Seminar on the book by Ambassador Dr. Mounir Zahran – ECFA Chairman – “A Witness to Egyptian diplomacy in half a century”
September 27, 2021حرب اكتوبر… مسارات الدبلوماسية المصرية قبل النصر وبعده
October 6, 2021السفير عزت سعد
مقدمة:
في بيان أمام الاجتماع الوزاري لحركة عدم الانحياز في 13 يوليو 2021، أعلن وزير خارجية صربيا أن بلاده وجهت الدعوة لأعضاء الحركة لقمة ستعقد في بلجراد يومي 12,11 اكتوبر القادم للاحتفال بذكرى مرور 60 عاماً على عقد أول قمة للحركة في بلجراد عاصمة جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الفيدرالية السابقة عام 1961، وذلك بالتعاون مع أذربيجان الرئيس الحالي للحركة. ومن بين ما ذكره الوزير أن هناك تحديات عالمية، لدى الحركة فرصة للتعامل معها والتأكيد مجدداً على اهدافها ومبادئها، مشيراً الى “إن صربيا، كدولة محايدة عسكرياً ومستقلة سياسياً، سوف تقدم أقصى مساهمتها الصادقة لهذه الاهداف والمبادئ”، وأنها ستستخدم وضعيتها كمراقب لدي الحركة لتحقيق المصالح القومية والحيوية لها، مؤكداً أن وجودها في الحركة وتعاونها مع دولها لا يتناقض مع آفاق عضويتها المحتملة في الاتحاد الأوربي، التي تقدمت رسمياً بطلب الحصول عليها في 22 ديسمبر 2009 كهدف والتزام استراتيجي، وانما هي جانب مكمل لتوجهات سياستها الخارجية. وفي هذا السياق وجه وزير الخارجية الصربي الدعوة لمصر لحضور القمة خلال زيارته للقاهرة في 22 / 24 أغسطس الماضي، حيث استقبله خلالها السيد رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي والسيد وزير الخارجية سامح شكري.
وكما هو معروف، فإنه مع انتهاء الحرب الباردة اختفت جمهورية يوغسلافيا الفيدرالية من الساحة السياسية، وتم تعليق عضويتها في حركة عدم الانحياز عام 1992، خلال المؤتمر الوزاري للحركة في العاصمة الاندونيسية جاكرتا، وحرمت من الحق في رئاستها التي كان من المفترض استمرارها من قمة بلجراد 1989 حتى عام 1992. وقد قبل طلب صربيا بالتمتع بوصف المراقب لدى الحركة، بعد أن تم تأكيد عضويتها في منظمة الامم المتحدة، وذلك في اجتماع مكتب تنسيق الحركة في 25 سبتمبر 2001، ثم التصديق عليه في الاجتماع الوزاري في نوفمبر في نيويورك.
ومنذ قيامها وحتى الآن، عقدت الحركة ثمانية عشر قمة، بدءا من بلجراد (سبتمبر 1961) وانتهاء بقمة اذربيجان (اكتوبر 2019)، وكانت مصر من الدول القليلة – بجانب يوغسلافيا السابقة وكوبا – التي استضافت قمتين للحركة احداها في القاهرة (القمة الثانية) في اكتوبر 1964 والأخرى في شرم الشيخ (القمة الخامسة عشرة) في يوليو 2009. وتضم الحركة اليوم كل الدول الافريقية – عدا جنوب السودان و36 دولة من آسيا و26 دولة من منطقة أمريكا اللاتينية (الوسطي والكاريبي والجنوبية) ودولتين من القارة الأوروبية هما أذربيجان وبيلاروس وثلاث دول من ” أوقيانوسيا” (فيجي – بابوا غينيا الجديدة وفانواتو)، بجانب مراقبون من الدول والمنظمات الدولية الحكومية – كالأمم المتحدة والاتحاد الافريقي والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وأخري غير حكومية([1]).
-
– عدم الانحياز … البدايات:
عادة ما يؤرخ لفكرة قيام حركة عدم الانحياز بعام 1955 عندما عقد أول مؤتمر أفروآسيوي في مدينة باندونج الاندونيسية في الفترة من 18 الي 24 ابريل عام 1955([2])، بمشاركة 29 دولة معظمها مستقل حديثاً، ومع ذلك هناك تقدير عام بأن باندونج، الذي بشّر بتغيير جوهري في العلاقات الدولية، لم يكن حول انشاء عدم الانحياز، وإنما بالأحرى كان للتنديد بالاستعمار والإمبريالية، حيث تمحورت كلمات القادة المشاركين حول ذلك، وتحديد كيف يمكن لتحالف جديد من البلدان المستقلة حديثاً أن يعمل معا، خاصة وأنها تمثل غالبية الجنس البشري. ووفقاً للبعض ممن حضروا أعمال المؤتمر، كانت المناقشات حرة وصريحة. وعلى سبيل المثال قدم العراق والمملكة العربية السعودية مشروع قرار بإدانة الاتحاد السوفيتي لقمعه سكانه المسلمين، غير أنه تم تجنب هذا المسعي لأسباب منها تدخل الصين، التي حافظت على تحالفها مع الاتحاد السوفيتي حتى عام 1960. وما صدر عن المؤتمر كان قرار “يدين الاستعمار بجميع مظاهره”، يعتبره الكثيرون بداية حركة عدم الانحياز([3]).
ومع ذلك، كان باندونج محورياً في ولادة حركة عدم الانحياز، لأنه جمع بين القادة الذين كانت لديهم رؤية تتجاوز تصفية الاستعمار([4]). وفي مؤتمر صحفي في ختام المؤتمر، جمع تشوان لاي بين الاستعمار والامبريالية والحاجة الي محاربة كليهما، وهو ما أجبر نهرو على فعل الشيء نفسه، فلقد كانت المنافسة مفتوحة بين الزعيمين. وما ربط باندونج حقاً بالعملية اللاحقة برمتها، ممثلة في حركة عدم الانحياز، هو اعتماد إعلان السلام والتعاون بنقاطه العشر بالإجماع، وهو إعلان تبنته الحركة في وقت لاحق، يستند على ميثاق الأمم المتحدة بصفة أساسية، ولايزال وثيقة هوية الحركة حتى الأن. وكانت المرة الاولي التي يشار فيها الي التعاون فيما بين بلدان الجنوب، والذي بات أحد المرتكزات الاستراتيجية لمجموعة الــ77 فيما بعد. وقد عرفت هذه المبادئ التي تحكم العلاقات بين الدول، كبيرها وصغيرها، باسم “مبادئ باندونج العشرة”، والتي جري اعتمادها فيما بعد كأهداف ومقاصد رئيسية لسياسة عدم الانحياز كبديل لسياسة التكتلات ، وأصبح الوفاء بها واحترامها هو المعيار الأساسي للعضوية في الحركة([5]).
ومن الثابت أن الحركة جاءت كنتيجة مباشرة للحرب الباردة بين المعسكرين: الشرقي والغربي. ويمكن القول بأنه خلال السنوات الاثنتي عشرة الاولي للحركة (1961 – 1973)، شكلت تطورات الحرب الباردة جدول أعمال الحركة وتوجهها السياسي. وفي هذا السياق استهدفت الحركة الابتعاد عن سياسات الاستقطاب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
وإذا كانت الحركة قد خرجت من باندونج، إلا أنه لا ينبغي تجاهل ما حدث عام 1956، عندما دعا الرئيس اليوغسلافي تيتو كلا من الراحل عبد الناصر ونهرو الي اجتماع في منزله بجزيرة بريوني لمدة يومين، حيث انتقل هؤلاء القادة للمرة الاولي من قضية الاستعمار والامبريالية الي التصميم الواسع على إنشاء حركة تحتضن العالم الثالث بأسره، بما في ذلك أمريكا اللاتينية، التي كانت غائبة عن باندونج. وكان للاجتماع طابع شخصي جداً، حيث دعي عدد محدود من الصحفيين، تحدث إليهم القادة الثلاثة بدلاً من مؤتمر صحفي، وكانت الرسالة: لا سلام بدون أمن عالمي، وهذا يعني وضع حد لهيمنة بلد على الأخر”. وانتهي اجتماع بريوني دون وثيقة، إلا أنه بعد وقت قصير صدر إعلان بريوني، الذي يمثل في تقدير البعض اللحظة الحقيقية لميلاد حركة عدم الانحياز، بينما صدرت الوثيقة الرسمية لميلاد الحركة في بلجراد عام 1961، خلال القمة التي عقدت في سبتمبر بمشاركة 25 دولة، واعطي وجود مستعمرة أوروبية سابقة، هي قبرص، وبلد من أمريكا اللاتينية، كوبا، الحركة بعداً عالمياً([6]).
وسبق القمة مؤتمر تحضيري، على مستوي وزراء الخارجية، استضافته القاهرة في 5 يونيو 1961، حضره ممثلون عن 22 دولة هي أغلب الدول التي شاركت في مؤتمر باندونج، عدا الصين، حيث نوقشت معايير العضوية في الحركة، والدول التي يمكن توجيه الدعوات اليها للمشاركة في قمة بلجراد.
-
– اختلافات الرؤي حول دور الحركة وأدوات عملها:
منذ البداية، واجه أعضاء الحركة معضلات متنوعة نتجت عن تباين الرؤي فيها يتعلق بمفهوم عدم الانحياز ذاته وبالدور الذي يجب على الحركة القيام به ووسائل تحقيق هذا الدور.
والمتأمل لسياسة عدم الانحياز لدول الحركة، يجد أنها لم تتبع نسقاً واحداً في هذا الشأن، كما أن ضوابط العضوية في الحركة، وكذلك مبادئها، قد صيغت على نحو اتسم بالمرونة الشديدة، بحيث لا تشكل قيداً على حرية الدولة المعنية في التصرف وفقاً لمصالحها، ربما الي حد الدخول في شكل من أشكال التحالف مع هذه الدولة أو تلك، وهو ما حدث في الواقع العملي. ويشرح د. بطرس بطرس غالي، ذلك بالقول بأن “سياسة عدم الانحياز سياسة مرنة، ولا تدعي الحياد المطلق. ويضيف، كمثال: “أن كوبا دولة منحازة بنسبة 100% (للكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي)، ولكنها عضو في حركة عدم الانحياز، حيث أنه بالرغم من انحيازها إلا أن لها بعض المواقف القريبة من حركة عدم الانحياز، سواء تعلقت بمساعدة الدول على الاستقلال السياسي أو محاربة الاستعمار، ورغم أنها منحازة نجد هناك عناصر أخري تجعلها تبقي في هذه الحركة… أن أغلبية الدول غير المنحازة مرتبطة بطريقة ما بأحد المعسكرين”([7]).
والحال على ما تقدم، واجهت الحركة عدد من المعضلات من بينها:
-
مشكلة ما إذا كان ينبغي تشكيل آليات وهيئات مؤسسية تكفل للحركة ظهوراً مشتركاً ومستمراً ومنظماً لبلدان الحركة في العلاقات الدولية. وعلى خلاف وجهة النظر هذه التي دافع عنها تيتو، عارض القادة الافروأسيويين انشاء مثل هذا الإطار المؤسسي معتقدين أن الحركة الجديدة قد ينظر اليها على أنها “الكتلة الثالثة”، وهو ما سيقود أعضائها الي مواجهة مفتوحة مع كل من الشرق والغرب. وفضلاً عن ذلك فإن هذا من شأنه أن يعقد بشكل خطير العلاقات بين القوي العظمي التي تقدم لبلدان الحركة مساعدات اقتصادية ومالية وعسكرية واسعة. وكان نهرو من المتحمسين لوجه النظر هذه، مشيراً الي أن التوجه الفردي في السياسة الخارجية لبلدان الحركة يخلق مناخاً ايجابياً في العلاقات الدولية المضطربة أساساً، وأعرب أغلب المشاركين عن الاعتقاد بأن آليات تسوية الأزمات العالمية الخطيرة هي في أيدي القوي العظمي، ومن ثم لا مجال لدول الحركة للتدخل، حتى لا تتعقد عمليات التفاوض المعقدة أصلاً. ولم يتم التغلب على هذه الأزمة إلا في منتصف عام 1970 في القمة الثالثة في لوساكا، حيث تم التوصل الي اتفاق بشأن اتخاذ تدابير ملموسة من شأنها أن توفر الظروف اللازمة لاتخاذ إجراءات دائمة ومتزامنة من جانب بلدان عدم الانحياز في العلاقات الدولية. وبهذا المعني، كانت قمة لوساكا أيضاً قمة تأسيسية للحركة. ذلك أنه بعد هذه القمة بدأت فترة ما سمي بــ “العصر الذهبي” لعدم الانحياز، والذي اتسم بتنوع الإجراءات المشتركة لتأكيد مواقف الحركة على الساحة الدولية. وفي هذا السياق تم تشكيل الهيئة الرئيسية للحركة أو مكتب التنسيق، الذي أكسب الحركة – لأول مرة في تاريخها – نوعاً من الهيئة التنفيذية التي تضمن العمل المشترك والفعال والمنسق لبلدان الحركة، أي تنفيذ قرارات مؤتمر القمة.
وقد باتت بلدان الحركة أكثر قدرة على الاستجابة لتحديات المرحلة وتنظيم أعمالها وانشطتها بما يتفق والتغيرات المفاجئة في المجتمع الدولي، التي تعرض أمنها واستقرارها للخطر بشكل مباشر. ومع التوسع السريع في مجال النشاط السياسي للحركة والزيادة المستمرة في عدد أعضائها، زادت أهمية الحاجة الي انشاء هيئات تنسيقية، خاصة في المجالات الاقتصادية والمالية والإعلامية، وهي توصف بأنها أدوات هامة في إطار تحقيق التطلعات التحررية العامة لبلدان العالم الثالث. وكانت نقطة الانطلاق هي أن الاستقلال السياسي لبلدان عدم الانحياز لا يمكن تحقيقه بدون استقلالها الاقتصادي والمالي، بل بالاستقلال أيضاً في إطار النظام العالمي للاتصالات والمعلومات.
-
شهدت قمة القاهرة (1964) جدلاً حاداً بين وجهة نظر، عبر عنها تيتو، بضرورة التوجه العالمي للحركة خاصة مع تزايد عدد الأعضاء في ضوء ما تحقق من نجاح على صعيد تصفية الاستعمار، وهو ما انعكس ايجاباً في نمط التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بينما تحمس سوكارنو، ومعه سولومون باندارانيكه رئيسة سيلان، لمفهوم الإقليمية بحيث تضم الحركة الدول الافروآسيوية أساساً. واستند موقف سوكارنو وباندرانايكا على حتمية الصراعات بين “الدول الفقيرة” و “الغنية” و “القوي الجديدة” و “القديمة” و “الملونة” و “البيضاء”. ومن ثم فقد دافعا عن مفهوم حتمية وديمومة الصراع الطبقي الدولي باعتباره السبيل الوحيد الذي يؤدي الي حل المشاكل والعداوات الدولية المتراكمة، كما اعتقد الزعيمين أن التعايش السلمي بين البلدان النامية والقوي الامبريالية أمر مستحيل. ولن تقبل القوي الامبريالية أبداً شيئاً من هذا القبيل، لأن هدفها العالمي الرئيسي هو استخدام تفوقها الاقتصادي والعسكري، واستغلال الدول الافريقية والأسيوية بوحشية والتدخل في شئونها الداخلية. وفي تقدير بعض الكتاب الصرب الذي أرّخوا للحركة، كان الرئيس جمال عبد الناصر أحد أقوى المؤيدين لمفهوم “الوحدة العربية” أو “القومية العربية” في منتصف الخمسينات. وكزعيم للعالم العربي ببلدانه في آسيا وافريقيا، كان ناصر يسترشد بأهداف مختلفة، لم تكن متوافقة مع الأهداف من وراء انشاء الحركة. وفي مفهوم عبد الناصر، فإن فكرة انشاء رابطة واسعة من دول عدم الانحياز تم اختزالها في مفهوم “التضامن العربي”([8]).
ولم يتم التوصل إلى توافق في هذا الشأن، وإن كان التاريخ قد أثبت أن مفهوم الإقليمية قد ساد الحركة. وقد انعكست هذه المعضلات عاليه على أداء الحركة وأدوارها، وكانت تحركات كل دولة محكومة أساساً بمصالحها الخاصة ومقتضيات أمنها القومي واحتياجاتها.
-
– الحركة في بيئة دولية متغيرة:
في بداياتها كان تركيز الحركة بالأساس على مناهضة الاستعمار في ستينيات القرن الماضي، ثم التنمية الاقتصادية ومسألة اعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية الدولية وقضايا البيئة فيما بعد، بجانب قضايا نزع السلاح والأمن الدولي، وتأكيد الحاجة الى ديمقراطية العلاقات الدولية. وفي تقدير الكثيرين ساهمت الحركة في تعزيز استقلال الدول الاعضاء وتهيئة الظروف لسلام ممتد وتعاون دولي. بل أن الحركة نجحت الى حد كبير في التكيف مع الظروف المتغيرة في العلاقات الدولية([9]).
وعلى الرغم من أن السبعينيات كانت بلا شك أكثر فترات المشاركة العالمية لحركة عدم الانحياز ازدهاراً، فإن نهاية ذلك العقد كانت ايذاناً بنهاية هذا الاتجاه الايجابي. وكانت الخلافات الحادة المتزايدة، حتى الصراعات المسلحة بين بلدان الحركة، التي تجلت في عقدي السبعينات والثمانينات، مؤشراً على أزمة خطيرة للحركة. وفي القمة السادسة في هافانا (سبتمبر 1979)، قادت العراق، مؤيدة بما سمى آنذاك بدول “الصمود والتصدي” العربية، حملة لاستصدار قرار من القمة بتجميد عضوية مصر في الحركة بسبب توقيعها معاهدة سلام مع اسرائيل. ولما فشلت محاولاتها في هذا الشأن تقدمت بطلب استضافة القمة التالية (السابعة) على أمل دفع الحركة بقوة في هذا الاتجاه. ولظروف الحرب العراقية الايرانية ودخول البلدين مرحلة ضرب عاصمتيهما بالصواريخ، اقترحت مصر على الهند – خلال زيارة للرئيس الاسبق حسنى مبارك – استضافة القمة السابعة (مارس1983) وهو ما تم بالفعل. وخلال قمة هافانا أيضاً، سعى البلد المضيف، بدعم من مجموعة محدودة من بلدان الحركة، الى إحداث تغيير جذري في الالتزام الاستراتيجي للحركة في المستقبل، متعهدة بربط الحركة بالكتلة الشرقية.
وقد وصفت وسائل الاعلام الغربية تفاصيل المناقشات الحامية التي جرت في هافانا بأنها “مباراة ملاكمة” بين كاسترو ” العملاق الملتحي”، وتيتو “الضعيف” الذي كان يتحرك بصعوبة (توفي في العام التالي للقمة عام 1980)، حيث انتهت المباراة بانتصار الأخير، وكان ذلك أخر انتصارات تيتو على الساحة السياسية الدولية. وبعد قمة هافانا واجهت الحركة تحديات محلية ودولية متزايدة، كما أن رحيل تيتو أفقد الحركة جزءاً لا يستهان به من قوتها وديناميكيتها. ومن الناحية العملية، لم يربط أي بلد من بلدان عدم الانحياز مصيره بمصير الحركة، كما أنه لم يعتبر أن الحركة ذات أهمية كبيرة لمساعدتها على تحقيق أولويات سياستها الداخلية والخارجية الرئيسية. وأصبحت الصراعات بين اعضاء الحركة، التي اعتبرت نفسها “ضمير الانسانية”، أكثر توتراً ووضوحاً. وفي قمتي نيودلهي عام 1983 وهراري عام 1986، أعرب قادة بعض دول الحركة صراحة عن وجهة النظر القائلة بضرورة حلها. واستعرضت الدول الأعضاء بشكل نقدي دور الحركة حتى تاريخه، ومدى امكانية مواصلة الاجراءات السابقة لمعالجة القضايا العالمية الرئيسية، مثل معالجة التنمية الاقتصادية للدول الفقيرة في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية بشكل أكثر كفاءة. وبهذا المعنى كان على الحركة أن تتكيف مع الظروف الجديدة في العالم وتعيد تحديد استراتيجية تحقيق أولوياتها واهدافها. وكان يتطلب ذلك تحولاً نحو ” مفهوم الثلاثي القاري ” The three Continental Concept (آسيا – إفريقيا – أمريكا اللاتينية)، الذي يمثل خروجاً عن فكرة تيتو الخاصة بالتوجه للعالمية.
وفي نهاية الحرب الباردة، وانفراد الولايات المتحدة بإدارة النظام الدولي، والعمل خارجه متى رأت ذلك، تمنى العديد من الدول الصغرى أن تصمد حركة عدم الانحياز أمام ضغوط عديدة مورست على معظم اعضائها([10]). ومع ذلك لم تصمد هذه الرؤية طويلاً، ولم يعد النظام الدولي آحادي القطب، حيث تتراجع الولايات المتحدة، وظهرت دول جديدة تتمتع بالقوة والقدرة على التأثير الاقليمي والدولي في “عالم ما بعد أمريكا”([11]). وفي عالم اليوم، هناك تحديات غير مسبوقة يتعين على دول الحركة التضامن لمواجهتها. فأزمة البيئة تزداد عمقاً([12])، والآثار الكارثية لتغير المناخ باتت واقعاً كما تتزايد أوجه التفاوت في الحصول على المنافع الاقتصادية والاجتماعية الاساسية حول العالم، على نحو ما كشف عنه وباء “كوفيد – 19”.
والواقع أنه على خلفية المنافسة المحتدمة بين الولايات المتحدة والصين، خاصة في منطقة آسيا والمحيط الهادي، يعتقد البعض أن الظروف الجيوسياسية تعيد فتح الفرص أمام حركة عدم الانحياز لكي تطفو على السطح في ظل الحقائق الجديدة في المنطقة، وهي عملية يبدو أنها جارية بالفعل. ذلك أن عدم الانحياز لا يعنى بالضرورة الحياد أو العزلة في سياق سياسات التكتلات، وبدلاً من ذلك، تسعى الحركة، من خلال المشاركة النشطة في السياسية العالمية، الى التأثير في سياسات القوى المتنافسة لتعديل نظرتها الجيوسياسية. وفي عالم أكثر عولمة وترابطاً، يمكن لحركة جديدة أن تكون بمثابة رابط، مما يسهل التفاعل بين القوى المتنافسة.
ويعزز من الاتجاه المشار اليه، رؤية تقول أنه ” إذا كانت الحرب الباردة الجديدة حتمية بالفعل، فإن نسخة جديدة ومحسنة من الحركة ضرورية للغاية”، فالعديد من البلدان” ممن لا يريد المجازفة بالحرب، ولا يرغب في الانجرار الى التنافس بين الصين والولايات المتحدة، ويريد إقامة علاقات ودية وبناءة مع الجميع، تستحق ان يسمع صوتها”([13]).
وتعتقد وجهة النظر هذه أن حركة عدم الانحياز عززت أمن وسيادة أعضائها في الجنوب، الذين لا يرغبون في اجبارهم على الانضمام الى الكتلة السوفيتية أو قبول الهيمنة الأمريكية، وأنه رغم فشلها في مواقف عديدة إلا أنها ماتزال نشطة ككتلة، خاصة في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
في السياق عالية يعتقد بعض المحللين الغربيين أن هناك مساحة لإحياء الحركة كآلية موازنة ناعمة ضد الدول القوية([14])، من خلال محاولة نزع الشرعية عن السلوك التهديدي للقوى العظمى، لا سيما من خلال نشاطها في الامم المتحدة وغيرها من المحافل مثل لجنة نزع السلاح والقرارات العديدة الصادرة عن المنظمة الدولية. وتستحق الحركة تقديراً جزئياً لتصفية الاستعمار، لاسيما في الخمسينيات والستينيات في افريقيا وأجزاء من آسيا ومنطقة البحر الكاريبي من خلال نشاطها في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أعلنت انهاء الاستعمار كهدف رئيسي عام 1960.
ويعتقد هذا البعض أن صعود الصين والهند، بأجندتهما الطموحتين، يجعل من الصعب على أي منهما ان يأخذ زمام المبادرة في تنظيم حركة عدم الانحياز اليوم، مضيفاً أن جهود الصين الرامية الى ربط الدول الإفريقية والآسيوية بها من خلال مبادرة الحزام والطريق، قد قلصت من خيارات العديد من البلدان النامية. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه القيود، تمكن الكثيرون من إبعاد الصين عسكرياً من خلال رفض منح تسهيلات عسكرية وأيضاً المساومة بذكاء مع القوى الأخرى للحصول على دعم اقتصادي إضافي. ولذا أظهرت هذه الدول بالفعل بعض عناصر الحكم الذاتي الاستراتيجي التي تفضلها حركة عدم الانحياز. وبمعنى آخر يقدر هذا البعض أنه بوسع الدول الصغيرة تطوير” روح باندونج” جديدة، مع الأخذ في الاعتبار الحقائق الجديدة. وفي هذا السياق يقترح قيام الدول النامية ببذل المزيد من الجهود من أجل انخراط الصين والهند وتهدئة التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا.
-
– مصر والحركة:
