وماذا بعد؟( 1)
أبريل 17, 2020من وحي الجائحة: الانضباط والعمل الجماعي طريق النجاة
مايو 5, 2020
الرئيس الشرفي للمجلس المصري للشئون الخارجية
أبدأ بسؤال: هل ستكون تجربة الصراع العالمى مع كورونا دافعاً إلى أن يبحث العالم فى مدى ملاءمة نظام الأمن الجماعي الذي تضمنه ميثاق الأمم المتحدة لحماية السلم والأمن الدوليين؟
عندما جاءت عاصفة الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وبعد أن لاحت بوادر النصر للحلفاء بعد معركة العلمين التقى عدد من خبراء القانون والتنظيم الدولي في اجتماع تبنته إدارة الرئيس روزفلت في ضاحية دومبارتون أوكس بواشنطن وكان الهدف هو دراسة وضع تنظيم دولي جديد بعد أن فشل نظام عصبة الأمم في منع دول المحور الثلاث ألمانيا وإيطاليا واليابان من الاعتداء على الدول المجاورة لها مما أدى إلى اندلاع أكبر حرب عرفها التاريخ.
كان المجتمعون يمثلون الحلفاء المنتصرين في هذه الحرب ومن هنا جاءت الدعوة لحضور مؤتمر سان فرانسيسكو مقصوراً على الدول المنتصرة ما دعا المرحوم أحمد ماهر- رئيس وزراء مصر آنذاك- إلى إعلان الحرب على دول المحور حتى يكون لمصر مقعد في مؤتمر المنتصرين بسان فرانسيسكو الذي وضع ميثاق الأمم المتحدة وتم توقيعه في 24 أكتوبر 1945 وقد دفع المرحوم أحمد ماهر باشا حياته ثمناً لهذه الخطوة باغتياله في البهو الفرعوني للبرلمان، بينما كان متوجهاً من مجلس النواب إلى مجلس الشيوخ.
ربما كان من أهم ما جاء في الميثاق هو نظام الأمن الجماعي الذي أودع في مجلس الأمن مسئولية الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وعندما أصيب المجلس بالشلل نتيجة استخدام الاتحاد السوفيتي للفيتو في الأزمة الكورية ابتدع الفكر القانوني الأمريكي سبيلاً للالتفاف حول المجلس بإصدار ما يعرف باسم قرار الاتحاد من أجل السلم والذى يمكن بواسطته للجمعية العامة للأمم المتحدة إصدار قرارات تهدف للحفاظ على المسئولية الجماعية للأمن، وربما كانت مصر هي أول من استفاد من هذا القرار بعد الحرب الكورية عندما قامت إنجلترا وفرنسا وإسرائيل بالعدوان على مصر عقب تأميم قناة السويس (29 أكتوبر 1956) ولجوء كل من إنجلترا وفرنسا بصفتهما دولتين «عضوتين دائمتين» بالمجلس لاستخدام الفيتو لتعطيل صدور قرار وقف العدوان فلجأت الدولتان الكبيرتان الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إلى قرار الاتحاد من أجل السلم ونقلت المسئولية للجمعية العامة وأمكن تعبئة الرأي العام الدولي وإصدار القرارات اللازمة لوقف العدوان وتشكيل قوات الطوارئ الدولية للإشراف على انسحاب القوات المعتدية من الأراضي التى احتلها، وكانت هذه الحقبة هي أزهى عصور الأمم المتحدة قاطبة.
وظلت السويس نقطة التحول التي قادت إلى حركة التحرر الكبرى وتصفية الاستعمار في إفريقيا.
ذهبت هذه الحقبة ثم جاءت حقبة أخرى كان أبوها الروحي هو هنري كيسنجر الذي قال أن الحفاظ على السلم والأمن الدوليين يتم أساساً من خلال السياسات الواقعية وتوازن القوى. في هذه الحقبة جرى أكبر تكديس للأسلحة النووية في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مما جعل توازن القوى بينهما يتحول إلى توازن للرعب.
وبانهيار الاتحاد السوفيتى ومجيء عالم القطب الواحد جرت أكبر حرب يشهدها العالم تكون قائمة على أساس من الأكاذيب وتلفيق الأدلة وهي الحرب على العراق عام 2003، وبمجيء الرئيس ترامب تحول مبدأ توازن القوى إلى مبدأ آخر هو مبدأ أمريكا أولاً ثم جاءت كورونا لتثبت أنه لا عاصم حتى للولايات المتحدة من عدوان يشنه الفيروس. عبرت كورونا القارات والمحيطات ونفذت مباشرة إلى جسم الضحية التى يمكن أن تكون على سبيل المثال رئيساً لوزراء عضو دائم بمجلس الأمن.
كورونا ، هذا الفيروس الذى لا يرى بالعين المجردة أوقف كل الدول على قدم وساق، لم يكن هناك من عاصم سوى الطهارة والنظافة الشخصية والعزلة والاعتزال كما نراه الآن فى كل بقاع الأرض. وهذا يطرح السؤال نفسه: هل أصبح نظام الأمن الجماعي فى خبر كان؟ لقد جاء مفهوم الأمن الجماعي على يد المنتصرين في الحرب العالمية الثانية فمن سيكون المنتصر في صراع العالم مع كورونا ؟ لن يكون المنتصر فقط هو مجموعة من الدول بل ستكون الإنسانية جمعاء بإذن الله والحرب مع كورونا لم تكن بالسلاح النووى ولكن بالعلم كما ورد في قوله تعالى: «ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون». سورة البقرة آية 151.
كيف سيكون إذن نظام الأمن الجماعي بعد كورونا أو ما يجب أن يكون؟ سيكون المحور الرئيسي قائماً على التعاون الدولي، وهو بدوره أحد مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، بل إن الأمن الجماعي لا يتحقق إلا من خلال التعاون بين الدول وستزداد أهمية هذا المبدأ الوارد بالتنظيم الدولي أكثر من أي وقتٍ مضى.
قرأت أخيراً مقالاً لهنري كيسنجر وهو يتحدث عن كورونا وأخطاره الداهمة، لم يتحدث عن نظرية الواقعية السياسية أو توازن القوى كما كان يتحدث في الماضي بل تحدث عن الحاجة الملحة للتعاون الدولي. ونشر ريتشارد هاس مدير المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية في العدد الأخير من مجلة شئون خارجية مقالاً عمَا سيكون عليه العالم بعد عاصفة كورونا ويرى هاس باختصار أن العالم سيكون مزيداً مما كان عليه.
ما يهمنى فيما أكتب ليس التحليل وإنما ما أرى أن مصر يمكن أن تطالب العالم به. أعتقد أن فترة ما بعد كورونا ستكون في الأغلب فترة سيولة في الساحة الدولية وبالتالي أرى أن مصر يمكن أن تتبنى مبادرة تنطلق من أن كورونا لم تكن حرباً مع دولة أو مجموعة من الدول بل كانت حرباً على الإنسانية جمعاء أي مع كل الدول. سيكون العالم أو الإنسانية جمعاء بإذن الله هي المنتصر في هذا الحرب وبالتالي علينا أن ندرس ما تكون عليه الحال مثلما فعل المنتصرون في الحرب العالمية الثانية عندما درسوا ما كان العالم عليه قبلها.
الدرس الأساسي الذي يجب أن يستوعبه العالم هو أن تكديس أسلحة الدمار الشامل طوال خمسة وسبعين عاماً الماضية وما كلفته من تريليونات الدولارات لم يحقق أمناً حتى للذين كدسوا هذه الأسلحة، وأن الذين دعوا إلى نظرية الواقعية السياسية وتوازن القوى وأن الدولة التي اعتبرت نفسها قبل الجميع هي أكبر دولة بها ضحايا لكورونا اليوم.
أريد أن تدعو مصر إلى العودة إلى المفهوم الحقيقي للأمن الجماعي أي الأمن للجميع وبالجميع. مصر من حقها أن تنبه العالم إلى أن ثمة حقيقة يجب ألا ننساها وهي أن العالم أجمع كان طرفاً في هذا الصراع في مواجهة العدو الخفي كورونا وأن من حق المنتصر أن يستوعب الدرس ويدعو إلى مستقبل أفضل للعالم ونفكر في إطار الحفاظ على الصحة العامة لكل العالم. وهنا قد يظهر مبدأ جديد يتجاوز الصحة العامة أي الصحة العامة العالمية وستحتاج الإنسانية إلى مؤسسات أكثر فاعلية لحفظ الصحة العامة العالمية للإنسان وما يلزم لها من مؤسسات البحث العلمي وتنظيم دولي للصحة العامة العالمية. تصبح الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل أشياء لا معنى لها وأن الإنفاق الذي يخصص لها ينبغي أن يذهب إلى ما هو أبدى لتحقيق الصحة العالمية والرخاء العالمي.
أعلم أن الكثيرين ممن سيقرأون هذا الكلام سيقولون إنه صادر عن نظرة مثالية لا تنتمي للواقع. ربما نكون اليوم أحوج إلى نظرة مثالية بعد أن رأينا كم كلفتنا نظريات الواقعية السياسية وتوازن الرعب وتفوق دولة على بقية الدول كم كلفنا وكلف البشرية وأنه الأجدر بنا اليوم أن نستلهم المثل العليا من أجل عالم ما بعد كورونا .
نشرت بجريدة الاهرام بتاريخ 25 إبريل 2020 ،و رابط دائم :
http://gate.ahram.org.eg/News/2399847.aspx
)الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهات نظر الكاتب ولاتعكس بالضرورة رؤية المجلس المصري للشئون الخارجية.[1](