زيارة وفد من جمعية الشعب الصينية للسلام ونزع السلاح(CPAPD)
أكتوبر 30, 2019زيارة وفد من معهد الدراسات الشرق أوسطية بالمعاهد الصينية للعلاقات الدولية المعاصرةCICIR
نوفمبر 7, 2019
إحتفلت روسيا على مختلف مستوياتها السياسية والدبلوماسية والبرلمانية بالذكرى التسعين لميلاد يفجيني بريماكوف رئيس الحكومة الروسية الاسبق. احتفالات هذا العام لم تكن عادية، بنفس القدر الذي طالما كان معه بريماكوف إنسانا غير عادٍ، جمع بين خبرات الصحفي المتمرس، والعالم الاكاديمي المرموق، والدبلوماسي رجل المهام الصعبة، ورئيس جهاز المخابرات الخارجية (قبل تقسيم “كي جي بي” الى الامن الداخلي والمخابرات الخارجية) الذي لم يكن يوما من كوادره.
كان بريماكوف فوق كل هذا وذاك، ذلك الانسان الذي سما بنفسه وبكل من إقترب منه، فوق المعتقدات الدينية، والخلافات الاثنية والعرقية، والمعارك والمواجهات الايديولوجية. فهو اليهودي المولد الذي لم يخف يوما رفضه القاطع للتركيز على هذا الجانب من حياته، تاكيداً من جانبه لهويته “السوفيتية”، وتفضيله لأن يكون “أممياً”، محباً بالدرجة الاولي لشعوب الشرق التي تربي بين كنفها في العاصمة الجورجية تبليسي، وحار الكثيرون أمام إندماجه مع معشر الجورجيين والأرمن، وميوله المحبة للعرب وللمصريين على وجه الخصوص في وقت لاحق. وهو “الشيوعي” الذي لم يتنكر يوما لمبادئ حزبه ولسياسات الاتحاد السوفييتي تجاه إسرائيل، ورفضه لاحتلالها للاراضي العربية المحتلة، ولاتفاقيات السلام التي عقدتها مصر مع إسرائيل في كامب ديفيد في نهاية سبعينات القرن الماضي، وإن ألمح يوماً إلى خطأ إعلان موسكو عن قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل في يونيو 1967 إحتجاجاً على غزوها للاراضي العربية آنذاك، فضلاً عن قيامه بعدد من الزيارات السرية لاسرائيل في سبعينات القرن الماضي، التي التقي خلالها مع جولدا مائير رئيسة الحكومة الاسرائيلية.
ولعل المتابع لسيرة الراحل العظيم بريماكوف يقف عاجزا عن إستيعاب ما يظل لغزاً محيراً لكل أصدقائه ومحبيه ومريديه. فالرجل كان بسيطا الى الحد الذي يقف المرء حائرا أمام كيفية بلوغه أعلى ذرى السلطة متجاوزا ما تناثر على الطريق من عقبات وعراقيل. والرجل كان طموحاً، دونما تفريط في مبدأ أو معتقد، حزبيا كان أوسياسيا. وهو أيضا المتمرس الخبير في شئون الدبلوماسية والسياسة، رغم أنه لم يكن يوما من محترفيها أو كوادرها الرسمية، إلا متأخرا، وبعد إقترابه من سن التقاعد. وذلك كله كان بعد سنوات طويلة من العمل في مجال الصحافة والإعلام قبل تحوله إلى دروب العمل الاكاديمي العلمي من خلال رئاسته لأهم المؤسسات العلمية المعروفة بصلاتها الوثيقة بصناعة القرار السياسي، ومنها معهد الاستشراق، ومعهد الإقتصاد العالمي والعلاقات الدولية.
السيرة الذاتية لبريماكوف حافلة بالكثير من التعرجات والمنحنيات التي لم تنل يوما من معتقداته، وما سنًه لنفسه من خطوط كانت أشبه بحد السيف الذي سار عليه في مهارة وإقتدار صوب ما كان يرومه من أهداف، وما إبتغاه من مقاصد تصب كلها في مجرى مصالح الوطن وحلفائه. ويذكر معاصروه، وكنا منهم على مقربة مباشرة إعتبارا من سبعينات القرن الماضي بعد عودته من مهمته في القاهرة كمدير لمكتب “البرافدا” الصحيفة الرسمية الاولى للاتحاد السوفييتي في القاهرة في ستينات القرن الماضي، انه كان قريبا من النسق الاعلي للسلطة في الاتحاد السوفييني دون أن يكون محسوبا على أي من أعضائها. تابعنا مسيرته التي استطاع خلالها وبنجاح منقطع النظير، أن ينسج علاقات متميزة فريدة الانماط مع عدد من أبرز القيادات السياسية والحزبية في منطقة الشرق الاوسط، جمع فيها بين “الأضداد” دون ان ينال ذلك من مكانته وقدره عند أي منها. وذلك ما عاد بالكثير من الاهمية والموضوعية على تقاريره وكتاباته التي نالت في حينها تقدير كل الاوساط الحزبية والرسمية في الداخل والخارج على حد سواء، وبما ساهم لاحقا في تبوأ بريماكوف لأعلى المراكز الأكاديمية والسياسية في الاتحاد السوفييتي السابق.
ونذكر بهذا الصدد انه كان أول مستشرق يقع عليه خيار الحزب الشيوعي السوفييتي ليكون أحد أعضاء مكتبه السياسي في رحلته الاصلاحية مع تولي ميخائيل جورباتشوف لمنصب أمينه العام. وكان أحد من وقع عليهم خيار الزعيم السوفييتي السابق ميخائيل جورباتشوف لمرافقته في مسيرة “الجلاسنوست والبيريسترويكا” في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، والتي إنتهت به رئيسا لمجلس الاتحاد- أحد مجلسي السوفييت الاعلي، قبل إنتقاله الى رئاسة جهاز المخابرات الخارجية “كي جي بي” دون أن يكون يوما أحد كوادره التقليديين. وكانت المفاجاة التي ألجمت الكثيرين آنذاك، أن الرئيس الروسي الاسبق بوريس يلتسين وافق على الابقاء عليه في منصبه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1991، رغم عدائه لغريمه التاريخي ميخائيل جورباتشوف، الذي اتخذ قرار تعيينه في ذلك المنصب. ولعل قرار يلتسين بالابقاء عليه كرئيس لجهاز المخابرات الخارجية يمكن أن يكون من القرارات القلائل التي إتخذها يلتسين، ولقيت تأييدا واسع النطاق في الساحة الداخلية، على ضوء ما نجح بريماكوف في تحقيقه من إنجازات ساهمت في إنقاذ ذلك الجهاز الحساس من مصير مماثل لما أصاب كل أجهزة الدولة من انهيار ودمار، أطاحا بوقار الدولة ومواقعها في الساحتين الاقليمية والدولية. ويذكر المراقبون ان بريماكوف كان أول من إعتمد العلم وأحدث إنجازات العصر، سبيلا إلى تطوير هذا الجهاز الامني، وجعل منه مؤسسة مستقلة بعيدة عن أنواء الصراعات السياسية التي كانت عصفت بالكثير من وقار الدولة وهيبتها.
ولم يمض من الزمن سوى القليل حتى عاد يلتسين وأعلن في يناير 1996 عن مسيس الحاجة الى مآثر بريماكوف، ليتخذ قراره بتعيينه وزيراً للخارجية الروسية، التي أيضا لم يكن يوما من كوادرها الاصلية. ورغما عن لك فقد شق طريقه صوب هدفه الاسمى، وهو “إنتشال” الوطن من البركة الآسنة التي أودت اليها سياسات سلفه في المنصب، أندريه كوزيريف الذي حمل عن جدارة كنية “مستر دا”، أي “السيد نعم” في كناية عن موافقته الدائمة على كل ما كان يشير به الغرب علي روسيا وقيادتها السياسية من تنازلات وتفريط في الحقوق والمصالح الوطنية. وكان كوزيريف جاء إلى منصبه بتوصية شخصية من الرئيس الامريكي جورج بوش الاب قبل بها يلتسين دون تفكير أو رَوِيًة. وذلك على النقيض من عميد الدبلوماسية العالمية الاسبق أندريه جروميكو (وزير خارجية الاتحاد السوفييتي 1957-1985) الذي طالما عرفه العالم تحت اسم “السيد نيت” ( السيد لا) لإعتراضه الدائم على كل أطروحات البلدان الامبريالية والاستعمارية في ذلك الزمان. ويذكر المراقبون ما استهل به بريماكوف نشاطه على صعيد السياسة الخارجية، ومنه ما يعرفه العالم اليوم تحت اسم “مذهب بريماكوف” الذي تبناه لاحقا الرئيس فلاديمير بوتين وانتهجه نبراساً لبلاده منذ إعتلي سدة الحكم في الكرملين في مطلع القرن الجاري. ذلك هو “المذهب” الذي يقول برفض عالم القطب الواحد والتحول شرقا صوب إقامة العالم متعدد الاقطاب، وإختيار مثلث “روسيا والصين والهند”، الذي صار لاحقا أساسا لقيام منظومة “بريكس” التي تضم اليوم إلى جانب البلدان الثلاثة، كلا من البرازيل وجنوب أفريقيا، وعددا من البلدان التي إنضمت في وقت لاحق بوصفها “عضو مراقب”.
وتمضى الايام ليعلن الوطن بإجماع مختلف فصائله السياسية المتناحرة عن حاجته إلى بريماكوف، بعد ان تكالبت عليه كل مصائب الاقتصاد العالمي، وأغرقته في لجًة الازمة المالية الخانقة في عام 1998. ويذعن يلتسين آنذاك إلى صوت الملايين من أبناء روسيا وممثليها في مجلس الدوما، ويتخلي عن إصراره على التمسك بفيكتور تشيرنوميردين رئيسا للحكومة، مفسحاً المجال أمام ترشيح كل الفرقاء في مجلس الدوما ليفجيني بريماكوف، ليترأس أول حكومة ائتلافية في تاريخ الدولة الروسية في سبتمبر 1998، كان للشيوعيين فيها نصيب الاسد، وهو ما إستكان له يلتسين ورفاقه عن غير طيب خاطر. وفي أشهر معدودات استطاع بريماكوف النهوض بإقتصاد الوطن، وساهم الى حد كبير في تخفيض نسبة التضخم، وحل مشكلة البطالة، وصار المواطن يتسلم مرتبه في نهاية كل شهر، بعد ان فشلت الحكومات السابقة في توفير ذلك لسنوات طوال. وذلك ما أثار الفزع في نفوس خصوم بريماكوف من ممثلي الاوليجاركيا اليهودية الروسية ممن كانوا يعيثون فسادا في روسيا لسنوات طوال، تحت ستار ما كان يسمى بتحالف “العائلة”، نسبة الى عائلة بوريس يلتسين وتحت رعاية ابنته تاتيانا وزوجها الجديد يوماشيف الذي إختاره الرئيس الروسي الاسبق رئيسا لديوان الكرملين، ولم يكن أكثر من صحفي مغمور إختاره في غفلة من الزمن لتسجيل سيرة حياته المليئة بمغامرات “مفبركة” في الكثير من جوانبها. وما أن استقرت أوضاع الوطن، وشعر الكثيرون من أبنائه بقرب انتهاء “الغمًة” وظهور بوادر الامل في مستقبل مغاير لذلك الذي كاد يحدق بهم، حتى حلًت الساعة التي استدعي فيها يلتسين رئيس حكومته بريماكوف ليعلنه بضرورة تقديم استقالته. ولم يكن ذلك سوى تعبيرا عن مخاوفه من تصاعد شعبيته قبيل الانتخابات الرئاسية المرتقبة والتي كانت الشواهد تقول باحتمالات ترشحه فيها، متكئاً على ما حققه من إنجازات كانت تؤهله لتولي منصب “المنقذ المخلص”. وهنا رفض بريماكوف عرض الرئيس بالاستقالة. قال ان الرئيس بحكم ما يملك من صلاحيات يملك حق إقالة الحكومة وهو ما طالبه به بريماكوف بكل إِبَاء وشَمَمِ أبناء الشرق، ولم يكن مضى على رئاسته للحكومة اكثر من ثمانية اشهر ونصف الشهر نجح خلالها في لملمة “أطراف الثوب الروسي” وإنقاذ بلاده من ضياع مُحدَق.
وما أن ترك بريماكوف موقعه كرئيس للحكومة، حتى تعالت الاصوات إجماعاً على ضرورة ترشيحه رئيسا للدولة في الانتخابات المرتقبة في عام 2000، وهو ما كان يخشاه يلتسين ويتحسب لتبعاته. وما كاد بريماكوف يفصح عن موافقة ضمنية على قبول خوض معركة الرئاسة، حتى سارع يلتسين بالدفع بآخر أوراقه. قَبِلَ يلتسين بخيار تعيين فلاديمير بوتين رئيسا للحكومة الروسية في أغسطس1999 ، تمهيدا للدفع به الى سدًة الحكم في الكرملين خلفا له في منصبه، في حال أثبت ولاءه وقدراته، وشريطة الحصول على أكبر قدر كاف من الضمانات له ولاسرته، وهو ما لم يضن به بوتين في حينه. وهنا تحول بريماكوف صوب الحكمة والرأي الثاقب. سارع حكيم روسيا إلى الإعلان عن تخليه عن فكرة ترشحه للرئاسة، مؤكدا كامل تأييده لترشيح بوتين لرئاسة الدولة، يقينا من جانبه بأن بوتين سوف يكون الاقدر على إدارة دفة السفينة في مثل ذلك البحر الهادر، وذلك ما لقي قبولا وارتياحا من جانب كل من كان يتحين الفرصة لبدء مسيرة إعادة بناء الدولة والتحول نحو ما تحول إليه بوتين مع نهاية ولايته الاولي، صوب تحقيق ما كان ينادي به بريماكوف وما ظل أساسا لتقارب طويل الامد في مسيرة هاتين الشخصيتين التاريخيتين.