ندوة حول “العرب والأكراد في مواجهة الأطماع التركية”
أغسطس 12, 2020سياسة الطاقة المصرية شرق المتوسط.. قصة نجاح (السفير عزت سعد)
أغسطس 17, 2020
-
رئيس أوكرانيا يعرب عن “خيبة أمل”، ومرشحة المعارضة تطلب مساعدة الغرب
-
المتظاهرون “يدهسون” رجال الامن ويتوعدون تليفونيا عائلاتهم بالانتقام لتعذيب معتقليهم
موسكو – د. سامي عمارة
عادت غيوم “الثورات الملونة” لتخيم على سماء العاصمة البيلاروسية مينسك، في توقيت مواكب لانقشاع سحب الخلافات مع موسكو، في اعقاب “دسائس” اوكرانية وغربية استهدفت الوقيعة بين البلدين، والتمهيد للإطاحة بالكسندر لوكاشينكو القابض على دفة السلطة هناك منذ 1994. وجاءت نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة لتصب المزيد على نيران الخلافات مع المعارضة الداخلية المدعومة من الدوائر الغربية، ما تدفقت معه الألوف من المتظاهرين الى قلب العاصمة على ذات النحو الذي جرت عليه الثورات الملونة في العديد من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق في مطلع القرن الجاري.
ما أن أعلنت اللجنة المركزية للانتخابات في بيلاروس عن النتائج الأولية للانتخابات والتي قالت بفوز لوكاشينكو بنسبة تزيد عن 80% مقابل أقل من عشرة في المائة لأقرب المنافسين سفيتلانا تيخانوفسكايا، حتى انفجر الشارع في بيلاروسيا وتدفقت الألوف من المتظاهرين الى شوارع العاصمة وكبريات المدن البلاروسية تجوب شوارع مينسك وكبريات المدن البيلاروسية لليوم السادس على التوالي، إعلانا عن أولى مراحل “الثورة الملونة”، تحت شعارات تطالب بإعادة الانتخابات ورحيل لوكاشينكو. ولم تكن علاقات لوكاشينكو مع موسكو قد استعادت بعد سابق عهدها من الوفاق والوئام رغم مبادرة الرئيس فلاديمير بوتين بالاتصال الهاتفي ورسالته التي أوجزها في خمس صفحات شرح فيها حسب تصريحات لوكاشينكو، جوانب الموقف الذي أدى الى احتجاز 33 من مواطنيه بزعم الاعداد لزعزعة استقرار بيلاروس والاطاحة بلوكاشينكو. وفيما كانت موسكو تنتظر سرعة الافراج عن مواطنيها، اندلعت أولى بوادر ما هو أقرب الى “الثورة الملونة”، على غرار ما شهدته أوكرانيا في مطلع عام 2014. ومع هذه المشاهد تواصل تدفق التصريحات والتهديد والوعيد الى لوكاشينكو من جانب الحكومات الغربية وفي مقدمتها الفرنسية والألمانية والبولندية، على وقع تحذيرات جورج بومبيو وزير الخارجية الامريكية من مغبة عدم الاستجابة لمطالب إعادة الانتخابات والتخلي عن التمسك بالسلطة في مينسك، مع تهديدات بالعقوبات الاقتصادية ووقف صادرات النفط الأمريكي التي كانت مقدمة للغزل بين البلدين، نكاية في موسكو. وتحول المشهد صوب تبني العنف من جانبي المتظاهرين وقوات الامن التي قامت باعتقال الآلاف من المتظاهرين، وسط مشاهد دهس سيارات المتظاهرين لعدد من أفراد الامن في شوارع مينسك في سابقة لم تشهدها “الثورات الملونة” من قبل. وكان لوكاشينكو جنح نحو التهدئة مع موسكو بعد قبوله بإعادة المحتجزين الروس الى موسكو، في توقيت مواكب للإفراج عن ألوف المعتقلين من المتظاهرين شريطة عدم العودة الى صفوف المتظاهرين. غير ان “مشاهد” خروج “المُفْرَج” عنهم، وحكاياتهم حول تعذيبهم داخل “أقبية” النظام زادت من سخونة الموقف، رغم مبادرة لوكاشينكو بالاعتذار للمتظاهرين وتحميل وزير داخليته مسئولية خروجه عن التعليمات حول ضرورة التعامل السلمي وإعلانه عن ضرورة الافراج الفوري عن كل حبيسي سجون النظام.
لكن الوقت بدا متأخرا، وكان تحول الاعلام الروسي الرسمي الى إذاعة مشاهد العنف من جانب قوات الأمن في بيلاروس وتجاوزاتها المفرطة في حق وسلامة بسطاء المواطنين من غير المشاركين في المظاهرات، مقدمة للمزيد من السخط والغضب من جانب الأوساط السياسية والاجتماعية داخل وخارج بيلاروس، والتي لم يحِدْ منها ما أعلنه لوكاشينكو من تعليمات لقوات الامن بالكف عن مثل هذه الأساليب الفاشية، وقراره بالإفراج عن المحتجزين. فلم تكن قوات الامن لتلجأ إلى مثل هذا النحو من التعامل “الإجرامي” مع العُزًل من الشباب والنساء وكبار السن، الذي عرض بعض مشاهده برنامج “سولوفيوف لايف”، دون “ضوء أخضر” و”تعليمات صريحة” من جانب رأس النظام، على حد تعليق فلاديمير سولوفيوف المحسوب على الكرملين. ولعل ذلك ما كان سببا في تحول عدد من المتظاهرين الى مواجهة عنف الامن بعمليات “دهس” سافرة لأفراده في شوارع العاصمة راح ضحيتها تسعة من قوات الامن المركزي، الي جانب اتساع ظاهرة تهديد عائلات رجال الشرطة والجيش من خلال الاتصالات التليفونية.
على ان سولوفيوف، أذاع أيضا مشاهد المواجهة المسلحة بين قوات الامن وفصائل من المتظاهرين، من ذوي الكفاءات والقدرات القتالية والخبرات المؤهلة لخوض مواجهات الشوارع، ممن بدا واضحا انهم محترفون مكلفون من جانب “أطراف ثالثة”، بإدارة وتوجيه المظاهرات في الاتجاه المنشود. وقد ساهم في تصعيد الموقف وزيادة سخونته، توالي اعلانات الدوائر الغربية عن إدانتها لتصرفات السلطات الرسمية في بيلاروس، ووقوفها الى جانب مطالب المتظاهرين، ونداءات كل من بومبيو والرئيس الفرنسي ماكرون والمستشارة الألمانية ميركل حول ضرورة إعادة الانتخابات. وكانت موسكو توقفت لإعادة حساباتها تجاه الدعم السابق غير المشروط الذي طالما أغدقته على لوكاشينكو ونظامه، وسمحت لمعلقيها المحسوبين على الكرملين بكيل الانتقادات والادانة لأساليب لوكاشينكو في مواجهة شعبه، واتهامه بخيانة المصالح الروسية، ومنها تراجعه عن الاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا في اعقاب النزاع المسلح في عام 2008، ورفضه الاعتراف بضم روسيا للقرم، وتأليبه للسلطة في أوكرانيا وانتقاد عدم مواجهتها لخطوات روسيا بالقوة العسكرية. ولعل ذلك ما عجًل من اتخاذ لوكاشينكو لقرار الافراج عن المحتجزين الروس ثم المبادرة بالاتصال تليفونيا ببوتين أول من أمس السبت الماضي بحثا عن الدعم والنصيحة، إدراكا من جانبه لمغبة أخطائه التي تراكمت خلال الأيام القليلة الماضية منذ أعلن عن محاولاته اللعب على أوتار الغزل مع الغرب، والتمادي في عدائه مع روسيا، منذ اعتقل 32 من مواطنيها مع بيلاروسي آخر من العاملين في مجموعة “فاجنر” الروسية المسلحة للحراسات الخاصة.
ناقش الزعيمان آخر تطورات الأوضاع في بيلاروس وما تواجهه من صعوبات نتيجة استمرار المظاهرات بما يهدد بثورة ملونة جديدة يعلم الرئيسان أبعادها وما تهدف اليه من خطط بعيدة المدى ليست روسيا بمنأى عن أخطارها. تطرق لوكاشينكو الى إفراج سلطات بلاده عن المحتجزين الروس، ولعله اعترف أيضا بما سبق ووقع فيه من أخطاء في سياق اتصالاته مع أوكرانيا وأجهزتها المخابراتية. وأشار الكرملين في بيانه بهذا الصدد الى ان الرئيسين خلصا الى “قناعتهما بأن جميع المشاكل القائمة في بيلاروس ستتم تسويتها قريبا، والأمر الأهم هو منع استغلال هذه المشاكل من قبل قوى تخريبية تسعى إلى الإضرار بالتعاون متبادل المنفعة بين الدولتين ضمن إطار مشروع دولة الاتحاد”. واتفق الجانبان على “مواصلة الاتصالات على مختلف المستويات بين دولتيهما، مؤكدين عزمهما على تعزيز علاقات التحالف بين موسكو ومينسك “بما يخدم المصالح الأصلية للشعبين الشقيقين”. ومن هذا المنظور أعلن لوكاشينكو عن رفضه لكل المبادرات التي تقدمت بها ليتوانيا المجاورة التي هربت اليها منافسته تيخانوفسكايا، ومعها استونيا ولاتفيا وبولندا. وكان رئيس بيلاروس عقد اجتماعا لمركز الإدارة الاستراتيجية في وزارة الدفاع البيلاروسية، حسب وكالة “بيلتا” الرسمية، قال فيه “لدينا حكومة طبيعية تم تشكيلها بموجب الدستور، ولسنا في حاجة إلى أي حكومات أجنبية وأي وسطاء”. ومضي لوكاشينكو ليقول: “إن بيلاروس لا تحتاج إلى أي حكومة أخرى للسيطرة على الوضع وإدارة البلاد”، وأضاف: “بودي القول دون إهانة قيادة هذه الدول: “اهتموا بالمشاكل الخاصة بكم”.
ومن اللافت ان الساحة السياسية في بيلاروس تخلو عمليا من القيادات المدعوة الى إدارة الحوار مع الداخل والخارج، في إطار أجندة سياسية يمكن ان تكون بمثابة خريطة الطريق لإدارة الازمة والتحول نحو المفاوضات مع الرئيس الحالي. ويشير المراقبون إلى عدم كفاءة سفيتلانا تيخافينسكايا المرشحة الرئاسية المعارضة التي ترشحت نيابة عن زوجها المعتقل، وتقول دوائر المعارضة انها فازت بقرابة 70-75% من أصوات الناخبين، بينما تقول النتائج الرسمية التي أعلنتها اللجنة المركزية للانتخابات انها لم تفز بأكثر من 10% من الأصوات. وكانت تيخافينسكايا اعترفت بهزيمتها ودعت أنصارها الى عدم الخروج الى الشارع والالتزام بأكبر قدر من الهدوء، قبل هربها الى ليتوانيا المجاورة، لتعلن من هناك عن “رفضها الاعتراف بهزيمتها، فيما دعت الى ضرورة إعادة الانتخابات في بيلاروس وبدء المشاورات لتشكيل مجلس تنسيقي لضمان انتقال السلطة في البلاد”. كما اكدت تيخانوفسكايا “استعدادها للحوار مع السلطة، شريطة الإفراج عن المحتجزين أثناء الاحتجاجات وإخلاء شوارع المدن من القوات الأمنية وفتح ملفات قضائية بحق المسؤولين عن إصدار “الأوامر الإجرامية بضرب الناس وإطلاق الرصاص عليهم”، في نفس الوقت الذي طالبت فيه المجتمع الدولي والبلدان الأوروبية مساعدتها وأنصارها في تنظيم الحوار مع السلطات البيلاروسية. وكانت الدوائر الغربية تبنت هذه المطالب، في أعقاب تلقي ألكسندر لوكاشينكو تهاني عدد من كبار حلفاء بلاده وفي مقدمتهم الصين وقزخستان، وروسيا التي اكتفي رئيسها بوتين ببعض الكلمات النمطية التي تركز أكثر على تمنياته بالمزيد من التطور للعلاقات الثنائية في كل المجالات، والتركيز على دعم علاقات بيلاروس مع التنظيمات الأوروأسيوية ومعاهدة الأمن الجماعي التي تربط بلدانها مع روسيا وعدد من بلدا الاتحاد السوفييتي السابق.
وفيما يواصل الغرب ضغوطه على لوكاشينكو وتهديده بالعقوبات الاقتصادية، تعرب روسيا عن مخاوفها من ضياع بيلاروس، على نفس النحو الذي فقدت معه أوكرانيا بعد الإطاحة برئيسها فيكتور يانوكوفيتش في فبراير 2014، وهو ما قد يكون تفسيراً لاستجابتها السريعة لمبادرة المصالحة التي طرحها رئيس بيلاروس، فضلا عما يساورها من قلق تجاه احتمالات “اختطاف الثورة”، على غرار ما جرى في أوكرانيا، وامتداد نيران اللهب التي يمكن أن تطال أطراف الثوب الروسي.
ومن هنا كانت التعليقات التي تحذر الدول الغربية من التمادي في الضغط على لوكاشينكو، ومطالبته بإعادة الانتخابات. وتعالت الأصوات في موسكو في محاولة لتذكير الرئيس الفرنسي ماكرون بما فعله لأشهر طوال مع أصحاب السترات الصفراء في فرنسا، ومارك بومبيو بما يجرى في شوارع الكثير من كبريات المدن الامريكية احتجاجا على مقتل مواطن من الأقليات السوداء في مايو الماضي. أما عن أوكرانيا وفشل جهودها التي كانت تستهدف الوقيعة بين موسكو ومينسك، وتسلم 28 من المحتجزين الروس لمحاكمتهم في اتهامات تزعم مشاركتهم في معارك جنوب شرق أوكرانيا، فقد أعرب رئيسها فلاديمير زيلينسكي عن خيبة أمله تجاه عدم الاستجابة لطلبه.
على أن الأهم يظل اعتراف لوكاشينكو بمخاوفه مما يجرى في بولندا وليتوانيا المجاورتين لبلاده من مناورات عسكرية، وبأنه ناشد نظيره الروسي بوتين الدعم العسكري في حال تعرض بلاده لأية أخطار عسكرية، بموجب الاتفاقيات الموقعة مع روسيا في إطار “الدولة الاتحادية”، ومعاهدة الامن الجماعي بين روسيا وبيلاروس مع عدد من بلدان الكومنولث. لكن ما صار أوضح كثيرا عن ذي قبل، قد يتمثل في ان “محاولات” لوكاشينكو “اللعب على كل الحبال”، تحت ستار نهج “تعدد العلاقات” دون الارتباط بشرق أو غرب، كما يقال، لم تعد تجد لها مكانا على خريطة العلاقات الروسية البيلاروسية، ما يعني ضمنا ان مستقبل لوكاشينكو يمكن أن ينحو صوب الأفول!