
ذكري مرور ثمانون عاماً على إنشاء جامعة الدول العربية
مارس 27, 2025
بيان
يونيو 17, 2025بمناسبة إحياء الذكري الثمانين للانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية، أو ما يسميها الروس “الحرب الوطنية العظمي”، دعتني السفارتين الروسية والبيلاروسية بالقاهرة لمشاهدة فيلم “تعال وانظر” إنتاج عام 1985، وهو من إخراج إليم كليموف أحد أعظم مخرجي السينما السوفيتية وآخر اعماله. ويُصنف الفيلم على أنه من أعظم أفلام الحرب في التاريخ، وغالباً ما يذكر في قوائم “أفضل 100 فيلم على الاطلاق”. أما سيناريو الفيلم فهو مستلهم من شهادات حقيقية لضحايا الحرب، خاصة من بيلاروس حيث قامت قوات النازي بحرق وإبادة نحو 689 قرية بسكانها ومبانيها ودوابها.
ويبدأ الفيلم بمشهد بسيط لبطله الشاب البرئ (فليورا) من قرية بيلاروسية، ينضم إلي جماعة من المقاومة السوفيتية للاحتلال النازي في عام 1943. غير أنه مع تقدم الاحداث، يتحول الفيلم من قصة مقاومة إلي صورة وحشية للحرب، حيث يظهر كيف تُفقد البراءة وتدمر الروح الانسانية تحت وطأة وحشية الاحتلال. ويصاب فليورا بالصدمة مع مشاهدته لعمليات إبادة جماعية، وحرق قري، وقتل المدنيين العزل، بما فيهم النساء والأطفال بلا رحمة. ويري الشاب نفسه في مواجهة مباشرة مع التاريخ، حيث يتخيل نفسه ينظر إلي هتلر عبر عدسة كاميرته. وفي النهاية يعود إلي قريته المدمرة، ليجد كل شيء وقد اختفي، حتي ذكريات الطفولة.
وتبدو عظمة الفيلم في أنه لا يركز على المعارك الكبرى أو البطولات العسكرية، كما هو حال العديد من أفلام الحرب، بل على الضحايا المدنيين، وخاصة الأطفال، الذين تحترق حياتهم في نيران الحرب. ويُظهر كيف تستخدم الحرب كآلة للإرهاب المنظم، حيث يجري تدمير القري البسيطة بأكملها.
كذلك يصور الفيلم رحلة فليورا من البراءة إلي الجنون، وكيف تفقده التجارب الوحشية إنسانيته ويتحول إلي “عين تراقب الجحيم”. وفي المشاهد الاخيرة يري فليورا هتلر في غابة، وكانه يواجه شبح التاريخ نفسه، ما يعكس فكرة أن الحرب ليست حدثاً من الماضي، بل إرثاً مميتاً يلاحق الاجيال.
و خلال مشاهدة الفيلم لا يملك المرء سوي أن يستحضر، وبقوة، نفس المشاهد التي عرضها الفيلم، ولكن حية وعلى الهواء مباشرة، ممثلة في الكارثة الانسانية المركبة التي يعيشها قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 وحتي الآن. فالعدوان الاسرائيلي لم يكن مجرد تصعيد عسكري، بل سياسة ممنهجة لاستهداف الوجود الفلسطيني وتفكيك النسيج الاجتماعي والاقتصادي وتقويض الحياة بكل أشكالها، في ظل ظروف قاسية من انعدام الغذاء والماء والدواء، مع المستويات غير المسبوقة من أعمال القتل والتدمير والتشريد واستهداف البني التحتية الحيوية، حيث تحولت المدن إلي انقاض، بما فيها المدارس والجامعات والمستشفيات والمراكز الصحية ودور العبادة والدور الثقافية والتراثية وشبكات الطاقة والمياه والطرق.
وكما تبني الفيلم الصمت كاحتجاج، بمعني أنه رفض تقديم حلول أو “قصص نجاح”، بل ترك المتفرج يواجه صمتاً ثقيلاً بعد انتهاء العرض، كتعبير عن العجز أمام وحشية قوات النازي، يبدو المشهد الحي في غزة شديد الشبه بالفيلم. فعلي مدي أكثر من ثمانية عشر شهراً من أعمال القتل والتدمير والتشريد واسع النطاق، لم تبذل الدول الداعمة لإسرائيل في حربها الوحشية هذه أي جهد لوقف آلة التدمير الاسرائيلية، ولو مؤقتاً. أو حتي اتخاذ خطوة إدانتها.
أن ما يجري اليوم في فلسطين المحتلة، شاهد على تآكل القوانين والقواعد التي سنت بعد الحرب العالمية الثانية لوضع قيود على سلوك الدول للحفاظ على نظام دولي عادل ومنضبط. وتأتي الولايات المتحدة في مقدمة القوي التي أظهرت ازدراء واضحاً للأسس القانونية للحضارة من خلال تصرفاتها الهمجية في فيتنام وأفغانستان والعراق وفلسطين.
والمشكلة هنا هي اصرار الولايات المتحدة، رغم تصرفاتها الهمجية، على الزعم بأنها تمثل النموذج الحقيقي للسلوك المستنير. ومن ثم ليس من المستغرب، وفقاً لبعض الكتاب الامريكيين وهو لورانس دافيدسون، ” أن تكون الدولة العميلة الاساسية لواشنطن – أي اسرائيل – هي التي تعمل الآن على هدم البنية الهشة للقانون والنظام الدولي برمتها، وهي تفعل ذلك بمساعدة ثابتة من أمريكا ودول غربية أخري”.
ويمضي هذا البعض إلي التأكيد على ” أن طبيعة السلوك الاسرائيلي الذي يهدد القانون الدولي في الوقت الحاضر، تعكس السلوك النازي الفوضوي في ثلاثينيات واربعينيات القرن العشرين. ويضيف: نحن نتذكر المانيا النازية لسببين رئيسيين:
- أن شن الحرب لم يكن دفاعاً عن النفس بل من أجل التوسع الاقليمي. وبرر النازيون هذا العدوان في المقام الاول بمفهوم ” المجال الحيوي”، أي الاستيلاء على الاراضي من أجل الاستعمار من جانب سكان المان لديهم نزعة توسعية وشعور بالتفوق.
- أن السكان الاصليين في المناطق المحتلة تعرضوا للذبح، جزئياً من خلال القصف الجوي المكثف وإعدام المدنيين داخل الأراضي المحتلة. فكان من الأمور الفريدة التي تميز بها النازيون حتي الآن مؤسسة القتل الجماعي الآلي في معسكرات الاعتقال. وكان الضحايا الرئيسيون لهذه المعسكرات اليهود وغير اليهود.
ويتساءل دافيدسون عن:”كيف يذكرنا سلوك اسرائيل اليوم، بدعم من راعيتها الولايات المتحدة، بالدور المدمر للنازي للنظام الدولي؟”.
للإجابة على هذا السؤال، يشير دافيدسون إلي عناصر خمسة أساسية هي:
- أن اسرائيل تطورت – مدفوعة بمنطق الايديولوجية الصهيونية ذاتها – لتعلن نفسها دولة ذات سيادة يهودية من نهر الاردن إلي البحر الأبيض المتوسط. ونطلق اليوم على ذلك الفصل العنصري الذي هو جريمة ضد الانسانية وفقاً لأحكام القانون الدولي.
- منذ نشأتها، لم تتخل اسرائيل عن مشروعها الرامي إلي الاستيلاء على كل أراضي إسرائيل التوراتية، أي غزة والضفة الغربية وأجزاء أخري من الأراضي، باعتبارها “مساحة حيوية” مخصصة إلهياً للشعب اليهودي. وتقوم اسرائيل حالياً بعمليات تطهير عرقي وتهجير قسري بدعم خفي من قوي عديدة أبدت استعداداً لاستقبال أسر فلسطينية، وذلك استعداداً للاستعمار الاسرائيلي.
- كما هو الحال مع النازية، يتم التطهير العرقي بشكل أساسي من خلال القصف الجوي المكثف وقصف المدفعية الذي يعيد محاكاة كل من تكتيك الحرب الخاطفة النازية وتكتيك ” الصدمة والرعب” الامريكي.
- على حين لم تكرر اسرائيل حرفياً معسكرات الاعتقال النازية، الا أنها حولت قطاع غزة إلي “أكبر سجن مفتوح في العالم”. وبعد هجوم المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023، حولت القطاع إلي نسخة من الايام الاخيرة من جيتو وارسو، الذي دمره النازيون أيضاً عام 1943 بسبب أعمال المقاومة.
- أخيراً، يجب الانتباه إلى أن ما سبق هو أفعال دولة إسرائيل تحت قيادة الائتلاف العنصري الحاكم، وانصاره الصهاينة، وليس الشعب اليهودي ككل. فالجهد الذي تبذله اسرائيل لتحديد هوية جميع اليهود بكل أيديولوجيتها وجرائمها يعادل ذهاب النازيين إلى الحرب باسم جميع الالمان، وهو ادعاء كاذب.
وفي ظل الفشل الذريع للمجتمع الدولي في وقف الإبادة الجماعية المروعة في قطاع غزة، الامر الذي دعا الامين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش إلى التأكيد على أن ” الكارثة في غزة ليست أقل من انهيار كامل لإنسانيتنا المشتركة”، يراهن الاسرائيليون على أن الزمن سوف يمحو خطاياهم. وكما قال بن جوريون:”سوف يموت كبار السن (الفلسطينيون) وسوف ينسي الشباب”. ويقول دافيدسون أن هذا الافتراض سخيف. فلم ينس الشباب اليهود في مختلف أنحاء العالم المحرقة،
أخيراً يقول الصحفي الاسرائيلي جدعون ليفي الكاتب في صحيفة هارتس أنه مع هزيمة النازيين وتحرير معسكرات الموت مثل أوشفيتز، ” أتيحت لليهود فرصة الاختيار بين إرثين: إما الا يواجه اليهود خطراً مماثلاً مرة أخري، أو ألا يواجه أحد في العالم خطراً مماثلاً مرة أخري. ومن الواضح أن اسرائيل اختارت الخيار الأول، مع إضافة قاتلة بعد أوشفيتز، يُسمح لليهود بفعل أي شيئ”. وقد فعلوا ذلك بفضل 75 عاماً من المضايقات والاضطهاد المستوحى من الصهيونية للشعب الفلسطيني. ونتيجة لهذا، أصبحت اسرائيل الآن ” دولة منبوذة”، وأصبح رئيس وزرائها مجرم حرب، و”يدرك المرء أن المسافة التي تفصل ممارسات النازيين عن ممارسات اسرائيل نتنياهو ” تتقلص يوماً بعد يوم”.
نشر المقال بجريدة المصري اليوم بتاريخ 14 مايو 2025 و رابط،