الاحترازية التى فرضتها منذ تفشى الجائحة.

والملاحظ هنا أنه بالرغم من حقيقة أن الأزمة عالمية بكل المقاييس، إلا أن تجاوزها ومواجهتها هو شأنٌ وطنى فى المقام الأول. ومما يؤكد ذلك أن الأمم المتحدة غير قادرة على اتخاذ أى قرارات ملزمة للتعامل مع الوباء، بسبب التباين فى المواقف حول اسم الفيروس، والذى أدى إصرار الولايات المتحدة على تسميته فيروس ووهان إلى فشل مجلس الأمن فى إصدار قرار حول التضامن الدولى لمواجهته، وللسبب ذاته فشلت مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى فى إصدار بيان عن اجتماع وزراء خارجيتها الشهر الماضى.

ومن جانبها، أصدرت الجمعية العامة قرارين غير ملزمين أحدهما فى 2 إبريل الجارى.(القرار 270/74) بشأن التضامن العالمى لمكافحة الوباء، بينما صدر الثانى فى 20 إبريل (القرار 274/74) حول التعاون الدولى لضمان النفاذ العالمى للأدوية واللقاحات والمعدات الطبية لمواجهة الوباء.

وهكذا فالمقاربة الواقعية للأزمة تكشف عن حقيقة أنه رغم كونها قضية عالمية، إلا أن حلها يتم وطنياً بالأساس.

فى السياق عاليه، ومع بدء تخفيف التدابير الاحترازية، تقدٍم الصين، وبعض دول آسيا الأخرى، دروساً مستفادة فى هذا الشأن، حيث استطاعت السيطرة على الوباء واحتواءه والانتقال إلى مرحلة البدء التدريجى فى النشاط الاقتصادى.

وهناك عاملان رئيسيان وراء نجاح جهود الصين فى مواجهة الوباء، العامل الأول: ويتمثل فى الاستخدام المبكر لأدوات غير تقليدية لمواجهة تفشى الوباء مستفيدة فى ذلك من تقدمها العلمى المذهل فى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بما فيها استخدام البيانات الضخمة فى الكشف المبكر عن الحالات واستخدام الذكاء الاصطناعى فى التشخيص والمراقبة الشاملة، وتقديم النصائح وفرض النظام، معتمدة فى ذلك على البرمجيات التى تستخدم الذكاء الاصطناعى والروبوتات والطائرات المسيرة.

والحقيقة أن تقدم الصين فى مجال المعلوماتية ونجاحها فى استخدامها فى مكافحة الوباء يظل- فى تقدير محللين كثيرين- مصدر إزعاج كبير للولايات المتحدة التى لا ترغب قيادتها وبعض وسائل إعلامها فى الاعتراف بالنجاح الصينى، خاصةً فى ضوء العدد المتزايد من الأمريكيين المصابين بالمرض والذين قضوا بسببه، وبدلاً من ذلك ثمَة إصرار على أن الصين هى من تسبب فى انتشار الوباء بالتواطؤ مع منظمة الصحة العالمية.

أما العامل الثانى، والذى أراه الأكثر أهمية وراء نجاح الصين، فيتعلق بإدارتها للأزمة وبثقافة الانضباط لدى الشعب الصينى وميله إلى العمل الجماعى. وفى هذا السياق، أشار شهود عيان إلى أن التدابير التى اتخذتها الصين، خاصة فى ووهان، حيث اكتشف الوباء، اتسمت بالشدة والصرامة، وأنه من أجل وقف تفشى الوباء شنت الصين واحدة من كبرى حملات الحشد الجماعية فى التاريخ، مغلقة جميع المدارس والمؤسسات، وأجبرت ملايين الناس على التزام منازلهم، كما أقامت عشرات المستشفيات المؤقتة على وجه السرعة ونشرت الآلاف من الفرق الطبية فى إقليم هوباى حيث تقع مدنية ووهان، وإجراء اختبارات مكثفة وتعقب لأى شخص- أيا كان- قد يكون أصابه الفيروس.

بل إنها نفذت عمليات عزل واسعة وحظر صارم للتجمعات والمزيد من عمليات الحجر الصحى والاختبارات وعزل الناس بأعداد ضخمة فى ملاعب كرة القدم، وقاعات المعارض الكبيرة للإبقاء على عدد الإصابات بالوباء تحت السيطرة حتى لا تجد المستشفيات والفرق الطبية نفسها أمام أعداد لا قبل لها بها.

ووفقاً لتقديرات عديدة، صينية وغربية، جاءت استجابة الصين للجائحة على المستوى الوطنى بأسره، واتسمت بالتلقائية والشمول والتنسيق الوثيق، وهو ما جعلها قادرة على إبطاء معدلات الإصابات إلى مستوى الصفر تقريباً.

ويجب التأكيد فى هذا السياق على الإرث الثقافى الفريد للأمة الصينية والذى ساهم فى مواجهة الجائحة بجهد جماعى موحد، ذلك أنه لا يمكن إنكار حقيقة أنه بحكم التاريخ والجغرافيا هناك تماسك أكبر فى منظومة القيم والأهداف فيما بين الصينيين، بالمقارنة بتلك الموجودة بين الأمريكيين. وفى تقدير بعض الكتاب الأمريكيين، يرجع ذلك أساساً إلى أنه لا يوجد فصل بين ما هو عام وما هو خاص فى الصين. فالأمر يتعلق بمنظومة قيم عقلية تقليدية تعمل فى إطارها كافة الأنشطة الوطنية على نحو متكامل وكفء ومنسق لتحقيق غايات واحدة.

ويضاف إلى ذلك، فى تقدير هؤلاء الكتاب، حقيقة أن الكنفوشيوسية تقر احتراماً للطبقية والسلطة فيما بين الأفراد الصينيين، بينما يتزايد توجه الثقافة الأمريكية نحو تفكيك السلطة لصالح تكريس الفردية. ولا يجادل أحد فى اعتزاز الصينيين بوطنهم وكفاءتهم غير العادية فى العمل واهتمامهم الكبير بالتفاصيل.

أخيراً، تجدر الإشارة إلى أنه كلما تصاعدت اللهجة العدائية الغربية ضد الصين وتحميلها مسؤولية مساوئ ما يحدث فى العالم، وآخرها وباء كورونا المستجد، كلما ازداد الشعب الصينى تمسكاً بقيادته التى، والحال كذلك، تستدعى الشعور القومى لدى المواطنين كخيار لابد منه لمواجهة الخارج المتربص بالصين.

إن هذا الصراع الأيديولوجى والسياسى بين أقوى اقتصادين فى العالم ليس فى صالح المجتمع الدولى الذى يحتاج إلى تعاون القطبين وتوحيد جهودهما لمكافحة الجائحة لصالح البشرية.

نشرت بجريدة المصر اليوم بتاريخ 5 مايو 2020 و رابط دائم :

https://www.almasryalyoum.com/news/details/1974682