التعاون مع معهد الدراسات الدبلوماسية
يوليو 28, 2020ندوة حول “العرب والأكراد في مواجهة الأطماع التركية”
أغسطس 12, 2020
-
موسكو تكشف عن التفاصيل، وتنظر الافراج عن محتجزيها
موسكو – د. سامي عمارة
بعد صمت طال لما يزيد عن الأسبوعين أماطت موسكو اللثام عن بعض تفاصيل “المؤامرة” التي استهدفت الوقيعة بين روسيا وبيلاروس. كسر الرئيس فلاديمير بوتين فترة القطيعة مع نظيره البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، بمكالمة هاتفية اعقبتها رسالة خطية من بوتين الى لوكاشينكو في خمس صفحات، في الوقت الذي كشفت فيه المصادر الروسية عن الكثير من أسرار تلك “الوقيعة” التي دبرتها أجهزة المخابرات الأوكرانية، وسقطت في شباكها كل من موسكو ومينسك.
جرى كل ذلك بعد حملة شديدة الوطأة شنها لوكاشينكو ضد روسيا التي اتهمها بالتآمر على استقرار بلاده قبيل الانتخابات الرئاسية، ليعود ويحاول خطب ود نظيره الروسي في حديث صحفي حاولت أوكرانيا استغلاله لصب المزيد من الزيت في أتون نيران الخلاف الذي اشتعل بين الجانبين. وكان الرئيس لوكاشينكو كشف في خطابه الانتخابي الذي ألقاه في الرابع من أغسطس الجاري عما وصفه بالمؤامرة التي استهدفت الإطاحة باستقرار بلاده. اتهم رئيس بيلاروس روسيا صراحة بإرسالها إلى بلاده 33 من أعضاء مجموعة “فاجنر” للحراسات الخاصة، لتنفيذ هذا المخطط. وفيما كشف عن ان أوكرانيا أبلغت أجهزته الأمنية بتسلل هذه العناصر عبر الحدود المتاخمة لروسيا وأوكرانيا، وعن ان المعتقلين من مجموعة “فاجنر” أدلوا باعترافاتهم حول مهمتهم في بيلاروس، اتهم لوكاشينكو روسيا بتحويل علاقاتها مع بلاده من “علاقات الاشقاء” الى “علاقات الشركاء”. وأضاف ان هؤلاء “المرتزقة” وصلوا الى بيلاروس في مهمة تستهدف زعزعة استقرار بلاده قبيل الانتخابات الرئاسية، في الوقت الذي قالت فيه المصادر الروسية انهم كانوا في طريقهم الى امريكا اللاتينية، لتعود وتقول انهم لم يكونوا يقصدون فنزويلا. وحمل لوكاشينكو على روسيا بقوله: “إن كل ما يقولونه بشأن إستانبول وفنزويلا وأفريقيا وليبيا، مجرد أكاذيب. كفوا عن الكذب. لقد أدلوا باعترافاتهم. لقد كانوا يقصدون بيلاروس”، لكن أحدا لم يطلع بعد على هذه الاعترافات. ومضى ليكشف عن ان أجهزة الامن الأوكرانية أبلغت بيلاروس أيضا بإرسال روسيا لمجموعة أخرى، دون أن يند عن السلطات الروسية ما يمكن ان يكون تفسيرا منطقياً لما حدث، في الوقت الذي تضاربت فيه التصريحات الرسمية، وإن تضمنت عمليا اعترافاً بان المعتقلين من أعضاء مجموعة “فاجنر”، وانهم كانوا في طريقهم الى إستانبول ومنها الى فنزويلا للقيام بمهام حراسة المنشآت النفطية الروسية هناك، رغم ان موسكو اكدت فيما بعد عدم صحة كل هذه المعلومات.
وفي محاولة لاستيعاب الصدمة، أعلنت أجهزة الاعلام الروسية الرسمية “حالة الطوارئ”، وتحولت الى ما هو أقرب الى “ورش العمل”، بحثا عما وراء هذه الحملة المعادية التي كانت تبدو على يقين من أن أوكرانيا تقف منها على مقربة مباشرة. وفيما التزم الكرملين الصمت، سارعت ماريا زاخاروفا الناطقة الرسمية باسم الخارجية الروسية إلى وصف ما يجرى في بيلاروس بـ”المسرحية”، في توقيت مواكب لبدء حملة كاملة العدد لعبت فيها البرامج الحوارية ” شبه الرسمية” الدور المحوري من خلال تقليب صفحات الماضي بما تضمنته من غزل لوكاشينكو مع الدوائر الغربية، فيما استعادت بعضا من مشاهد لقائه ووزير خارجيته فلاديمير ماكيي مع مارك بومبيو وزير الخارجية الامريكية الذي كان قام بزيارة مينسك في فبراير الماضي لأول مرة منذ عشرين عاما. آنذاك كشف لوكاشينكو عن رغبة بلاده في توطيد مختلف اشكال التعاون مع الولايات المتحدة، وانه يأمل في مساعدة الولايات المتحدة لتوفير الظروف المناسبة لبيلاروس لتحقيق “السيادة” والاستقلال”. ورغم حدة لهجة خطاب لوكاشينكو وتوجيهه للعديد من الاتهامات التي اقترنت بقدر من الغزل مع البلدان الغربية تحت ستار تمسكه بنهج تنويع علاقات بلاده وسياساته وتأكيده لانفتاحها على كل الأبواب شرقا وغربا، فقد أعرب لوكاشينكو عن حرص بلاده على علاقاتها مع روسيا، بغض النظر عن احتمالات تغير قيادات البلدين، على حد تعبيره. وعاد ليقول “أنه سيتم بذل كل جهد ممكن لضمان ألا تؤثر الاختلافات في السياسة الخارجية، على صداقة الشعوب الراغبة في العيش في حسن جوار على هذه الأرض في قلب أوروبا”، مشيرا الى “أن روسيا كانت وستبقي على الدوام الحليف الاول لبلاده في ظل أية قيادة في البلدين”. وأضاف انه بعد الاستماع إلى تقرير رئيس مخابرات بلاده يؤكد ” لن نبني السياسة على الأكاذيب. لن نحل المشكلة بالصراخ على بعضنا البعض عبر وسائل الإعلام. لذلك إذا كان لدى أي جهة روسية الرغبة في تلقي معلومات إضافية، نحن منفتحون دائما. نحن لا نخفي أي شيء، لكننا نريد معرفة الحقيقة”. ولم يكن ذلك سوى محاولة من جانب لوكاشينكو للحد من درجة التوتر، وتحسبا لرد فعل الرئيس بوتين الذي التزم الصمت طوال فترة احتدام الازمة. وكانت الخارجية الروسية اكتفت أيضاً بما أعلنته ماريا زاخاروفا الناطقة الرسمية باسم الوزارة حول ان موسكو لن تسمح بأن يتعرض أي من مواطنيها المعتقلين لدى بيلاروس للإساءة، في تحذير واضح من مغبة أي خطوة تجاه تسليم أي من مواطنيها الى أوكرانيا. وأضافت على صفحتها في مواقع التواصل الاجتماعي “أن لوكاشينكو “سياسي مخضرم، ليست هذه هي المرة الأولى التي يجري فيها انتخابات، وأنه محق في أن العلاقات الأخوية بين شعبي البلدين لا تخضع لمصالح مؤقتة انتهازية، بما في ذلك المصالح الانتخابية”. وشددت زاخاروفا على أن العلاقات بين موسكو ومينسك قائمة على “أساس متين من أواصر القربى التاريخية والتفاعل البرجماتية في الحاضر”.
على ان ذلك كله لم يَحُلْ دون احتدام الازمة، في توقيت دفعت فيه أوكرانيا بكتائبها الإعلامية وفي المقدمة منها دميتري جوردون الصحفي الاوكراني المعروف بعلاقاته الوثيقة مع الأجهزة الأمنية الأوكرانية والغربية، والذي حاول جاهدا دفع لوكاشينكو الى الانزلاق صوب تشويه سياسات روسيا والكشف عن سلبياتها. ونجح جوردون في توريط لوكاشينكو باعترافات تحمل طابع العداء لروسيا، بعد ان كانت الولايات المتحدة حققت بعض التقارب مع بيلاروس لاستمالتها بعيدا عن الفلك الروسي، وهو ما كانت موسكو حذرت منه في حينه. وكشف لوكاشينكو عن محاولات مماثلة بذلها خافيير سولانا الأمين العام الاسبق للحلف الناتو حين فاتح لوكاشينكو في عدم اعتراف بيلاروس باستقلال أوسيتيا الجنوبية في اعقاب الحرب الذي اشتعلت بين روسيا وجورجيا في أغسطس 2008، خشية اندفاع بقية بلدان الكومنولث لتحذو حذو بيلاروس. وهكذا تواصلت اللقاءات والمماحكات التي كانت وتيرتها تتزايد في اتجاه التقارب مع الغرب، كلما تشددت روسيا في علاقاتها الاقتصادية مع بيلاروس. وفي هذا الصدد نقل جوردون عن لوكاشينكو تصريحه حول أنه وذات يوم أغرق في انتقاد روسيا، ليفاجئ بدعوة بوتين إليه في سوتشي ليعلنه وبعد حوار دام لست ساعات بقراره حول تقديم مختلف المساعدات لبيلاروس فضلا عن تلبية كل احتياجاتها من الطاقة بأسعار مخفضة.
ومن هذا المنظور تصاعدت الأحداث وتطورت، على وقع تصاعد الحملات الإعلامية التي انضمت اليها الأجهزة الأمنية والقيادة السياسية في أوكرانيا، بمشاركة مباشرة من الرئيس فلاديمير زيلينسكي الذي خاطب لوكاشينكو غير مرة من أجل تسليم 28 من المحتجزين الروس لدى بيلاروس بتهمة مشاركتهم في الحرب في جنوب شرق أوكرانيا. ولم يمض من الزمن الكثير حتى كشفت “كومسومولسكايا برافدا” الصحيفة الروسية الاوسع انتشاراً، وبمساعدة مباشرة في أغلب الظن من أجهزة روسية بعينها، عن الكثير من مفردات مخطط الأجهزة الأمنية الأوكرانية.
وكانت موسكو خرجت عن صمتها، لتعترف على لسان دميتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين حول أن “الموقوفين” في بيلاروس موظفون في شركة أمنية خاصة، وتأخروا عن طائرتهم في مينسك وكانوا ينتظرون المغادرة، و”لديهم تذاكر سفر إلى اسطنبول”. كما اعترف دميتري ميزينتسيف سفير موسكو في بيلاروس بان المعتقلين الروس من أعضاء مجموعة “فاجنر” للحراسات الخاصة التي تتولي حماية وتأمين المؤسسات النفطية والاقتصادية الروسية في الخارج. وقال انه كان من المقرر أن يغادروا مينسك في 25 يوليو الماضي الى تركيا ومنها إلى بلد ثالث. وبدا واضحا ان هناك من الحلقات ما تجهله موسكو في تلك اللحظة، وأنها تعكف على دراسة الموقف والبحث عن الحلقات المفقودة لاستيضاح بقية جوانب الصورة، وحتى خلصت في نهاية المطاف الى ما كشفت عنه “كومسومولسكايا برافدا” حول ان جهاز الامن الاوكراني دبًر مكيدة “تجنيد” عدد من أعضاء مجموعة “فاجنر” المسلحة للحراسات الخاصة. لكنها لم تكشف صراحة عن ان ذلك جرى عن طريق اختراق “فاجنر”، من خلال إغراءات المال والعلاقات الشخصية ببعض قيادات هذه المجموعة، لدعوة أكبر عدد منهم ممن كانوا شاركوا في المعارك في جنوب شرق أوكرانيا الى جانب مواطني منطقة الدونباس التي أعلنت الانفصال عن أوكرانيا منذ عام 2014، الى السفر الى بيلاروس في طريقهم الى بلد ثالث قد تكون فنزويلا او ليبيا. لكنها كشفت عن دور وسطاء زعموا انهم يمثلون شركة “روس نفط” الروسية، في تحرير عقود “وهمية” واستخراج تذاكر سفر من مينسك الى إستانبول، لإضفاء المزيد من المصداقية على “حقيقة المهمة”. وقالت انه ما أن وصل أعضاء مجموعة فاجنر الى مينسك، حتى أعلنوهم انهم سوف يقضون بعض الوقت في مينسك، انتظارا للطائرة التي سوف تقلهم الى إستانبول، في نفس الوقت الذي قام فيه رجال المخابرات الأوكرانية بإبلاغ الجانب البيلاروسي بوصولهم الى بيلاروس في مهمة تخريبية ابان الانتخابات الرئاسية، وهو ما أعقبه اعتقال كل أعضاء المجموعة وانتزاع اعترافاتهم التي لم يكشف عنها بعد أي من الجانبين. ولم تكتف الأجهزة الأوكرانية بذلك، بل مضت الى ما هو أبعد من خلال اتصالات الرئيس الاوكراني زيلينسكي بنظيره البيلاروسي يطالبه فيها بتسليم أوكرانيا 28 من هؤلاء المحتجزين، بحجة انهم متورطون في القتال وارتكاب جرائم قتل في معارك الدونباس، وهو ما رفضه لوكاشينكو مؤكدا ضرورة ابداء القرائن والأدلة على اتهامهم.
وكشفت صحيفة كومسومولسكايا برافدا” في تقريرها الذي نشرته يوم الجمعة الماضي عن وقوف جهاز الامن الاوكراني وراء تدبير مخطط ارسال “المرتزقة الروس” الى بيلاروس، ونشرت صورا للوثائق والعقود الوهمية بما فيها صور تذاكر السفر الصادرة عن شركة سياحة أوكرانية في كييف، في توقيت مواكب لفضح الكثير مما كان وراء إقناع لوكاشينكو بالإدلاء بحديث صحفي الى دميتري جوردون الصحفي الاوكراني المثير للجدل. وكان الجانب الاوكراني حاول التلاعب بفقرات من ذلك الحديث وإذاعة مضمونها خارج تسلسل سياقها، لخدمة الأهداف الأوكرانية وضرب العلاقات بين روسيا وبيلاروس. على ان ذلك لم يأت بثماره المطلوبة، بقدر ما كان فرصة استغلها لوكاشينكو لإرسال ما هو أشبه برسالة اعتذار غير مباشر الى بوتين. ورغم تكرار محاولات الصحفي الاوكراني للإيقاع بلوكاشينكو في شرك المزيد من الهجوم ضد روسيا، فقد نجح رئيس بيلاروس في التخفيف من حدة هجماته السابقة، من خلال ما أعرب عنه من عالي تقديره للرئيس بوتين الذي وصفه بالشقيق الأكبر الذي لا يكبره سنا وحسبا، بل وقدراً ووزناً، على حد تعبيره. ورغما عن كل ذلك، فلا أحد يستطيع بعد، ان يقول بانقشاع كل غيوم الخلافات بين البلدين، رغم المكالمة الهاتفية بين بوتين ولوكاشينكو وما اعقبها من رسالة خطية بعث بها بوتين الى نظيره البيلاروسي، كانتا مقدمة لمكالمة هاتفية بين وزيري خارجيتهما تناولت مختلف جوانب الموقف وما يتعلق بالافراج عن المحتجزين، في توقيت مواكب لاستمرار مظاهرات الاحتجاج التي خرجت الى شوارع بيلاروس في اعقاب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز بها لوكاشينكو بأغلبية ساحقة تتجاوز 80% من أصوات الناخبين.