Meeting with the Director General of the Malaysian Diplomatic Institute
April 22, 2024Russia – Islamic World: A Fair Multipolar World Order and Safe Development(Kazan, May 16, 2024)
May 7, 2024بتاريخ 7 مايو 2024، شارك السفير/ عزت سعد مدير المجلس في الفعالية الافتراضية التي عقدتها وزارة الخارجية الإندونيسية حول “إرث باندونج وأهميته للحاضر والمستقبل”، حيث تناول بصفة خاصة مدى ملائمة مبادئ باندونج لتحقيق التعايش وحلحلة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وجاء نص كلمته كالتالى:
تُعد حركة عدم الانحياز إحدى أكبر التنظيمات الدولية التي شهد العالم تطورها على مدى أكثر من ستة عقود، وذلك منذ انبعاث روحها بانعقاد أول مؤتمر أفروآسيوي في باندونج في أبريل 1955، بمشاركة 29 دولة معظمها مستقل حديثاً. إذ يُعَد هذا المؤتمر، الذي بشّر بتغيير جوهري في العلاقات الدولية، محورياً في ولادة الحركة، لأنه جمع بين القادة الذين كانت لديهم رؤية تتجاوز تصفية الاستعمار التى تمحورت كلمات القادة المشاركين فى المؤتمر حولها، وتحديداً كيف يمكن لتحالف جديد من البلدان المستقلة حديثاً أن يعمل معًا، خاصة وأنها تمثل غالبية الجنس البشري. وكما نعلم، تمخّض عن المؤتمر “إعلان السلام والتعاون”، تضمَّن “مبادئ باندونج العشرة” المعروفة، والتى ترتكز على ميثاق الأمم المتحدة بصفة أساسية، بما فى ذلك احترام حقوق الإنسان وحق الشعوب فى تقرير مصيرها، والمساواة فى السيادة بين الدول، والتسوية السلمية للمنازعات الدولية وفقًا لمبادئ الميثاق، وكذا احترام العدالة والالتزامات الدولية.
وعلى خلفية مؤتمر باندونج، صدر إعلان “بريوني” في يوليو 1956، في ختام قمة ثلاثية غير رسمية ضمَّت مصر والهند ويوغوسلافيا آنذاك، والذي عبَّر عن تصميم القادة على إنشاء حركة تحتضن العالم الثالث بأسره، ما أثمر عن انعقاد أول قمة لحركة عدم الانحياز في العاصمة الصربية بلجراد في سبتمبر 1961، بمشاركة 25 دولة، تبنَّت “مبادئ باندونج العشرة” كأهداف ومقاصد رئيسية لسياسة عدم الانحياز، كبديل لسياسة التكتلات، وأصبح الوفاء بها واحترامها هو المعيار الأساسي لقبول عضوية البلدان في الحركة. والآن، أصبحت الحركة تضم 120 دولة، تتمتع بالكثير من أوجه القوة النسبية، من حيث الثِقَل السياسي والموارد الطبيعية والبشرية، كما نجحت مؤخرًا في عقد قمتها التاسعة عشر في العاصمة الأوغندية كمبالا في يناير 2024.
ولا يخفى أنه لطالما أتاح محفل حركة عدم الانحياز تحقيق الكثير من الإيجابيات، من خلال روح التوافقية واحترام التعددية، خاصة بعد أن انتقل اهتمام الحركة من التركيز على مناهضة الاستعمار في ستينيات القرن الماضي بالأساس، إلى التنمية الاقتصادية ومسألة إعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية الدولية وقضايا البيئة فيما بعد، بجانب قضايا نزع السلاح ومنع الانتشار والأمن الدولي، وتأكيد الحاجة إلى ديمقراطية العلاقات الدولية، ما جعل الحركة تنجح إلى حدٍ كبير في التكيف مع الظروف المتغيرة في العلاقات الدولية، في تقدير الكثيرين، بما دحض فرية فقدان الحركة لمبرر وجودها بعد انتهاء الحرب الباردة مع مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وممَّا لا شك فيه أن قضية الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين، والذى تجاوز الـ 75 عامًا، تظل آخِر حالات الاستعمار الأجنبي، بما فى ذلك حرمان شعب بأكلمه من حقه فى تقرير المصير، فى انتهاكٍ فاضح لمبادئ باندونج كما جسَّدها ميثاق الأمم المتحدة. ورغم المعاناة الإنسانية طويلة الأمد التى عاناها الشعب الفلسطينى فى ظل احتلال إسرائيلى عنصرى باطش، إلا أن الغالبية العظمى من النخبة السياسية الفلسطينية كانت دائمًا مؤيدة لحل وسط. فبعد رفض الفلسطينيين فى البداية قرار الأمم المتحدة رقم 181، الذى تبنَّى خطة تقسيم فلسطين التاريخية إلى دولة عربية وأخرى يهودية، إلا أنهم يوافقون الآن بقبول أقل من 22 % من تلك الأراضى لإقامة وطن لهم. واليوم أعلن قادة حماس استعدادهم للتفاوض على حل الدولتين، خلال المفاوضات الخاصة بإطلاق سراح الرهائن ووقف إطلاق النار، وبالتالى يُعد ذلك اعترافًا ضمنيًا منهم بإسرائيل. إن هذا التحول الكبير نحو موقف وسطى ازداد تدريجيًا، كما يعتبر دليلاً ملموسًا على أن الخلافات الفلسطينية لم تكن أبدًا، وحتى يومنا هذا، هى السبب الحقيقى للصراع الدموى المستمر فى قطاع غزة والضفة الغربية، على نحو ما تروجه إسرائيل وحلفاؤها.
والحقيقة هى أن إسرائيل، على مدى أكثر من نصف قرن، كانت تقوم باستمرار بإحباط معظم الجهود والمبادرات الرامية إلى حل الصراع الفلسطينى / الإسرائيلى. ففى البداية، قامت إسرائيل بإنكار وجود دولة فلسطينية من الأساس، ووصفتها بأنها مجرد أوهام. ثم لاحقًا، اعتمدت إسرائيل بشكل كبير على المخاوف الأمنية لتبرير موقفها. وفى الآونة الأخيرة تمسَّكت إسرائيل بأيديولوجيات متشددة، مما يعرقل التقدم والتوصل إلى حل للازمة الحالية. وكان من أبرز الفرص التى أضاعتها إسرائيل اتفاقية كامب ديفيد الإطارية الموقعة فى السبعينيات، والتى تزامنت مع معاهدة السلام المصرية / الإسرائيلية. ومن الفرص الضائعة أيضًا مؤتمر مدريد للسلام الذى عُقِد فى التسعينات، واتفاقية أوسلو 1993، وقمة بيروت العربية التى طرحت مبادرة السلام العربية على أساس “الأرض مقابل السلام” عام 2002، واتفاقيات آنابوليس عام 2008.
ومع ذلك، لا ينبغى تجاهل حقيقة الدور الحاسم للولايات المتحدة الأمريكية فى وصول الأوضاع إلى ما هى عليه اليوم، سواء بسبب دعمها المطلق لإسرائيل، عسكريًا وسياسيًا، أو حرصها على الإبقاء على هذا الصراع بعيدًا عن أى ترتيبات متعددة الأطراف، وتحديدًا منظمة الأمم المتحدة، مستمسكة بمسألة التفاوض المباشر بين طرفَى الصراع، وهى تدرك تمامًا أن هذا المسار لن يقود إلى أى حل بسبب انعدام التكافؤ بين الجانبين، وعدم توافر الإرادة السياسية لدى الجانب الإسرائيلى للتوصل إلى توافق بعد صعود اليمين الأصولى المتطرف للحكم، مدعومًا بالصهيونية الدينية فى الولايات المتحدة.
لقد رأينا، ارتباطًا بجرائم إسرائيل وحربها المتواصلة فى غزة، كيف تمسكت الولايات المتحدة بالفيتو، ليس فقط للاعتراض على وقف إطلاق النار والإسراع بإنفاذ المساعدات الإنسانية، بل وأيضًا عرقلة الاعتراف بدولة فلسطين كعضو كامل العضوية فى الأمم المتحدة، في 18 أبريل الماضى، وذلك في توقيتٍ حرِج تمر فيه القضية الفلسطينية بمفترق طرق، بما فى ذلك مقتل نحو 35 ألف شهيدًا من المدنيين العُزَّل، أغلبهم من النساء والأطفال. والواقع أن سياسة الولايات المتحدة فى هذا الصراع الممتد قد نسفت مصداقية النظام الدولى الراهن، خاصة إذا ما أخذنا فى الاعتبار سياسة الولايات المتحدة فى قضايا أخرى.
وفى تناولها لهذا الصراع، تؤكد التنظيمات والتجمعات الدولية التى تضم فى أغلبها البلدان النامية، مثل جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامى وحركة عدم الانحياز، ضرورة احترام قرارات الشرعية الدولية والتسوية السلمية عبر الأمم المتحدة. وكان لموضوع العدوان على غزة حضورُه المهم على جدول أعمال مؤتمر حركة عدم الانحياز في يناير الماضى، والذى اختُتِم بالتأكيد على إجماع الحركة حول الموقف من الحرب الدائرة في غزة، ودعم قيام الدولة الفلسطينية، وضرورة محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها للقانون الدولي، وتأييد المبادرة التي اتخذتها جنوب أفريقيا بتقديم الشكوى أمام محكمة العدل الدولية. ويُضَاف ذلك بالطبع إلى جهود الحركة فى دعم القضية الفلسطينية على مدار تاريخها، والتى كان من أبرزها دعم برامج بناء القدرات لـ 10 آلاف فلسطينيًا فيما بين عامَي 2008 و2013، والإعلان الخاص بدعم فلسطين وحقوقها، والذى صدر عن سلسلة من اللقاءات التى استضافتها العاصمة الإندونيسية جاكرتا فى أبريل 2015، والذى عكس بدوره روح مبادئ باندونج.
إن نظرةً واقعية على الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين وما آل إليه من مظاهر غاية فى السوء، تؤكد بلا شك وجود فجوة واسعة بين الصراع والفرص المتاحة لتسويته. ومع ذلك، فإن الحديث عن إمكانية الوصول إلى حالة من التعايش السلمى بين الشعبين الفلسطينى واليهودى، تتطلَّب أولاً تطبيق قرارات الشرعية الدولية، بدءًا بالقرار 181، ومرورًا بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، مع ضرورة وجود حكومة إسرائيلية تؤمن حقًا بقواعد القانون الدولى وبمبادئ التعايش السلمى والتعاون والعدالة التى تعكسها مبادئ باندونج العشرة، وكذا ميثاق الأمم المتحدة، ومن الصعب تحقيق ذلك فى غيبة من توافر إرادة سياسية أمريكية جادة ومنصفة، تدفع الجانب الإسرائيلى قدمًا نحو إيجاد أفق سياسى حقيقى لتسوية الصراع، دون الانحياز لطرفٍ على حساب آخر.
والواقع أننا نؤمن بأن الحركة هي بمثابة منتدى دبلوماسي قوي يمكن من خلاله موازنة الاختلال الدولي القائم، عبر السعي الدؤوب لتصحيحه، بما فى ذلك منظمة الأمم المتحدة وأجهزتها، لاسيما مجلس الأمن الدولى، وبما يساعد على تحقيق عالم أكثر عدالة وإنصافًا. ولا شك أن الحضور اللافت للأمين العام للأم المتحدة أنطونيو غوتيريش، فى قمة الحركة الأخيرة، كان دليلاً قويًا على ذلك. فلقد دعا من منبر القمة إلى إصلاح النظام العالمي والمنظمات الاقتصادية والسياسية التي يقوم عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي طليعتها مؤسسات «بريتون وودز» و«مجلس الأمن الدولي»، مؤكدًا أن هذه المنظمات لم تعد تعكس الواقع الدولي الراهن ولا التوازنات الجيوسياسية، كما لم تعُد صالحة لمعالجة الأزمات ومواجهة التحديات العالمية.
ولعلَّ من المهم التأكيد هنا على أن الحياد الإيجابي الذي تتمسَّك به الحركة قد بات أمراً حيوياً، بما يهيئ الظروف لسلام ممتد وتعاون دولي يحقق مصالح الجميع. فالحياد لا يُفهَم بالطبع على أنه “حياد” أو “سلبية”، وإنما سياسة إيجابية ونشطة وبناءه تهدف إلى أن يكون السلام الجماعي أساساً للأمن الجماعي، كما أكدت مبادئ باندونج، ومن بعدها عدم الانحياز. وبدلاً من ذلك، وفي عالم أكثر عولمة وترابطاً، يمكن للحركة أن تكون بمثابة رابط، يساعد على تعزيز الوصول إلى نظام دولي متعدد الأطراف عادل وسلمي وتعاوني. بل إن الظروف الراهنة، رغم قتامتها، توفر مساحة لإحياء الحركة كآلية موازنة ناعمة ضد الدول القوية، فى بيئة دولية تتسم بالتنافس الشديد، وتنزلق بسرعة هائلة إلى وضعية مشابهة لوضعية الحرب الباردة، بما تحمله من مخاطر اندلاع حرب عالمية ثالثة. الأمر الذى يجعل من مسألة التفكير فى تحويل الحركة إلى منظمة دولية، تنشأ على أساس وثيقة دولية، بهيكل دائم وآليات مؤسسية بمثابة تحدٍ كبير. ومع ذلك، فإن خريطة العقوبات الدولية والتنافس المحتدم بين القوى العظمى، بما يصاحبه من محاولات استقطاب محمومة للدول المتوسطة والصغرى على نحو ما كان قائمًا إبَّان الحرب الباردة، تدفع بإلحاح نحو استدعاء روح باندونج من خلال تعزيز دور حركة عدم الانحياز وضمان فاعليته.
وختامًا، تظل مبادئ وروح باندونج بمثابة نبعٍ ملهم يشهد على أن الدول الأعضاء باستطاعتها أن تعزز من قدرتها على التكيف مع الظروف المتغيرة في العلاقات الدولية، ومستفيدة فى ذلك بمقدراتها الضخمة، ووزنها السياسى الهائل على الساحة الدولية، شريطة توافر الإرادة السياسية، والاقتناع بأن المستهدف من الحوكمة العالمية الرشيدة هو خلق الظروف الضرورية الكفيلة بتنمية الشعوب، وازدهارها فى مناخ من الاستقرار والأمن للجميع.