الدور الروسي في الشرق الأوسط مرونة التحرك على وقع تناقضات الأوضاع في المنطقة
March 9, 2020لقاء مع السفير المجري بالقاهرة
March 11, 2020
تأسست المحكمة الجنائية الدولية عام 2002 ، بموجب ميثاق روما الاساسى الذى تم إعتماده فى يوليو عام 1998 . وقد ورد بالميثاق أن الحصانات لا تحول دون ممارسة المحكمة الدولية لإختصاصاتها ، وأنه لا حصانة لرؤساء الدول فى القانون الدولى العرفى أمام المحكمة . وبموجب قرار مجلس الامن الدولى رقم 1593 بتاريخ 2005 ، وفى إطار الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ، تم طلب إحالة الرئيس عمر البشير وأربعة من كبار المسئولين السودانيين ـ إبان فترة حكمه ـ إلى المحكمة الجنائية الدولية (وهم بجانب البشير / وزير الدفاع عبد الرحيم حسين / والى جنوب كردفان أحمد هارون / وعلى كوشيب / وعبدالله باندا ) . وقد إشتملت قائمة الاتهامات على إرتكاب جرائم حرب ، وجرائم ضد الانسانية فى غرب السودان ( دارفور ) فى الفترة من 2003 ـ 2005 ، تحددت بالقتل العمد ، الابادة الجماعية ، القتل القسرى ، التعذيب ، الإغتصاب ، ( وأشير الى أن جرائم الابادة الجماعية قد إرتكبت بحق جماعات عرقية هى الفور والمساليت والزغاوة ) ، فضلا عن جرائم الهجوم على السكان المدنيين والنهب . وقد تم التأكيد على أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم ، الأمر الذى إستوجب تواصل ملاحقتهم دوليا أينما ذهبوا ، وهو ما حدث بالفعل. هذا على الرغم من تبنى دول ومنظمات إقليمية مواقف تتأسس على رؤية بأن المحكمة مسيسه ، وتنتهج سياسة إزدواجية المعايير ، مستهدفة الدول الافريقية خاصة والنامية عامة ، ، بل وتجاهلت المحكمة ما إذا كان المتهم من دولة وافقت وصدقت على نظام روما الاساسى من عدمة .
واقع الامر أن قرار مجلس الأمن تأسس ـ إبان فترة حكم البشيروحتى قيام الثورة السودانية ـ على أن تلك القضايا تظل مقبوله ومنظورة أمام المحكمة الجنائية الدولية ، من منطلق أن السودان ، “غيـــر راغــــب / وغيـــر قــــادر” ، على إجراء تحقيق حقيقى بحق المشتبه بهم فى دارفور، ومحاكمتهم على الجرائم المزعومة ، والواردة فى أوامر ” الإعتقال أو القبض ” عليهم ، الخاصة بهم ( سواء للتحقيق أو المقاضاة ).
فى هذا السياق وعقب نجاح الثورة السودانية السلمية الشاملة ، وسقوط نظام البشير ،جددت المحكمة الجنائية الدولية فى ديسمبر 2019 على لسان المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا ، دعوتها للحكومة السودانية ، لضمان تقديم المتهمين الخمسة الذين تلاحقهم المحكمة بتهم إرتكاب جرائم حرب بدون تأخير ، أمام محكمة فى السودان أو فى لاهاى حيث مقر المحكمة ( بالعاصمة الهولندية ) ، ليثار فى هذا الصدد مبدأ قانونيا هاما يتصل بتنازع القوانين من حيث الزمان المكان ، وما قد يفرزه من تداعيات . فلقد أضحت محاكمة البشير ومقاضاته أمام محكمة جنائية وطنية ( سودانية ) أو دولية ، لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية ” مطلبــا شعبيــا ورسميـــا ” “وليس فقط دوليا “ ، إذ تأكدت “رغبــــــة ” شعب السودان وقيادته السياسية الجديدة ” بشكل صريح ومعلن فى إجراء المحاكمة الجنائية على تلك الجرائم ، وبقيت طبقا لقرار مجلس الامن مسألة ” قــــــــدرة الســـودان ” على إجرائها بالسودان ، موضع تساؤل ، فى ظل القوانين السودانية المعمول بها حاليا ، ومدى إمكانية تحقيق عدالة ناجزة ، فى مرحلة لم يزل النظام القديم لحكم الانقاذ ” مسيطرا ومتمكنا “، من مفاصل الدولة ،ـ ومنها الجهاز القضائى ـ لحد ما ، رغم ما تم إنجازه من عمليات تفكيك لأجهزة ومؤسسات النظام القديم ، وكذا تطهير رموزه وعناصره من العديد من مؤسسات الدولة وأجهزتها الأخرى .
غنى عن البيان ، أن سلطة تقرير محاكمة البشيرعلى ما قد يكون إرتكبه من جرائم جنائية ، سواء كانت فساد ( إقتصادى ) / أو سياسية / أو جرائم حرب ، وضد الانسانية / فى يد الشعب السودانى بالدرجة الاولى ، وهو أمر تقرر بالفعل شعبيا ورسميا ، ولكن تظل قضيتى مكان المحاكمة ( السودان أو لاهاى ) ، وامام أى محكمة ( محكمة جنائية وطنية ، أو المحكمة الجنائية الدولية )، موضع خلاف ونقاش وجدل حيث ظهر تياران : ـ
الاول ، يرى وجوب إجراء المحاكمة بالسودان ، وأمام محكمة وطنية ، مع التأكيد على نزاهة القضاء السودانى فى ظل نظام الحكم الجديد ، الذى سيحرص على أن تتم عملية التقاضى بشفافية ، تتحقق معها العدالة الناجزة ، وبقضاة مستقلين وطبقا للقوانين السودانية المعنية بتلك الجرائم ، والتى إن إحتاجت بعض التعديلات فيمكن إدخالها عليها . ويدفع أصحاب هذا الرأى بان محاكمة رئيس السودان خارج البلاد ينطوى على إساءة لدولة السودان من حيث السمعة والصورة ، وللقضاء السودانى من حيث التقليل من القدرة والنزاهة .
الثانى ، يرى وجوب إجراء المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية ، لضمان النزاهة والشفافية وتأمين تحقيق العدالة ، بدعوى أن مؤسسة القضاء كغيرها من مؤسسات الدولة السودانية ، لم يزل نظام حكم الانقاذ أى حكم البشير متمكنا منها ولو نسبيا ، فضلا عن أى عملية التقاضى ستخضع للأحكام الخاصة بالقوانين المعمول بها فى السودان ، والتى قد يشوبها عوار حيث وضعت فى عهد البشير .
ويثير البعض فى معرض النقاش والجدل أن القوانين السودانية تأخذ بمبدأ القبول بالدية ، مما يتيح للمتهم فرصة الافلات من عقوبة الاعدام ، أو السجن مدى الحياة ، او أى عقوبة مغلظة يتمسك بهم أبناء دارفور وقيادات الحركات المسلحة بها بصفة خاصة . مثلما يثير البعض على الجانب الآخر أن عقوبة الإعدام ، وإن كانت واردة فى القوانين السودانية إلا أنها غير واردة فى القوانين المعمول بها فى المحكمة الجنائية الدولية ، وهو ما يعنى فى تقديرهم أن العقوبات الاخرى مهما بلغت لن تتناسب مع حجم وطبيعة الجرائم التى إرتكبت ( وقد يؤخذ فى الإعتبار فى معرض النقاش ان القوانين التى تتضمن حكم الإعدام لا تطبق على من تجاوز السبعين عاما ومنها حالة البشير ) .
مجمل القول وعلى الأرجح ، قد ينتهى الامر ،فى إتساق مع مبدأ العدالة ـ أحد الشعارات الثلاثة للثورة السودانية المجيدة ـ ، إلى إجراء المحاكمة فى السودان أمام محكمة جنائية سودانية وبقوانين سودانية معدلة تتسق والقوانين المعمول بها فى المحكمة الجنائية الدولية ، على أن تكون جلساتها علنية ، وربما بأفضلية مشاركة قضاة من المحكمة الجنائية الدولية ، ولتتم المحاكمة فى ” إتصال واتساق ” مع التوجه نحو وجوب إنفاذ قرار مجلس الامن ، سواء بامكانية حضورهم كمراقبين ، أو بإمكانية النظر فى أن يكونوا من بين هيئة المحكمة السودانية لإضفاء الصبغة الدولية على المحاكمة والتأكيد على نزاهتها .
سفير / د صلاح حليمه
نائب رئيس المجلس المصرى للشئون الأفريقية
-
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهات نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رؤية المجلس المصري للشئون الخارجية