ندوة حول خبرة السيد السفير/ محمد العرابي، رئيس المجلس، في العمل الدبلوماسي وكونه وزير خارجية أسبق
أكتوبر 26, 2023ندوة “القضية الفلسطينية إلى أين فى ضوء التطورات الأخيرة؟”
نوفمبر 2, 2023
أود أولاً أن أعرب عن عميق شكري وتقديري لمركز المعلومات العلمية والتحليلية بمعهد الدراسات الشرقية بالأكاديمية الروسية للعلوم، على الدعوة الكريمة للمشاركة في هذه الفعالية الهامة حول منطقة الشرق الأوسط، والتي تُعقَد فى ظرفٍ بالغ الدقة، يهز أركان بلدان الشرق الأوسط، وكل الدول المحبة للسلام والعدل والمساواة. كما أتقدم بخالص التحية والتقدير للسيدات والسادة الزملاء المشاركين فى هذا السيمنار، والذين أثق أن نقاشاتهم المثمرة ستساهم فى إثرائه، على نحوٍ يعكس أهميته وسمو هدفه.
السيدات والسادة،
لعلَّ من الوجيه فى إطار ما يحدث حاليًا فى منطقة الشرق الأوسط الحديث عن “مستقبل الأمن فى المنطقة بعد عملية طوفان الأقصى”. وهذا بدوره يدفعنا للتركيز على القضية الفلسطينية، التى تمثل قضية القضايا بالنسبة لدول المنطقة وللعالم، والتى أظهرت تطوراتها مؤخرًا درجة عالية من المخاطر والتهديدات التى باتت خارج السيطرة. ويؤكد ما يجرى فى فلسطين منذ السابع من أكتوبر الجارى حقيقتين مؤكدتين: أولاهما أن الاحتلال مرفوض تمامًا مهما طال أمده، ولن يجدى التطبيع شيئًا، كما يولِّد الاحتلال رد فعل عسكرى أو عنيف من الطرف المحتل، حتى إذا كان التوازن العسكرى فى غير صالحه. وهذا درس مهم من دروس تاريخ الاستعمار الأوروبى البغيض، خاصة لبلدان الشرق الأوسط.
أما الحقيقة الثانية، فهى أنه فى دولة يتولى مجرم عنصرى قاتل وزارة الأمن الداخلى، من الطبيعى أن يصل أبناء الشعب الفلسطينى إلى حالة من اليأس والشعور بالظلم، تدفعه إلى القيام بما قام به فى 7 أكتوبر الجارى. ونعلم جميعًا الممارسات الإجرامية للائتلاف العنصرى الحاكم فى إسرائيل فى ظل صمت أمريكى أوروبى غريب يقوِّض تمامًا شعارات الغرب الأخلاقية المزيفة فى وجه روسيا، ارتباطًا بالأزمة الأوكرانية. فكل ما رفعه الغرب من شعارات ارتباطًا بأوكرانيا – مثل حماية المدنيين ورفض الاحتلال واحترام قوانين الحرب الدولية – غاب تمامًا عند الحديث عن إسرائيل، رغم وحشية أفعالها، بل إن قادة النخبة الحاكمة الفاسدة فى الغرب توافدت على إسرائيل منذ 7 اكتوبر لتبارك أفعالها الهمجية البربرية فى فلسطين. ومن المثير للسخرية فى هذا السياق أن الولايات المتحدة ما تزال تحاول تأطير الأزمة الأوكرانية، ليست باعتبارها صراعًا جيوسياسيًا بين الغرب وروسيا، ولكن باعتبارها دفاعًا عن مبادئ وأهداف الأمم المتحدة.
ومما لا شك فيه أنه على مدى السنوات الماضية، وبدلاً من البحث عن حلول عادلة للقضية الفلسطينية، كانت منطقة الشرق الأوسط، وما تزال، مسرحًا للانتهاكات الصارخة لقواعد القانون الدولى من قبل الولايات المتحدة. والمراقب للسياسة الخارجية للولايات المتحدة إزاء قضية الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين ــ باعتبارها العامل الرئيسى لعدم الاستقرار فى المنطقة ــ يجد أنها سياسة متعددة المسارات، تتحاشى دائمًا أى خلافات مع إسرائيل بل وتخطب ودها، تستهدف فرض أمر واقع يصعب معه، بل يستحيل، تحريك الأوضاع فى المنطقة:
أما المسار الأول فيتمثل فى مواصلة تسليح إسرائيل بأحدث ما تنتجه الصناعة العسكرية الأمريكية من أسلحة ومعدات، بما يحفظ لإسرائيل تفوقها النوعى على كل الدول العربية مجتمعة. وقد أدى التصنيع العسكرى المشترك بين الولايات المتحدة وإسرائيل والتعاون غير المقيد بينهما فى مجال التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، إلى صيرورة إسرائيل لاعبا عالميا فى هذا المجال، وأتاح لها مكاسب استراتيجية هائلة منها تسابق دول كبرى، بما فيها الدول الأوروبية الرئيسية، للحصول على الأسلحة والتقنيات العسكرية الإسرائيلية، ناهينا عن التغلغل الإسرائيلى فى أفريقيا أمنيا وعسكريا بتشجيع مباشر وغير مباشر من الولايات المتحدة.
وفى الوقت الذى تتكبد فيه معظم بلدان المنطقة خسائر فادحة وتواجه تحديات صعبة ارتباطا بتداعيات الأزمة فى أوكرانيا على اقتصاداتها، خاصة مشكلات الأمن الغذائى وارتفاع أسعار الطاقة ومعدلات التضخم غير المسبوقة، تحقق إسرائيل فوائد هائلة من هذه الحرب؛ فقد أدت هذه الأخيرة إلى قيام معظم الحكومات الأوروبية بمضاعفة إنفاقها الدفاعى، ومن ثم كثفت مشترياتها من الأسلحة الإسرائيلية، لتجاوز أوروبا منطقة آسيا والمحيط الهادئ باعتبارها أكبر سوق لصادرات الأسلحة الإسرائيلية. وبسبب تنامى المخاوف الجيوسياسية نتيجة للحرب، تراجعت الأسباب السياسية التى أدت إلى امتناع بعض الحكومات الأوروبية فى السابق عن شراء السلاح الإسرائيلى. وتجىء ألمانيا ــ التى تضطلع بدور مركزى فى الدفاع الأوروبى ــ فى مقدمة الدول التى أقبلت على الأسلحة الإسرائيلية حيث اشترت مؤخرًا نظام الدفاع الصاروخى الباليستى المعروف باسم ARROW 3 مقابل 3 مليار يورو من إحدى الشركات الإسرائيلية. ويعنى ذلك أن ألمانيا تمول آلة القتل الإسرائيلية، وهو ما يدعونا إلى التساؤل عن: إلى متى ستظل ألمانيا أسيرة عقدة الذنْب تجاه اليهود؟ ولماذا تقبل بأن يدفع الفلسطينيون ثمنًا لجرائم لم يرتكبوها؟
أما المسار الثانى للسياسة الخارجية الأمريكية فى المنطقة، فيتمثل فى تبنى دبلوماسية قسرية تقوم على الضغط على الدول، خاصة العربية والأفريقية، للتطبيع مع إسرائيل وأحيانا التلويح بتقديم بعض المزايا الاقتصادية والسياسية الأمنية مقابل ذلك. ويدخل فى ذلك المبادرات الرامية إلى إدماج إسرائيل فى المنطقة مثل «قمة النقب» فى إبريل 2022، ومن قبلها «الناتو الشرق أوسطى». وعادة ما تستخدم إسرائيل هذه المبادرات للتدليل على تراجع القضية الفلسطينية على الأجندة الإقليمية والدولية.
ويتمثل المسار الثالث – وربما الأهم – فى الحقيقة المؤسفة والمتمثلة فى أن الولايات المتحدة ــ التى لا تخجل من تقديم نفسها على أنها زعيمة “العالم الحر” و”النظام الدولى القائم على القواعد” ــ كانت وما تزال اللاعب الرئيسى فى إجهاض كل محاولات الاعتراف بفلسطين المحتلة كدولة مستقلة ذات سيادة، رغم أحقيتها فى ذلك وفقا لقواعد القانون الدولى. وخلال العقود الأربعة الأخيرة بذلت الولايات المتحدة جهودا حثيثة وضغوطا مكثفة لتبييض إسرائيل فى الأمم المتحدة وإدماجها فى النظام الدولى المتعدد الأطراف رغم جرائمها اليومية، ورفضها القاطع جميع المبادرات الرامية إلى إيجاد حل عادل للصراع.
وليس سرًا أن الولايات المتحدة حذّرت السلطة الوطنية الفلسطينية مرارًا من أنه إذا ما أصرت على موقفها بشأن التقدم لمجلس الأمن الدولى بطلب قبولها عضوا كامل العضوية فى الأمم المتحدة، فإنها ستستخدم حق النقض بما يمنع صدور قرار فى هذا الشأن. وفى سياق موقفها المخزى ــ والمثير للسخرية بحكم حديثها الدائم عن حل الدولتين ــ اعترضت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا ضمن 26 دولة ــ على قرار الجمعية العامة الصادر فى آخر ديسمبر 2022، والذى يطلب من محكمة العدل الدولية رأيا استشاريا حول تحديد «العواقب القانونية لانتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطينى فى تقرير المصير»، بالإضافة إلى إجراءاتها «لتغيير التركيبة الديموغرافية لمدينة القدس وطابعها ووضعها». وقد عكس نمط التصويت على القرار (تأييد 87 دولة واعتراض 26 وامتناع 53 دولة عن التصويت) حجم الضغوط الأمريكية الهائلة على الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة فى إطار السياسة الأمريكية الحريصة دائمًا على إفلات إسرائيل من العقاب على جرائمها.
وليس من المبالغة القول بأن ما يجرى فى غزة ينقل المنطقة برمتها إلى مرحلة جديدة، تتسم بالفوضى الشديدة وبالخلل الفادح فى موازين القوى؛ حيث لم يعد الأمر يتعلق بإسرائيل فقط، وإنما بالولايات المتحدة التى سارعت بتحريك آلاتها العسكرية إلى منطقة الشرق الأوسط، فيما طلب رئيسها من الكونجرس تمويلاً بقيمة 14 مليار دولار لصندوق الحرب؛ دعمًا لإسرائيل وردعًا لمَن وصفتهم دومًا بخصومها وخصوم حليفتها الرئيسية فى المنطقة. ويشمل ذلك أيضًا الحضور العسكرى الأمريكى الكثيف فى إسرائيل، لمساعدتها على تنفيذ أجندتها فى غزة وتصفية القضية الفلسطينية، وتفريغ قطاع غزة من سكانه، بما لا يتفق والقانون الدولى والقانون الدولى الإنسانى، وبما يُهدِر الجهود الدولية التي بُذِلت على مدى أكثر من نصف قرن، لإقامة دولة فلسطين المستقلة.
إن محاولة إجبار الفلسطينيين على الخروج من غزة إلى مصر ليست مدفوعة باعتبارات إنسانية. وتقاوم مصر، ودول عربية أخرى، الضغوط لفتح الحدود أمام النازحين الفلسطينيين؛ لعدم تكرار النكبة التى أدت إلى الإعلان عن دولة إسرائيل فى عام 1948، كما أن الفلسطينيين في غزة يشعرون بالقلق حقًا بشأن عدم السماح لهم أبدًا بالعودة إلى القطاع بمجرد إجلائهم، هذا فيما يهدد القادة الإسرائيليون علناً بإحداث نكبة ثانية، من خلال الإصرار على مسألة التهجير القسرى.
إن اللغة المستخدمة هي في حد ذاتها تصعيدية للغاية، بل وحتى تحرض على اقتراف ممارسات إبادة جماعية. إن ما نحتاجه هو عالم يمكنه الاعتراف بإنسانية الفلسطينيين وآلامهم التي طال أمدها، ويخلصهم من الممارسات العنصرية التى تعتدى على أرواحهم وممتلكاتهم.
وكما قال بعض المحللين بحق، فإن خطيئة إغفال هذه الحقائق في لغة الولايات المتحدة والعديد من الزعماء الأوروبيين، الذين تحدثوا بتأثر شديد وتعاطف هائل عن إنسانية الإسرائيليين، تشجع على ارتكاب جرائم حرب في الأراضيى المحتلة.
أشكركم على اهتمامكم.