زيارة وفد من طلبة كلية الحرب الجوية الأمريكية
مارس 8, 2016ورشة عمل بشأن المصالحة الوطنية الفلسطينية
مارس 9, 2016
باسم المجلس المصري للشئون الخارجية وباسمي شخصيًا، يعز علي أن أشارك في تأبين الراحل الكريم د. بطرس بطرس غالي، وأعبر عن خالص العزاء لقرينته الفاضلةالسيدة/ ليا، ولأسرته الكريمة ولأحبائه وتلاميذه.
برحيل بطرس غالي فقدت مصر علمًا من أعلامها المخلصين، مُربي الأجيال وأستاذ الأساتذة، لقد كان شخصية فذة في مجالات الثقافة والإعلام والدبلوماسية على المستويات الوطنية والإقليمية– عربيًا وإفريقيًا– وكذا الدولية.
لقد كان الفقيد عضوًا في المجلس المصري للشؤون الخارجية منذ عام 2002م، حيث استفاد المجلس من خبرته في محاضرات ولقاءات وفي مؤتمراته السنوية، وكان آخرها الكلمة الافتتاحية في المؤتمر السنوي الدولي للمجلس في يناير لعام 2015م، الذي عُقد بمناسبة مرور خمسة عشر عامًا على إنشاء المجلس تحت شعار “مصر والعالم.. مرحلة جديدة”.
تعرّفت على د. بطرس غالي بعد تخرجي من كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1956م، و تعلمت منه الكثير في مدرسة الحياة، وتوطدت العلاقة بيننا على مر الأيام إلى أن درست الدكتوراه في باريس ومعهد العلوم السياسية في باريس (Institut Saint Guillaume) في بداية ستينيات القرن الماضي، ثم في أكاديمية القانون الدولي في لاهاي.
بطرس غالي كان دبلوماسيًا مخضرمًا، وكان العربي الوحيد الذي تربّع على قمة الأمم المتحدة كأمين عام لمدة خمس سنوات، وكان موقفه الداعم للقضية الفلسطينية و لحقوق اللاجئين الفلسطينيين، بالإضافة إلى نشره “تقرير مذبحة قانا”، وراء اعتراض الولايات المتحدة على حصوله على ولاية ثانية كأمين عام، لقد كان بطرس غالي أمينًا بمعنى الكلمة.
كان بطرس غالي موضع احترام وتقدير جميع من اتصل بهم، وإعجابًا بإسهاماته في مجالي القانون الدولي والعلوم السياسية، ونفس هذا الاحترام والتقدير لمسته من الأساتذة والتلاميذ في معهد الدراسات العليا في جنيف ((L’Institut des Hautes Etudes Internationales، ومن أعضاء لجنة القانون الدولي ومنظمة العمل الدولية ومنظمة اليونسكو.
وقد اتسمت شخصية بطرس غالي بدماثة الخلق والأدب الجم والبساطة والتواضع، حيث كان حسيسًا يراعي شعور الغير وخاصة الفقراء، فقد اشتهر عنه بأنه عندما كان يذهب للتدريس في جامعة القاهرة، أنه كان يقود سيارته الفولكس فاجن الصغيرة بنفسه، رغم أنه كان يمتلك سيارة فارهة، وكان يترك سيارته المتواضعة في شارع جانبي بعيدًا عن بوابة الجامعة لمراعاة شعور الطلبة رقيقي الحال.
وأذكر بعد تعيينه وزيرًا للدولة للشؤون الخارجية ووزيرًا للخارجية بالإنابة في أواخر عام 1977م، أنني استقبلته في الوزارة مع المرحوم السفير/ أسامة الباز، وقد لاحظت أنه كان متفانيًا في أداء الواجب ويعمل ليل نهار، حتى رافق بكل شجاعة الرئيس السادات في زيارته للقدس، ثم تواصلت علاقاتنا في وزارة الخارجية على مر الأيام، وكان في كل مرة يستدعيني لمكتبه لحضور مقابلات أو المشاركة في مباحثات في مبنى الوزارة في التحرير، كان في نهاية كل مقابلة يصطحبني لتوديعي حتى باب مكتبه.
ومن حرصه على تاريخ وذاكرة الدبلوماسية المصرية كان مهتمًا بتسجيل جميع الأحداث والمحادثات واللقاءات، فبادر بالإشراف على كتابة وإصدار الكتب البيضاء التي صدرت عن وزارة الخارجية بدءًا بمعاهدة السلام المصرية– الإسرائيلية، وعندما انتهت مهمتي في بروكسل عام 1982م، طلب مني كتابة كتاب أبيض عن “علاقات مصر بالمجموعة الاقتصادية الأوروبية”، وقد راجع بطرس غالي هذا الكتاب بنفسه.
وقد شاركت في وفد مصر الذي رأسه د. بطرس غالي في مؤتمر قمة فرنسا وأفريقيا في الدار البيضاء عام 1988م تحت رئاسة المرحوم الملك “الحسن الثاني”، و انبهرتُ بعلاقاته الشخصية مع جلالة الملك، والرئيس “ميتران” والعديد من الرؤساء الأفارقة، وهو ما كان دعمًا متواصلاً للدبلوماسية والمبادرات المصرية.
وتحت رئاسة مصر لمنظمة الوحدة الإفريقية عام 1989م، طلب مني د. بطرس قبل عودتي من الرباط أن أكون سفيرًا متجولاً في إفريقيا للمساعدة في تسوية المنازعات الإفريقية من خلال الحوار والوساطة والتوفيق، وهكذا عاونته في فض المنازعات الإفريقية سلميًا وخاصة بين موريتانيا والسنغال، وفيما بين ليبيا وتشاد، وفي القرن الإفريقي، والوساطة بين زائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية) وأنجولا، خلال تلك الفترة كانت صلاته الوثيقة بالقادة الأفارقة ذات الأثر الأكبر في نجاح الدبلوماسية المصرية في تسوية تلك المنازعات بالطرق السلمية، وتعزيز علاقات مصر الثنائية مع مختلف الدول الإفريقية، وكان صاحب المبادرة بإنشاء الصندوق المصري للتعاون الفني في أفريقيا، الذي اندمج فيما بعد في الوكالة المصرية للتنمية في وزارة الخارجية.
وقد اتسمت ولاية د. بطرس غالي كسكرتير عام للأمم المتحدة، بالنشاط الدؤوب والمبادرات ذات التأثير العالمي، وقد بدأها بخطة السلام في يونيو 1992م، ثم خطة التنمية عام 1995م، بعد قرار المد اللانهائي لمعاهدة منع الانتشار النووي الذي صدر في مؤتمر مراجعة تلك المعاهدة في نيويورك في نفس السنة، ومن بين إسهاماته في موضوعات الأمن ونزع السلاح، البيان الذي ألقاه أمام مؤتمر نزع السلاح عام 1995م، والذي طالب فيه بالتفاوض حول معاهدة لنزع السلاح النووي لإنقاذ الجنس البشري من الفناء، وذلك قبل إصدار محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري حول هذا الموضوع في يوليو 1996م، وهو البيان الذي أغضب الدول الحائزة على السلاح النووي وبخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا.
ثم كان الدكتور بطرس كأمين عام للأمم المتحدة المُحرك لعقد المؤتمرات العالمية التي شهدتها تسعينيات القرن العشرين. بدءًا بمؤتمر قمة البيئة والتنمية (قمة الأرض) في “ريو دي جانيرو” عام 1992، والمؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في “فيينا” عام 1993، وقمة السكان والتنمية في القاهرة عام 1994، وقمة التنمية الاجتماعية في “كوبنهاجن” عام 1995، وقمة المرأة والتنمية في “بيجين” عام 1996، ثم قمة المستوطنات البشرية عام 1998، والتي عقدت بعد انتهاء ولايته. كل تلك المؤتمرات ونتائجها كانت من لبنات البناء الذي ارتكز عليه مؤتمر قمة الألفية عام 2000، كما يذكر التاريخ لبطرس غالي إسهاماته المرموقة في إطار “منظمة الفرانكفونية” الدولية، وفي مجال تشجيع وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية على المستويين الوطني والعالمي.
وبعد انتهاء خدمتي في الدبلوماسية المصرية، نصحني بطرس غالي بألا أتوقف عن العمل في أي مجال لخدمة الوطن، طالما ساعدتني صحتي على ذلك، واستمرت علاقتنا الشخصية في التشاور حول إصلاح الأمم المتحدة، وعمليات الرقابة والمساءلة في الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة، وفي إطار صناعة وبناء السلام وعمليات حفظ السلام.
إن بطرس غالي يعتبر بحق قدوة أدعو الشباب عمومًا، وشباب الدبلوماسيين خاصة ممن لم يعرفوه، بأن يقتدوا به، فقد ترك خلقه رصيدًا من التراث الفكري والثقافي والحضاري في مجالات القانون والسياسة والصحافة والإعلام.
باسم المجلس المصري للشئون الخارجية، وباسمي شخصيًا أدعو لفقيدنا العزيز د.بطرس غالي بالمغفرة وأن يسكنه الله فسيح جناته، جزاء ما قام به من خدمات جليلة للإنسانية ولوطننا العزيز مصر، وألهم رفيقة عمره “ليا” وآل بطرس غالي ومحبيه وتلاميذه الصبر.
بتاريخ:9 مارس 2016