فى القراءة حياة كريمة
يوليو 14, 2021في ندوة المجلس حول كتاب د. هبة جمال الدين شكوك حول أهداف “الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمى”
يوليو 28, 2021د. حازم عطية الله[1]
أطلق المؤرخ اليونانى الشهير هيرودوت عبارته الشهيرة : مصر هبة النيل, منذ أكثر من الفين وخمسمائة عام بعد أن مكث وأقام فى ضيافتها ليتعرف على الحضارة المصرية القديمة، والتى لم يعجب بها فحسب بل انبهر بها لدرجة أنه أقام بأقدم معابدها فى هليوبوليس أكثر من عشر سنوات تتلمذ خلالها على أيادى كهنتها ليتعلم منهم ما جادت به تلك الحضارة من نفائس فى شتى مناحى الحياة والتى شملت كل العلوم العملية والإنسانية… صاغها لأول مرة المصرى القديم، منها على سبيل المثال وليس الحصر: الرياضيات والهندسة والطب والعمارة والفلك والكيمياء والطبيعة، بجانب الديانة وعلوم النفس والاجتماع والفلسفة والأدب. ولم يكتف هيرودوت بإقامته هذه فى هليوبوليس بل أصرّ على أن يصول ويجول من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها ليتعرف عن قرب على تلك الظاهرة – كما سماها هو فى تأريخه لتلك الحقبة التاريخية – ليسطر لنا من خلال كتاباته التاريخية أحد أهم مصادر دراسة التاريخ المصرى القديم. ومن الطريف فى هذا الصدد إبراز ما ذكره هو فى هذا الشأن خلال رحلته صوب الجنوب حيث رافقه خلال تلك الرحلة مصرى من الجنوب والذى تعدى دوره كونه مترجما من اللغة المصرية القديمة إلى اليونانية ليكون بمثابة مرشد سياحى بارع فى وصف الآثار المصرية القديمة . وهنا يقف هيرودوت منبهرا بمعابد الآلهة شرق طيبة القديمة متمثلة فى معبدى الأقصر والكرنك لينتقل بعد ذلك إلى غربها فى زيارة للمعابد الجنائزية متمثلة فى الدير البحرى والرامسيوم وغيرهما ومنها إلى مقابر الملوك والملكات ومقابر النبلاء ودير المدينة والتى سماها: برائعة الفنون…. ذاكرة المجتمع المصرى القديم. إنها تلك الآثار المعبرة عن نشأة وتطور وازدهار أولى حضارات البشرية حيث أصبحت الركيزة والأساس التى قامت على أكتافها كل الحضارات اللاحقة حتى أوصلتنا إلى كل ما تنعم به البشرية اليوم. فى هذه البقعة من الكرة الأرضية وعلى ضفتى نهر النيل وضعَت البذرة الأولى منذ أكثر من ستة آلاف سنة بأولى وأعظم الحضارات البشرية وهى الفترة المعروفة بعصر ما قبل التاريخ أو ما قبل الأسرات .
فنحوعام 4000 قبل الميلاد استقر الإنسان على هاتين الضفتين وكون أول المجتمعات البشرية المستقرة إيذاناً بنشأة الحضارة والتى لا يمكن الحديث عنها إن لم يكن هناك مجتمع مستقر تَرك لنا منذ هذه الفترة نفائس وكنوزا لا مثيل لها على الإطلاق لتنطلق الحضارة المصرية القديمة بعد ذلك بخطى سريعة متطورة لتصل بنا إلى أعلى مراحل الازدهار والتقدم متمثلة فى عصر بناة الأهرام فى فترة زمنية قصيرة ومذهلة لا تتعدى سبعمائة وخمسين عاما. وهنا نعود بالحديث عن هيرودوت ومقولته: مصر هبة النيل لتتضح لنا حقيقة لا جدال فيها، فحواها أن هذا النهر الذى يقطع مسافة تزيد على ستة آلاف كيلومتر مبتدئا رحلته من أعالى هضبة الحبشة مارا بمناطق عديدة ينتهى به المطاف فى تلك البقعة التى أراد الله سبحانه وتعالى لها أن تكون مهد الحضارات، لم تنشأ على ضفتيه طوال رحلته هذه, بالرغم من مروره بمجتمعات واجناس بشرية مختلفة, أى حضارة تماثل وتضاهى الحضارة المصرية القديمة خلال هذه الفترة . بل الأكثر من ذلك عندما يُذكر نهر النيل تُذكر معه الحضارة المصرية, كوحدة واحدة لا يمكن فصلهما عن بعضهما. فقد تركت الحضارة المصرية منذ تلك الفترة وحتى يومنا هذا بصمتها الواضحة على هذا النهر الذى أعطته بدورها الصفة الحضارية المميزة له. تلك الحضارة ، وكما ذكرنا ، هى التى مهدت لميلاد كل الحضارات التى قامت على أكتاف وبتأثير واضح من الحضارة المصرية القديمة. فليعلم هيرودوت وهو فى العالم الآخر! ومعه العالم أجمع اليوم بأن الحضارة المصرية منذ نشأتها مارين بحاضرنا وحتى تقوم الساعة لا يمكن فصلها هى وشعبها عن ذلك النهر الذى وهبته الحضارة المصرية، فى كل عصورها، الاستمرار فى الحياة فى صورتها الحضارية التى ينعم بها.
نشر المقال بجريدة الاهرام بتاريخ 21 يوليو 2021 و رابط :
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsPrint/816519.aspx
[1] أستاذ الحضارة المصرية القديمة
محافظ الفيوم سابقا