تخلص النظرة الاستراتيجية لما تشهده منطقة الشرق الاوسط من تطورات إلى أن دولا بالمنطقة من بينها مصر تتعرض لمخاطر عدة ، وتواجه تحديات جسام ، ممنهجة ومستحدثة من قوى إقليمية طامعة ، تسعى للسيطرة والهيمنه تهدد الامن القومى لتلك الدول ، بما يستوجب التصدى لكل منها بكافة الوسائل والطرق.
من بين أخطر هذه التحديات ، موقف أثيوبيا وتوجهاتها بصدد بناء سد النهضة الاثيوبى وملئه وتشغيله برؤية أحادية مغلوطه بأن نهرالنيل الازرق داخلى بينما هو نهر دولى يخضع للقانون الدولى ، و بناءا على تلك الرؤية تمارس عليه حق السيادة المطلقة ، بينما واقع الامر أن حق السيادة مقيدا بحق السيادة للآخرين وبالعضوية فى المجتمع الدولى ومنظماته الاقليمية والدولية والاتفاقات والمعاهدات الثنائية والمتعددة الاطراف .
لقد بعثت مصر يوم 19 يونيو 2020 بخطاب ثان إلى مجلس الامن الدولى ، بمرجعية الفصل السادس لميثاق الأمم المتحدة الذى يتناول “ حل المنازعات سلميا “ . وهو فصل يتضمن ست مواد محورها من الناحية الاجرائية ، قيام المجلس ( المادة 34 ) ” بفحـــص “أى نزاع للتعرف على ما إذا كان يعرض حفظ الامن والسلم الدوليين للخطر ، وقيام دولة عضو( المادة 35 ) ” بتنبيـــــه ” مجلس الأمن إلى أى نزاع أو موقف من شأنه أن يعرض السلم والامن الدوليين للخظر ، وهى المادة التى وردت الاشارة اليها صراحة فى خطاب مصر لمجلس الامن .أما من الناحية الموضوعية فإن المجلس ( المادة 36 ) قـــد “يوصى “ بما يراه ملائما من إجراءات وطرق التسوية آخذا فى الاعتبار ما تم إتخاذه من مبادرات سابقة ، كما أن المجلس ( المادة 37 ) فى حالة الاخفاق بين المتنازعين ” يوصى ” بما يراه ملائما من شروط لحل النزاع .
الهدف الرئيسى من هذا الخطاب دعوة مجلس الامن الى ” التدخل فى اطار الفصل السادس ” على نحو يؤكد من خلاله على أهمية تواصل مسار ” المفاوضات “بين الدول الثلاث حول سد النهضة الاثيوبى فى الاطار السياسى والدبلوماسى مع الالتزام بقواعد القانون الدولى للتوصل لحل عادل ومتوازن لقضية السد . كما ان مصر من خلال الخطاب “تنبـــــه إلى خطر يهدد الامن والسلم الدوليين “. يتمثل هذا الخطر فى استمرار اثيوبيا فى اجترار المواقف الاحادية ، مع وأد اى حلول تراعى مصالح الدول الثلاثـة “والتهرب من التوقيع على ” أى إتفاق يؤمن حقوق كل طرف ويحدد الالتزامات الواجبة عليه . واقع الامر أن الجهود التى بذلت على مدى ما يقرب من عقد يمكن إختزالها فى مباحثات على مستوى رؤساء الدول الثلاث ، والزيارات الثنائية لرؤساء الدول ، والاجتماعات على المستوى الوزارى الثلاثى ، بجانب المفاوضات التساعية والثلاثية المضنية طوال تلك الفتره ،والتى توجت بمسار واشنطن على المستوى الوزارى برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولى بإتفاق يراعى مصالح الدول الثلاثة ، وبمسار دعي اليه السودان مؤخرا شهد جهودا مقدرة تمثل إضافة أيجابية لوثيقة مسار واشنطن .
لقد عززت مصر خطابها المرسل الى مجلس الامن بخطاب إلى رئيس المجلس الحالى وهو فرنسا ، مرفقا به أكثر من ملحق كوثائق تؤكد انتهاك أثيوبيا بمواقفها للقانون الدولى ولاعلان إتفاق المبادئ 2015 وبرفضها لوثيقة مسار واشنطن وبتجاهل ما إنتهت اليه جهود السودان عبر المفاوضات الثلاثية فى حضور الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبى وجنوب أفريقيا ( الرئيس الحالى للاتحاد الافريقيى ) وتغييب البنك الدولى بناءا على رغبة أثيوبيا ! ، وهم شهود على الموقف الاثيوبى . كما سبق أن رفضت أثيوبيا من قبل تقارير المكاتب الاستشارية التى تم إختيار بالتوافق بين الدول الثلاثة .
لقد تضمن مسار واشنطن اتفاقا ـ أعدت صياغته من الناحيتين القانونية والفنية كل من الولايات المتحده والبنك الدولى ـ ، لقواعد ملء وتشغيل السد تتخذ من التدفقات المائية أساسا ومنطلقا وليس عدد سنوات الملء، وإنشاء آلية للملء لمجابهة حالات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة ، وآلية ثانية للتشغيل فى ذات الحالات المشار اليها فى آلية الملء ، وآلية ثالثة للتنسيق بين الدول الثلاث ، ورابعة لفض المنازعات حفاظا على المصالح المائية وضمانا لعدم الاضرار الجسيم .ويعد الاتفاق فى مجمله ـ طبقا للرأى الامريكى والبنك الدولى إتفاق شامل وعادل ومتوازن يحقق المصالح المشتركة للدول الثلاثة .وقد أكد وزير الخزانه الامريكى على ضرورة الالتزام بمبدأ عدم التسبب فى ضرر جسيم لدول المصب ولا ينبغى ملء السد دون إتفاق بين الاطراف الثلاثة ، مع الاخذ فى الاعتبار قلق شعبى مصر والسودان بسبب المخاطر التى ترتبط ببدء التشغيل دون توافر شروط ومعدلات الامان الملائمة ، والحاجة إلى تنفيذ تدابير السلامة اللازمة للسدود طبقا للمعايير الدولية قبل بدء الملء .واضاف الوزير ان الاتفاق تم اعداده بناءا على المعطيات المقدمة من الفرق القانونية والفنية فى مصر وأثيوبيا والسودان ومساهمة من البنك الدولى .
يتواكب مع هذه التطورات ويتسق معها إحياء ما أثير من قبل ، من خلال مراكز أبحاث وخبراء دوليين بترجيح انهيار السد بعملية الملء ، نتيجة وجود كهوف أو فوالق فى منطقة السد خاصة وأنها منطقة زلازل ، وأن عملية بناء السد لم تأخذ حتى الآن بمعايير السلامة والامان الدولية فى الاعتبار (وهو الامر الذى سبق أن أشار إليه مسار واشنطن ).
فى التقدير ، فان مصر وقد تقدمت ” بخطاب تنبيهى شارح ” لنزاع يعرض حفظ السلم والامن الدوليين للخطر، مدعوما بوثائق ومستندات قانونية وفنية وشهود عيان علي عمليات التفاوض ونتائجها ، وموقف الطرف الاثيوبى من النزاع ،فمن المنتظر أن يقوم المجلس بفحص النزاع ، وقد يعقد جلسة طارئة لتداول النزاع بحضور الدول الثلاث وتصدر توصية تتسق والمادتين 36 ، 37 ، تتضمن على الارجح اجراءات وطرق لتسوية النزاع ، وربما شروطا لحل النزاع فى إطار الفصل السادس . ومن المتصور أن المجلس سيضع فى الاعتبار عند صدور التوصية ، ما إنتهى اليه مسار واشنطن وجهود السودان المشار اليها ،كأساس لسرعة إستئناف وإستكمال المفاوضات بحسن نوايا ، وتجنب البدء فى عملية ملء السد قبل التوصل إلى اتفاق ثلاثى شامل وعادل ومتوازن يتسق وأحكام القانون الدولى ، وإعلان المبادئ خاصة فى مادته الخامسة التى تؤكد على التوصل لاتفاق ثلاثى يراعى المصالح المشتركة قبل بدء عملية الملء ، والمادة العاشرة التى تحدد اليات فض النزاعات بالطرق السلمية ـ المشاورات / المفاوضات / التوفيق / الوساطة / …..فضلا عن آلية اجتماع رؤساء الدول الثلاث .
[1] الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهات نظر الكاتب ولأتعكس بالضرورة رؤية المجلس المصري للشئون الخارجية.