تحليل لنتائج الانتخابات الإسرائيلية وانعكاساتها على الداخل الإسرائيلي وعلى عملية السلام
May 5, 2019مشاركة السفير/عزت سعد في مؤتمر “حوار الحضارات الآسيوية…ومفهوم بناء مجتمع يتشارك مستقبل البشرية” بكين (15 إلى 17 مايو 2019)
May 17, 2019
مقدمة:
في 4 ابريل الماضي، احتفلت منظمة حلف شمال الاطلنطي (ناتو) بعيدها السبعين. وكما هو معروف فقد تأسس الحلف في السنوات الاولي للحرب الباردة( 1949.( واذا كان الهدف الرئيسي للحلف هو ضمان أمن أعضائه، إلا أنه لم يكن أبداً تحالفاً عسكرياً محضاً، بل تحالف سياسي أيضاً([1])، يقوم على تحقيق التطلعات المشتركة لأعضائه” المصممون على حماية الحرية والتراث المشترك وحضارة شعوب الدول الاعضاء، التي تقوم على مبادئ الديمقراطية والحرية الفردية وسيادة القانون”، وفقاً لما نصت عليه المعاهدة المنشئة للحلف .
والحقيقة أن انشاء حلف الناتو، العسكري أساساً جاء لمنع الاتحاد السوفيتي من السيطرة على اوروبا التي دمرت الحرب قوها الرئيسية ( المانيا، فرنسا، ايطاليا وبريطانيا)، لدرجة انها كانت عرضة للغزو السوفيتي.
وفضلاً عن ذلك كان الناتو بمثابة أداة لإعادة تأهيل قوي المحور (المانيا وايطاليا) تحت وصاية المنتصر. ولقد كانت ادارة ترومان واضحة في التأكيد على أن الهدف الرئيسي من نشر القوات العسكرية الامريكية في اوروبا في اوائل الخمسينات هو البقاء طويلاً بما يكفي لتصحيح توازن القوي، وليس البقاء للأبد.
وبحلول الستينات من القرن الماضي، تم استعادة هذا التوازن. اذ ازدهرت اقتصادات اوروبا الغربية، وأصبحت بريطانيا وفرنسا قوتين نوويتين، وتم ترويض النزعة العسكرية الالمانية. وخلال حرب فيتنام، لم يكن هناك أي قلق أمريكي بشأن التهديد السوفيتي، وقامت الولايات المتحدة بحشد قواتها التقليدية في اوروبا لدعم حربها في الهند الصينية، بينما لم يسهم حلفاؤها الاوروبيون بأي جهود في فيتنام. وبحلول عام 1968، مع انهيار حكومة تشيكوسلوفاكيا وجيشها، بدا حلف وارسو ضعيف القدرة وقليل الحيلة. وقد أدي انهيار الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991 الي إزالة أكبر تهديد أمني لحلف الناتو، ومعه بالتالي الاساس المنطقي للوجود العسكري الامريكي في اوروبا([2])، إلا أن الحلف استمر حتي اليوم، حيث ما يزال العديد من الدول الاعضاء فيه يرون أهمية الابقاء عليه، بل وتعزيز دوره لمواجهة التحديات المعاصرة.
وقد احتفت الدول الأعضاء بالمناسبة باجتماع لوزراء الخارجية في العاصمة الامريكية واشنطن، سبقه بيوم لقاء موسع بالكونجرس بحضور وزراء دفاع دول الحلف، كما استقبل الرئيسي الامريكي أمين عام الحلف Jens Stoltenberg ، الذى أستقبل بتصفيق حار من جلسة مشتركة لمجلسي الشيوخ و النواب، مؤكداً دعمه له، بعد أن كان قد هدد بالانسحاب منه بدعوي ضخامة ما تتحمله الولايات المتحدة من اعباء مالية فيه وعدم مساهمة الدول الاعضاء الأخرى نصيبها من هذه الاعباء.
وبغض النظر عن حقيقة ان بعض اعضاء الحلف مازالوا رافضين لتحمل انصبتهم في موازنته، وتباين وجهات نظر العديد من الاعضاء فيما يتعلق بمصادر التهديد التي يتعين على الحلف مواجهتها، إلا أن هذا الاخير يواجه بالفعل تحديات داخلية من بعض الدول الاعضاء، التي لم تعد مهتمة بتبني قواعد الديمقراطية الليبرالية المفترض ان الحلف أنشئ لكي يدافع عنها.
ويضاف الي ذلك تحديات خارجية قصيرة الأمد وأخري طويلة ممثلة في روسيا والصين، الامر الذي يستوجب إعادة النظر في آليات الحلف وأدواره في التعامل مع الحروب غير التقليدية السيبرانية وادارة الازمات وعمليات الاستقرار، التي تستوجب المزيد من مواءمة قدرات الحلف.
انجازات الحلف:
في تقدير البعض([3])، يرجع صمود الحلف لكي يحتفل بعيده السبعين الي قدرته على التواؤم مع الظروف المتغيرة واستمراره في مساعدة أعضائه على التعامل مع المشكلات الأمنية والدفاعية التي تواجهها. وفي عقد التسعينات أمكن للحلف تجنب مواجهات وامكانات وقوع حروب في اوروبا من خلال استيعاب دول اوروبا الوسطي والشرقية الشيوعية السابقة في عضويته، كما تعامل مع أزمات منطقة البلقان ممثلة في انهيار يوغسلافيا وميلاد ست جمهوريات على انقاضها. كذلك بدأ الحلف في نشر قوات بأعداد كبيرة ما وراء أقاليم الحلفاء لأغراض ادارة الازمات العسكرية. وعندما ضرب الارهاب الدولي الولايات المتحدة عام 2001، أعلن الحلف عن تفعيل المادة الخامسة من الوثيقة المنشئة له بشأن الدفاع الجماعي، وهو القرار الذي دعا كل الدول الاعضاء، وحتي البعض من غير الاعضاء، الي ايفاد قوات الي افغانستان لمدد مطولة خاصة مع استمرار الخسائر.
ومع انشاء تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام، بتداعياته الامنية المباشرة وغير المباشرة على الدول الاعضاء في الحلف، اتخذ هذا الاخير سلسلة من تدابير بناء القدرات والتدريب لمواجهة تقدم داعش – كذلك، وبعد قيام روسيا باستعادة شبه جزيرة القرم، قام الحلف برعاية وتقديم الدعم العسكري المباشر للميليشيات في شرق اوكرانيا وبدأ في تعزيز حضوره في جمهوريات البلطيق، وفي شمال ووسط أوروبا، حيث تبني الحلف عملية مواءمة استهدفت إعادة بناء قوته الرادعة ودفاعة الجماعي.
ومنذ بدايات قمته في ويلز عام 2014، دخل الحلف في عملية تحول كبير، ساعياً الي تعزيز قدرته على ادارة مهامه الاساسية للدفاع الجماعي وادارة الازمات والتعاون الأمني([4](.
كذلك يجري الحلف المزيد من المناورات بكثافة لم يشهدها منذ عقدين، وذلك في مناطق عديدة منها النرويج وآيسلاند وشمال المحيط الاطلنطي وبحر البلطيق وغيرها، وذلك بجانب نشر قوات في كل من استونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، تنفيذاً لقرارات كان الحلف قد اتخذها في قمته في وارسو عام 2016. كذلك انشأ الحلف دفاعاً سيبرانيا كجزء من الدفاع الجماعي، مؤكداً أن أي هجوم سيبراني على اعضائه يمكن ان يستدعي تطبيق المادة الخامسة. وفي هذا السياق أقر الحلف عام 2016 بأن الفضاء السيبراني هو منطقة عمليات للحلف.
الحوار بين الناتو وبعض الدول المتوسطية:
هناك حوار بين الناتو وبعض دول جنوب المتوسط، أطلق بمبادرة من الحلف منذ عام 1994 ويشمل سبع دول هي كل من مصر والجزائر واسرائيل والاردن وموريتانيا والمغرب وتونس. ويعكس الحوار قناعة الحلف بالارتباط الوثيق بين الأمن الاوروبي والأمن والاستقرار في منطقة المتوسط. ويمثل الحوار جزءاً لا يتجزأ من مساعي الحلف التواؤم مع البيئة الأمنية المتغيرة ما بعد الحرب الباردة كما يمثل مكوناً هاماً من سياسة الحلف لإرساء تعاون مع دول الجوار ([5]).
ويرتبط الحلف ببرامج تعاون مع الدول الشريكة، كل على حدة حسب رؤية واحتياجات كل دولة وأهدافها من هذا التعاون.
وتجدر الاشارة الي ان الحوار مع الحلف هو ثنائي في المقام الاول تحت صيغة ناتو + 1، وان كان الحوار يسمح أيضاً باجتماعات متعددة الاطراف على نحو منتظم في صيغة ناتو +1. وفيما يتعلق بالتعاون السياسي بين الجانبين، تتولي متابعته ” لجنة السياسة والشراكات”، تحت اشراف مجلس شمال الاطلنطي (NAC)، التي أنشأها الحلف عام 2011 لتحل محل ” مجموعة تعاون المتوسط (MCG) التي كان الحلف قد انشأها في قمته بمدريد في يوليو 1997. وتجتمع اللجنة بانتظام على مستوي المستشارين السياسيين لمناقشة كافة الموضوعات ذات الصلة بالحوار بما في ذلك المزيد من تطوير.
ويعقد الحلف مشاورات سياسية منتظمة في صيغة( ناتو+1) على مستوي السفراء ومجموعات العمل، وهو ما يوفر فرصة لتبادل وجهات النظر حول القضايا المتعلقة بالأمن في منطقة المتوسط والمزيد من تطوير أفاق التعاون السياسي والعملي في اطار الحوار. كذلك تعقد اجتماعات صيغة ( ناتو + 7)، بما في ذلك صيغة مجلس شمال الاطلنطي +7 بانتظام، خاصة في اعقاب اجتماعات الحلف على مستوي القمة والوزاري واجتماعات رؤساء الاركان والفعاليات الهامة الاخرى للحلف. ويشمل البعد السياسي للتعاون بين الحلف وشركائه من دول جنوب المتوسط زيارات كبار مسئولي الحلف لهذه الدول لإجراء مشاورات سياسية حول قضايا التعاون بين الجانبين. ووفقاً للمفهوم الاستراتيجي الجديد الذي اعتمدته قمة الحلف في لشبونة في نوفمبر عام 2011، فقد تم تحديد ” الأمن التعاوني ” كواحد من اولويات ثلاث للتحالف ويمثل فرصة لنقلة نوعية للشراكات مع الحلف من خلال مشاورات سياسية معززة من أجل دعم المصالح المشتركة بين الجانبين. ويتم وضع تدابير التعاون العملي بين الجانبين في برنامج عمل سنوي يشمل عقد ورش عمل وأنشطة أخرى عملية في مجالات تحديث القوات المسلحة وتخطيط الاغاثة المدنية وادارة الأزمات وأمن الحدود والاسلحة الصغيرة والخفيفة والدبلوماسية العامة والتعاون العلمي والبيئي والمشاورات حول الارهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل.
ويشمل الحوار مع الناتو بعداً عسكرياً يتضمنه برنامج العمل السنوي ويضم دعوات لدول الحوار لمراقبة، وأحياناً المشاركة في، المناورات العسكرية للحلف وحضور دورات تدريبية وانشطة اكاديمية أخرى في مدرسة الناتو في مدينة Oberammergau الالمانية وكلية الدفاع التابعة للناتو في روما وزيارة للمؤسسات العسكرية للحلف. ويشمل البرنامج العسكري أيضاً زيارات للموانئ من قبل القوات البحرية للحلف وعقد دورات تدريبية من قبل فريق التدريب المتنقل للحلف، وزيارات من خبرائه لتقييم إمكانات المزيد من التعاون في المجال العسكري. وتجدر الاشارة الي ان اجتماعات صيغة ناتو + 7 حول البرنامج العسكري والتي تشمل ممثلين عسكريين من الحلف ومن الدول السبع المتوسطية المشاركة في الحوار، تعقد مرتين في العام. وهناك آليات ومجالات تعاون عديدة امام الدول السبع في علاقاتها بالناتو تبلورت من خلال الممارسة عبر السنوات الماضية)[6](، بما فيها التعاون المخابراتى وفي مجالات مكافحة الارهاب.
وفي تقدير بعض المحللين([7])، فإن الحوار بين الحلف وبعض الدول المتوسطية لم يحقق الاهداف المرجوة منه كما لم يساهم في محو رؤي هذه الدول وشعوبها لدور الحلف والغرب بصفة عامة في الشرق الاوسط، وذلك لافتقاده الي الآليات والوسائل الكفيلة بتغيير هذه الرؤي.
تحديات تواجه الحلف:
يلخص المحللين التحديات التي يواجهها الحلف في نوعين من التحديات من داخل الحلف ذاته: الاعباء المالية وكيفية تقاسمها فيما بين الدول الاعضاء، من ناحية، وتباين رؤي هذه الدول فيما يتعلق بمصادر التهديد من ناحية أخرى. هذا بجانب تحديات خارجية.
-
– فيما يتعلق بتقاسم الاعباء المالية، يعتقد بعض المحللين أن إدارة ترامب تغالي في مسألة تحمل الولايات المتحدة نسبة 70% من نفقات الناتو، بينما تتحمل الدول الاوروبية وكندا نسبة 30% فقط من هذه النفقات. فالحقيقة هي انه وفقاً لأرقام دورية “التوازن العسكري”، فإن النفقات المباشرة التي تحملتها الولايات المتحدة للدفاع في اوروبا عام 2018 بلغت 35.8 مليار دولار، بالمقارنة بمبلغ 264 مليار دولار تحملتها الدول الاوروبية الاعضاء([8](.
وفي التقدير فإن رفض بعض الدول الاوروبية الالتزام بالنسب المحددة للإنفاق الدفاعي وتنمية القدرات العسكرية هو ما يعطي ترامب الفرصة لتصوير حلفائه على انهم لا يتحملون شيئاً. وتأتي ألمانيا على رأس قائمة هذه الدول، وان كانت قد بذلت جهداً واضحاً، بعد قمة الحلف عام 2014، لتقديم مساهمات فعالة لعملية التحول في الحلف والانشطة المرتبطة بذلك.
-
– أما التحدي الأخر الأكثر أهمية فيتمثل في انقسام الدول الاعضاء حول رؤيتها لمصادر التهديد. ذلك ان مقارنة أوراق استراتيجية الحلف الأمنية أو الدفاعية منذ عام 2014 تكشف عن وجود قوائم متماثلة للتهديدات والمخاطر الأمنية، غير أن أولويات الدول في هذا الشأن وما تستخلصه من نتائج ارتباطاً بقدراتها العسكرية، هو الذي يشهد تباينات. فدول أوروبا الوسطي والشرقية تري في روسيا التهديد الأكبر، وبالتالي لا تشهد موازناتها العسكرية تخفيضاً كبيراً بالمقارنة بالدول الاوروبية الأخرى الاعضاء، خاصة في اعقاب الأزمة المالية الاقتصادية العالمية في 2008/ 2009. كما تستثمر المجموعة الاولي من الدول في قدراتها الدفاعية أكثر من الثانية. وبطبيعة الحال فإن اختلاف الاولويات هنا يمثل تحدياً لقدرة الحلف على التخطيط لقدرات متماسكة متوسطة وطويلة الأمد تخدم كل الدول الاعضاء. وبمعنى آخر من المستحيل والحال كذلك الاتفاق على قائمة أولويات بالمخاطر التي تواجه الحلف([9]).
-
– إرتباطاً بما تقدم، فإن التصريحات المتكررة من جانب الرئيس ترامب بعدم جدوي الحلف وبرغبته في الانسحاب منه، وما تواتر من انباء حول محاولات مساعديه اقناعه باستمرار الولايات المتحدة عضواً فيه، قد أضرت كثيراً بوضعية الحلف وتماسكه، وهو ما يمكن التعرف عليه من تزايد عدد القادة الأوروبيين الداعين الي ذاتية أوروبية اكبر في مجال الدفاع بعيداً عن الحلف، ومنهم الرئيس الفرنسي ماكرون.
-
– يضاف الي قائمة التحديات من داخل الحلف نفسه، مواقف الدول الاعضاء التي لم تعد تراه كمؤسسة للدفاع عن الديمقراطيات الغربية. وعلى سبيل المثال، قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتعزيز روابطه مع كل من روسيا وايران، بل والتمسك بشراء منظومة الدفاع الصاروخي الروسية 400-S، ومواجهاته مع الولايات المتحدة الامريكية حول مصير عبدالله جولن ومحاولاته المستمرة استثارة المشاعر المعادية للغرب في أوساط الجاليات التركية في الخارج، كما حدث في المانيا. وقد دفع ذلك نائب الرئيس الامريكي مايك بنس في جلسة استماع في الكونجرس مؤخراً، الي القول بأنه ” يجب على تركيا أن تختار: هل تريد أن تظل شريكاً حاسماً في أنجح تحالف عسكري في تاريخ العالم؟ أم انها تريد المخاطرة بأمن تلك الشراكة من خلال اتخاذ قرارات متهورة تقوض تحالفنا؟”. كذلك يؤكد الرئيس المجرى فيكور اوربان أهمية تطوير علاقاته بنظام الرئيس بوتين في وقت تري فيه دول اخري اعضاء انه نظام يناهض مبادئ الحلف. وينصرف الشيء ذاته الي بولندا التي اتجهت نحو نظام للحكم يري بعض الدول الاعضاء انه يتناقض مع الديمقراطية الليبرالية.
-
– اضافة الي ما تقدم، يتجنب الحلف مناقشة العديد من القضايا الدولية التي تتباين بشأنها مواقف الدول الاعضاء. ومن ذلك مثلاً العلاقات مع ايران والأزمة السورية والاوضاع في هذا البلد ما بعد انتهاء الحرب الأهلية والاوضاع المستقبلية في بحر الصين الجنوبي. بل انه فيما يتعلق بروسيا – التي تعد التهديد الخارجي والأكبر للحلف من منظور الأغلبية الساحقة لأعضائه كما سيلي البيان- كثيراً ما يشير الرئيس ترامب الي أنه يأمل إلا تكون روسيا تهديداً أمنياً، وانه يرغب في علاقة جيدة مع موسكو، وانه يعتقد أن بلاده ستتعاون معها، مشير الي ان ” الارهاب ” هو العدو الحقيقي للجميع.
-
التحديات الخارجية للحلف:
تظل روسيا هي التهديد الخارجي الأكبر لحلف الناتو، على الأقل في المدي القصير والمتوسط. في المقابل تري موسكو ان تمدد الحلف شرقاً منذ انتهاء الحرب الباردة يستهدف في الأساس تقويض أمن واستقرار روسيا.
وفي تقدير موسكو فإن عملية الناتو العسكرية في يوغسلافيا قد خلقت هوة عميقة بين روسيا والغرب وفاقمت من مشكلة الأمن الاوروبي، كما برهنت على ان الغرب مستعد دائماً للعمل خارج الامم المتحدة والتجاهل التام لآراء الاعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، كما برهن الغرب بعمليته هذه على أن الحلف ليس فقط تنظيماً سياسياً برسالة انسانية، بل وأيضاً تكتل عسكري فاعل مستعد لاتخاذ قرارات حاسمة تمس الحرب والسلام. ويشير الروس في ذلك الي مساهمتهم في محاولة انهاء العمليات العسكرية في يوغسلافيا السابقة من خلال مباحثات مع الرئيس ميلوسوفيتش، وهو ما لم يمنع الغرب من تجاهل روسيا ومصالحها في المنطقة([10]).
وفي هذا السياق، ومنذ حرب الايام الخمسة مع جورجيا في اغسطس عام2008، أحرزت موسكو تقدماً كبيراً على صعيد التحديث العسكري وتبنت سياسة متشددة تجاه تحركات الحلف في المناطق المتاخمة لها. فى المقابل لم يكف الحلف عن نهجه المتشدد تجاه موسكو. وعلى سبيل المثال دعا أمين عام الحلف، فى كلمته أمام مجلسي الشيوخ و النواب الأمريكيين فى إبريل الماضى، الى المزيد من توسيع الحلف و الاستعدادالعسكرى لمواجهة ما أسماه” البناء العسكرى الكثيف من قبل روسيا من القطب الشمالى الى البحر الابيض المتوسط ومن البحر الاسود الى البلطيق”. وكان ستولتنبرج ، قبيل مغادرته الى واشنطن، قد شارك فى مناورات للحلف فى جورجيا أستغرقت 12 يوما، كما قام الحلف بنشر كتائب مقاتلة فى جمهوريات البلطيق و بولندا ، بجانب تنشيط أنشطته البحرية فى البحر الاسود وتقديم أسلحة فتاكة لأوكرانيا.
والواقع أن التدخل العسكري الروسي في سوريا، وفي شرق اوكرانيا، قد وفر للمؤسسة العسكرية الروسية خبرة عسكرية هامة. ورغم ما يردده المحللين الغربيين من أن هناك أوجه ضعف عديدة اقتصادية ومالية وديموجرافية تضع روسيا تحت ضغط فيما يتعلق بحجم إنفاقها العسكري، كما أن التحديث العسكري الروسي يستند على تكنولوجيا من الثمانيات والتسعينات([11]). إلا أن كل ذلك لا يمنع من التأكيد على أن روسيا تظل التهديد الأكبر للحلف وللدولة القائدة فيه، وذلك على النحو الذي أكدته استراتيجية الأمن واستراتيجية الدفاع القوميين الامريكيين الصادرتين في ديسمبر 2017 ويناير 2018، على التوالي. بل أنه في ضوء المواجهة بين روسيا والغرب منذ عام 2014 بعد الأزمة الاوكرانية وضم القرم، لم يعد أحد من الحلفاء الاوروبيين يتحدث عن تحويل الناتو الي منظمة سياسية بحتة، أو تحويل الحلف الي منظمة أمنية عالمية، حيث باتت روسيا بمثابة التهديد الرئيسي، وقدمت حلاً نموذجياً لمشكلة بحث الحلف عن هوية مؤسسية له([12]).
ويضاف الي روسيا كتحدي خارجي للحلف، الصين التي ينظر اليها كتحدي مستقبلي على أساس انها وان كانت تفتقد حالياً للخبرة القتالية المناسبة كما أنها تمر بمرحلة اصلاح عسكري قد تطول، إلا انها- على العكس من روسيا، أثبتت أنه بوسعها الابتكار والاستثمار بكثافة وبناء قدرات عسكرية في بعض المجالات تمثل تحدياً جدياً لأفضل ما يمكن ان يقدمه الغرب. وفضلاً عن ذلك، من غير المرجح أن تتحدي الصين حلف الناتو مباشرة براً، كما تفعل روسيا، بالرغم من امكانية التزايد الكبير في الحضور الصيني في القطب الشمالي والبحر الابيض المتوسط خلال العقود القادمة. ويرجح الخبراء ان يؤدي صعود الصين كقوة عسكرية كبرى الي اجبار الولايات المتحدة على مطالبة حلفائها الاوروبيين بدعمها في سيناريو مواجهة أمريكية / صينية في المحيط الهادئ. ويثير ذلك مسألة ما اذا كان الاعضاء الاوروبيين في الناتو قادرين على تعويض الاصول الامريكية التي سوف يتم سحبها من اوروبا واعادة نشرها في منطقة العمليات الامريكية في المحيط الهندي والهادئ في حال وقوع أزمة امريكية / صينية([13])، وهو ما يستوجب حرص الناتو على الابقاء على قدراته ورسالته.
والحال على ما تقدم، يقدر بعض المحللين انه بغض النظر عن موقف ترامب من الحلف، إلا أن هذا الأخير سيظل معتمداً في حروبه وانشطته الخارجية الي حد كبير على المساهمات العسكرية الامريكية على نحو ما حدث في البوسنة وكوسوفو وليبيا، رغم انه لم ينتج عن هذه المساهمات نظم ديمقراطية ليبرالية، كما تشير وثيقة انشاء الحلف. بل ان ثلاثة اعضاء جدد في الحلف، انضمت إليه بعد انتهاء الحرب الباردة، هي كل من المجر وبولندا وبلغاريا، تتآكل نظمها الديمقراطية. في الوقت ذاته يشير هذا البعض الي أن الحلف يجعل من العمل العسكري الامريكي في الخارج أمراً يسيراً جداً، حيث يسّهل الهيكل الحالي للحلف في اوروبا من التدخل العسكري في الشرق الاوسط، رغم محاولات الولايات المتحدة تقليل وجودها العسكري في هذا الجزء من العالم([14].(
ويضيف هذا البعض أن الناخب الامريكي يحب فكرة وجود حلفاء، وبالتالي فدعم الحلف والترويج لذلك يساهم في كسب ود الناخبين، وهو ما يدركه الاوروبيين جيداً ويعولون عليه ويؤمنون بمصداقية الالتزام الامريكي تجاه الجيوش الاوروبية الاعضاء في الحلف، مما يجعلهم يتقاعسون عن تمويل جيوشهم على النحو الافضل، بما في ذلك أكبر القوي القتالية الاوروبية (فرنسا وبريطانيا) التي تحاول بالكاد الالتزام بإنفاق 2% من الناتج المحلي الاجمالي على الدفاع.
والخلاصة هي أن هناك تحديات تواجه الحلف من داخله، وأخرى من خارجه، يتعين عليه التعامل معها اذا ما اراد الاستمرار في اداء مهامه لاسيما مساهماته في ادارة الازمات الدولية أو المعاونة في جلب الاستقرار للدول الهشة ومناطق النزاعات، وذلك بجانب التهديدات الخارجية ممثلة في روسيا والصين. وسيكون على الحلف بناء شراكات مع الدول المتشابهة التفكير في مناطق أخرى من العالم، ومع منظمات دولية تتداخل وظائفها ونطاقها الجغرافي – مثل الاتحاد الاوروبي – مع الحلف، ومع الدول التي تسعي الي طلب المساعدة أو الدعم في قضايا الأمن والدفاع. وستظل المهام الرئيسية الثلاث للحلف، وهي الدفاع الجماعي وادارة الازمات والأمن التعاوني، بمثابة تحديات له في العقد القادم خاصة في ظل المناخ الحالي، حيث يهدد الرئيس الامريكي بسحب دعمه للحلف.
وكنتيجة لقرار عقد قمة الحلف في ديسمبر 2019 على مستوي رؤساء الدول والحكومات، سيكون ترامب حاضراً، وهو ما قد يشكل خطراً حقيقياً للحلف، خاصة وأنه مع فشل الدول الاعضاء في زيادة نفقات دفاعها، قد يحاول الرئيس الامريكي بث المزيد من الشكوك في جدوي استمرار الحلف بتداعيات يتعذر تداركها.
المراجع:
([3]) – للمزيد من التفاصيل راجع :
([4]) – Ibid.
([5]) – انظر في ذلك:
([6])- ibid.
([7])- Yannis A.Stivachtis & Benjamis Jones: NATO’S Mediterranean Dialogue: an assessment, November 2009.
([8] (- Ibid.
([11] (- NATO at 70, op.cit.
([13]) – الناتو في عيده السبعين – مرجع سابق.
([14])- Barry R.Poser: Trump Aside, what’s the US role in NATO, op.cit.
نشرت بمجلة الدبلوماسى – العدد 279 ( مايو 2019).