النظام العالمى بعد جائحة الكورونا المستجد (Covid-19 )
مايو 18, 2020إدارة الأزمة في الولايات المتحدة ومستقبل الدور الأمريكي في النظام الدولي ما بعد الجائحة
مايو 19, 2020
الأستاذ/د. علي الدين هلال
عضو مجلس إدارة المجلس المصري للشئون الخارجية
ينشغل الباحثون في العالم بالتأثيرات التي سوف تخلُفها أزمة وباء فيروس كورونا المستجد على العلاقات الدولية، وتوازن القوى بين الدول الكبرى، وشكل النظام الدولي. وتتنوع الاجتهادات ما بين مُغرقة في التفاؤل وبحدوث تغييرات جوهرية، وبين متشائمة أو بالأحرى واقعية ترى أن العلاقات والتفاعلات سوف تعود إلى سابق عهدها، وأنه ربما تتغير وتيرتها هنا او هناك، ولكن لن يحدث تغيير هيكلي أو بنائي فيها، واجتهادات ثالثة تتبني موقفًا وسطًا.
لذلك، فمن الأهمية بمكان أن نفكر في منهجية البحث في هذه التأثيرات. وأشير إلى ثلاثة عناصر في هذا الشأن، أولها: ضرورة التمييز بين الآثار ” الخالقة” والتأثيرات ” الكاشفة” عند التحليل، أي التمييز بين الآثار التي خلقتها الأزمة بفعل تأثيرها على هيكل التفاعلات القائم، وتلك التي كشفت عنها أو سرٌعت بها بمعنى أنها كانت موجودة من قبل وجاءت الازمة لتبرزها وتسرع منها. وثانيها: التمييز بين الآجال القصيرة والمتوسطة والطويلة للأزمة، وعدم الانبهار بالأمور التي تحدث في الأجل القصير ثم تتراجع تدريجيًا وتنزوي فيما بعد. وثالثها: التمييز بين ما يتمناه الباحث ويرغب فيه، وبين ما توضحه مؤشرات الواقع وتفاعلاته.
وعندما نبحث في موضوع العلاقات بين الدول، وتوازن القوى والمصالح بينها، وأنماط التعاون والمُنافسة والعداء السائدة ينبغي التسلح بالحذر قبل إطلاق التعميمات. ولكن الأرجح أن العالم لن يعود إلى سابق عهده وأوضاعه قبل يناير 2020 في كثير من المجالات، وأن هذا العام سوف يكون حلقة مفصلية في تطور السياسة بين الدول. وأعتقدُ أن تأثير الأزمة الراهنة سوف يكون أساسًا الإسراع بعمليات وتطورات كانت حادثة في النظام الدولي وسوف تؤدي الأزمة إلى تعميقها والتأكيد عليها.
ويركز هذا المقال على موضوعين هما توازن القوى بين الدول الكبرى، والعولمة ومستقبل النظام الدولي.
أولاً: توازن القوى بين الدول الكبرى:
وأُشير في هذا المجال إلى ثلاثة تطورات هي:
-
تدهور مكانة الولايات المتحدة:
يشير ذلك إلى تراجع دور أمريكا كقائدة للمُعسكر الغربي أو للنظام الدولي. تمثل هذا التطور اقتصادياً في تراجع إسهام الولايات المتحدة في إجمالي الناتج العالمي من حوالي 50% في منتصف أربعينيات القرن العشرين إلى اقل من 20% في الحقبة الثانية من هذا القرن. وأدى هذا إلى ازدياد عدم قدرة الولايات المتحدة على تحمل أعباء القيادة العالمية.
وجاءت الأزمة لتؤكد هذا التطور، فقد أخفقت واشنطن في أن تُقدم نفسها للعالم في موقع القيادة السياسية أو النموذج الأخلاقي الذي ينبغي التشبه به. اتسم سلوك القيادة الأمريكية في مواجهة الأزمة بالتردد والتأخُر في ردود الأفعال والقصور في مواجهة انتشار الوباء فيها. بل وثبت عدم قُدرة نظامها الصحي على توفير مُستلزمات الوقاية والرعاية الطبية بكفاءة وفي الوقت المُناسب. وترتب على هذا القصور في الأداء والانجاز، ازدياد عدد المصابين والمتوفين.
لقد سعى الرئيس الأمريكي إلى التحلل من أي مسئولية له عما حدث، وأشار ببنان اللوم إلى أطراف أخرى. فمرة اتهم الصين بأنها وراء انتشار المرض، ومرة أخرى اتهم منظمة الصحة العالمية بالإهمال والتواطؤ مع الصين، ومرة ثالثة طلب من حكام الولايات في بلاده القيام بدور أكبر. وفي كل الأحوال، كان اهتمامه الأول بانتخابات الرئاسة القادمة وتوظيفه للأمور على النحو الذي يزيد من فرص إعادة انتخابه. ثم جاءت المظاهرات والاضطرابات التي عمت المدن الامريكية في مطلع يونيو بعد وفاة مواطن امريكي من أصل افريقي بسبب قسوة أحد ضباط الشرطة لتلقي بظلال سلبية على الصورة الأخلاقية والمعنوية للولايات المتحدة ورئيسها.
فقد استخدم الرئيس الأمريكي تعبير له دلالة عنصرية في مجال تعليقه على تلك الأحداث. وكان إلحاحه على استخدام القوة المسلحة التي وصلت إلى حجم التهديد بتحريك قوات الجيش تأكيدًا لتدهور المكانة الأخلاقية في إدارته.
-
الصعود الصيني:
وبنفس المنطق، دعمت الأزمة عملية الصعود السياسي الاقتصادي للصين، وانتقال مصادر القوة والنفوذ من الغرب إلى الشرق. فمع أن الصين كانت الدولة الأولى التي ظهر وانتشر فيها المرض، فإنها استطاعت في فترة وجيزة من خلال إدارة سياسية حازمة وجهاز إداري كُفء أن تُسيطر على الموقف مُستخدمة مُختلف تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، وأن تعزل مناطق الوباء. وأثبت نظامها الصحي قُدرة كبيرة على التكيف مع حالة الطوارئ. وبعد شهرين، وتحديدًا في 10 مارس 2020، قام رئيس الجمهورية الصيني بزيارة مدينة “ووهان” مركز الوباء وأعلنت الصين انتصارها على الفيروس. ومع أنه ظهرت حالات مرض جديدة فيما بعد، إلا أنها ظلت منعزلة ومحدودة
وبعد إثباتها للكفاءة التنظيمية والإدارية والطبية، سعت الصين لتحسين صورتها في العالم، فقامت بتقديم المُساعدات للدول الأُخرى التي تعرضت للوباءوالتي كان منها في أوروبا إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وصربيا، وفي آسيا اليابان وماليزيا وكمبوديا. وامتدت هذه المساعدات لتصل إلى أكثر من مائة دولة، مما دعا حكوماتها إلى الإشادة بالموقف الأخلاقي للصين.
-
التوظيف الروسي للفرصة:
وفي ذات الاتجاه، استثمر الاتحاد الروسي الفرصة لتأكيد اتجاهات السياسة الخارجية التي اتبعها الرئيس بوتين، والتي تهدف إلى طرح وجودها كقوة كبرى ومد نفوذها في دول العالم من خلال التجارة والتعاون الفني والتكنولوجي. فطورت روسيا علاقاتها مع أغلب الدول العربية بغض النظر عن شكل نظم الحكم فيها وتحالفاتها الخارجية، وتدخلت عسكريا في سوريا لدعم النظام ضد فصائل المعارضة المسلحة والميليشيات المتطرفة المدعومة غربيا. وكان من شأن هذا التدخل تغيير توازن القوى لصالح الجيش السوري واستعادته لأغلب الأقاليم التي كانت المعارضة المسلحة والميليشيات المتطرفة قد سيطرت عليها لسنوات وتقلص وجودها في محافظة ادلب.
في هذا السياق، وقفت روسيا بحسم إلى جانب الجيش السوري ودعمته عسكريًا في مطلع هذا العام إزاء مُحاولات فصائل المُعارضة المسلحة والميليشيات المُتطرفة المدعومة من تركيا استعادة الأراضي التي كان قد حررها من سيطرتهم في المحافظة. مما أدى إلى دحر هذه المحاولات وهزيمتها وقبول الرئيس أردوغان وقف إطلاق النار على أن تبقى قوات الجيش السوري في المواقع التي حررتها وعدم الانسحاب منها خلافًا لما كان يُصرح به من قبل.
ومع تراجع أسعار النفط بسبب توقف حركة النقل وانخفاض الطلب عليه، كان لروسيا موقفها المستقل في كيفية التعامل مع الموضوع، واختلفت في البداية حول المُقترحات السعودية بشأن خفض الانتاج، وتمسكت بالاستمرار في مُعدلات انتاجها مع حرصها على إعلان أن هذا الخلاف لا يؤثر على مشروعات وبرامج التعاون المُشترك بين البلدين ثم تم الوصول إلى حل مقبول للبلدين فيما بعد.
وقامت روسيا بتقديم الدعم الطبي لكُل من إيطاليا واسبانيا، وهما الدولتان اللتان كانتا الأكثر تضررًا بالوباء في أوروبا. ولم يقتصر دعمها على أدوات الوقاية مثل الكمامات والقفازات والبدل الواقية وإنما تضمن إرسال عشرات الأطباء العسكريين المُتخصصين في مُكافحة الأوبئة إلى إيطاليا الذين قاموا بعمليات التطهير والتعقيم في إقليم لومبارديا مركز الوباء. ولأول مرة، هبطت طائرات عسكرية روسية في مطار إحدى الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الاطلنطي.
وازدادت الدلالة السياسية والمعنوية للدعم الصيني والروسي لإيطاليا في ضوء أن الحكومة الإيطالية دعت دول الاتحاد الأوروبي إلى مُساعدتها وتقدمت بطلب مماثل إلى مفوضية الاتحاد بهذا الشأن، والتي دعت دول الاتحاد إلى الاستجابة لطلب إيطاليا. هذا في الوقت الذي قامت كُل من ألمانيا وفرنسا بفرض قيود على تصدير المُستلزمات الطبية ولم تستجب بقية الدول الأعضاء. أثار ذلك استياء قطاعات واسعة من الرأي العام الإيطالي وليس فقط في دوائر اليمين الشعبوي. ومن مظاهر هذا الاستياء، تصريح السفير الإيطالي لدى المفوضية في 23 مارس بأن الاتحاد الأوروبي لا ينبغي أن يترك إيطاليا وحيدة في هذه الأزمة كما تركها وحيدة في مواجهة أزمة تدفق اللاجئين.
والخلاصة أنه، اهتز الدور القيادي لأمريكا، وسعت بكين وموسكو للقيام بأدوار بديلة، ولكن ظلت واشنطن ممسكة بأوراق اللعبة في كثير من الازمات الدولية. وصحيح أن الطريقة التي تعاملت بها الصين مع أزمة وباء الكورونا أضافت إلى رصيدها الدولي الإيجابي، لأنها نجحت في السيطرة على الوباء، ولكن الوجه الآخر لذلك هو اتهام أمريكا لها بانها تسببت في انتشار المرض لإخفائها المعلومات الكاملة عن الموضوع، ووصف الرئيس ترامب المرض مرة بأنه “المرض الصيني”، ومرات بأنه ” المرض المستورد”.
ثانياً: العولمة ومستقبل النظام الدولي:
يركز هذا الجزء على التأثيرات التي خلفتها الأزمة على العولمة، وعما إذا كانت هذه التأثيرات تبشر بنظام دولي جديد أم لا؟.
-
تأثيرات الأزمة على العولمة والعلاقات بين الدول:
صدر عدد 21 مارس 2020 من مجلة الايكونوميست البريطانية وعلى غلافها صورة للكرة الأرضية وكُتب عليها بالخط الكبير “مُغلق closed”، وذلك في إشارة إلى مناخ الانغلاق والانكفاء على الداخل الذي أصاب دول العالم وأدى إلى اغلاق الحدود البرية، ووقف خطوط الطيران، وتوقف التجارة الدولية، وخطوط الامداد الصناعي والتجاري وتأجيل الأنشطة الرياضية العالمية والقارية. وهو الأمر الذي هلل له أنصار الاتجاهات اليمينية والشعبوية والانعزالية المُعادية للعولمة، واعتبرته انتصارًا لسيادة الدولة والسياسات الحمائية وهزيمة للعولمة، وتعالت أصواتهم بأخطار العولمة والأزمات التي أدخلت العالم فيها كالأزمة المالية الاقتصادية 2008 وأزمة التغيرات المناخية ثُم أزمة وباء فيروس كورونا. بل وتنبأ بعضهم بأن الازمة الراهنة سوف تكونُ نهاية للعولمة.
الحقيقة ليست بهذه البساطة، ولا يمكن الجزم برأي نهائي في هذا الشأن، فالمؤشرات الموجودة حتى الآن مُختلطة بمعنى أن بعضها يتضمنُ جوانب مُعادية للعولمة وأُخرى مُدعمة لها.
فبالنسبة للمؤشرات الدالة على تراجع العولمة، فقد تمثلت في قرارات الاغلاق والمنع والانكفاء على الداخل لوقف انتشار وباء كورونا خلال الفترة مارس-مايو، فهذه القرارات أمر طبيعي من مُنطلق حرص الدول على صحة مواطنيها وسلامتهم وعافيتهم، وهو حرص ينبغي أن يسبق أي اعتبار آخر، وهو الذي ربما يفسر تراخي ألمانيا وهولندا ودول الشمال الأكثر ثراءًا في دعم إيطاليا واسبانيا.
لقد اضطرت الحكومات إلى اتخاذ هذه الإجراءات تحت وطأة الوباء وازدياد أعداد المُصابين والمُتوفين. ولذلك، فإنها سرعان ما اتخذت قرارات التخفيف من هذه الإجراءات بسبب الخسائر الفادحة التي لحقت باقتصاداتها. وفي الأسبوع الأخير من مايو، تم الإعلان عن إجراءات عديدة يتم تطبيقها في شهري يونيو ويوليو، منها: السماح بالطيران بين دول الاتحاد الأوروبي، وعودة خطوط الطيران التجاري بين عدد من عواصم العالم، وقيام شركات السياحة اليونانية بعودة نشاطها لمواطني عدد 31 دولة، وتم بالفعل أول صلاة بالمسجد النبوي والمسجد الأقصى وكنيسة المهد. وتدور العجلة بسُرعة.
أما المؤشرات الدالة على العولمة، فنجدها في كيفية انتشار الفيروس، وآليات ُمكافحته، ونطاق تأثيراته. وهي كُلها مؤشراتُ على أن العولمة قد أصبحت حقيقة قائمة في عالمنا المعاصر. فانتشار الوباء من الصين ليغطي سائر الكُرة الأرضية بكافة قاراتها في زمن وجيز يُشير إلى حجم وكثافة الاتصالات بين البشر، والترابط بين الدول والمُجتمعات.
وتبدو تجليات العولمة واضحة أيضًا في نطاق التأثيرات التي خلًفها هذا الوباء، وأبرزها التأثيرات الاقتصادية، فقد تراجعت البورصات وأسواق المال في العالم، وتأثرت بما يحدثُ في بعضها البعض مما يؤكدُ أننا نعيشُ في اقتصاد عالمي مُترابط. وكان لإغلاق بورصة نيويورك في 16 مارس بداية لسلسلة من التراجعات والانهيارات في بورصات العالم الأخرى، ومؤشرا على أن الاقتصاد العالمي على أبواب مرحلة ركود. يدل على ذلك، التقديرات المتتالية من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنوك المركزية في الدول الصناعية المتقدمة والتي اتفقت جميعا على تراجع معدل نمو الاقتصاد العالمي، وأشارت الى الخسائر الكبيرة التي سوف تتكبدها الدول والتي سوف تزيد على الخسائر التي شهدتها في اعقاب الكساد الكبير في الثلاثينات من القرن العشرين.
رافق ذلك، حالة من الاضطراب بسبب عدم انتظام “خطوط الامداد”، واعتماد المصانع في عدد كبير من الدول على مكونات انتاجها من دول أخرى، مما أدى الى توقف العمل بها فأُوقفت شركة فولكسفاجن لصناعة السيارات عددا من مصانعها في ألمانيا وإيطاليا وسلوفاكيا والبرتُغال واسبانيا، واتخذت شركتا رينو ونيسان إجراءات مماثلة.
كان للعولمة تأثير مُخالف، فقد مكنت تكنولوجيا الاتصال والمعلومات العديد من الهيئات الحكومية والشركات التي لا تُنتجُ سلعًا مادية من الاستمرار في العمل وأن يقوم العاملون فيها بأداء وظائفهم من المنزل وأسهمت أدوات التواصُل الاجتماعي في تقليل الآثار السلبية المُترتبة على التباعد الاجتماعي والعُزلة المكانية التي فرضها هذا الوباء على ملايين البشر.
في هذا السياق، ازداد شعور قادة الدول والمنظمات الدولية بأننا إزاء خطر عالمي عابر للحدود ويتطلب بالضرورة حلولا عالمية، فانعقدت عديد من المؤتمرات التي هدفت إلى تحقيق التعاون الدولي ضد الوباء، وسبل دعم الدول النامية وخصوصاً الأقل مقدرة على توفير الاحتياجات اللازمة لمكافحة الوباء. كان منها اجتماعات مجموعة الدول السبع، ومجموعة الدول العشرين، وقمة عالمية نظمتها الأمم المتحدة بمشاركة خمسون دولة واجتماع قادة دول الاتحاد الأوروبي، وعدد من رؤساء دول الاتحاد الافريقي، ورابطة أمم جنوب شرق آسيا ” الأسيان”، ومنظمة التعاون الاقتصادي في جنوب آسيا.
ما هو تأثير كل ما تقدم على العولمة؟ إذا كان المقصود بالعولمة هو انخراط اقتصادات الدول في سوق عالمي والاعتماد المتبادل فيما بينها، أو أن الشركات العملاقة تخطط لأنشطتها في مجالات الامداد والإنتاج والتوزيع عالميًا، وأن سلاسل متاجر ومحلات القيمة العالية تتوسع في فتح فروع لها في كل أرجاء العالم، فإنه من الأرجح أنها سوف تستمر بعد انتهاء الازمة. سوف يحدث تراجعًا في أنشطتها بسبب حالة الركود الاقتصادي العالمي، ولكنها سوف تعود إلى سابق عهدها في فترة لاحقة. من الأرجح أيضًا أن تُعيد الدول حساباتها بشأن خطوط الإمداد للسلع الاستراتيجية التي تعتمد عليها، وتقوم بمُراجعة للسياسة الصحية للتأكد من وجود الاستعدادات اللازمة لمواجهة حالات الطوارئ الطبية.
-
النظام الدولي بين التغير والاستمرار:
يشير مفهوم النظام الدولي إلى العلاقات والتفاعلات التي تحدث بين أطرافه التي تتكون من دول، ومنظمات دولية وإقليمية، وفاعلين من غير الدول. تتسم هذه العلاقات بخليط من التعاون، والمنافسة، والصراع. وعادة ما توجد “تصاعدية” أو “تراتبية” في أي نظام دولي ما بين أطراف عظمى وكبرى ومتوسطة وصغرى ومتناهية الصغر، وذلك حسب توزيع مصادر القوة والنفوذ والتأثير. ويستمر النظام الدولي طالما أنه يحمي مصالح الدول الكبرى والأكثر تأثيرا في مجريات أمور العالم، ويتعرض للازمات والتغيير في حالة تعارض مصالح تلك الدول وتدخل في صراع بينها.
وفي التاريخ، نشأت المنظمات الدولية في أعقاب حروب أحدثت تغيرات جسيمة على أطراف النظام. ففي اعقاب الحرب العالمية الأولى، قامت الدول المنتصرة بتأسيس تنظيم دولي جديد باسم” عصبة الأمم” في يونيو 1919. استمرت العصبة في الوجود طالما استمر التوافق بين مصالح الدول الكبرى فيها، وبدأت ازماتها عندما اختلفت هذه المصالح وتصارعت فيما بينها مما أدى الى عجزها عن صيانة الامن الدولي، ونشوب الحرب.
وتكرر المشهد في اعقاب الحرب العالمية الثانية، فاجتمعت الدول المنتصرة في مؤتمر سان فرانسسكو في أكتوبر 1945، واقامت تنظيم دولي جديد قوامه ” هيئة الأمم المتحدة”. وقنًن ميثاق الهيئة الجديدة وضع الدول المنتصرة فأصبحوا أعضاءً دائمين في مجلس الامن، وامتلكوا حق الفيتو على قراراته. وسرعان ما تعرضت المنظمة الوليدة لازمة بسبب الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي اللتان استخدمتا هذا الحق لمنع صدور القرارات التي لا توافق عليها، مما أصاب اعمال المجلس بالجمود.
وفي التسعينيات من القرن الماضي ورغم انه لم تنشب حرب عالمية ثالثة، فقد ظهر نظام دولي جديد في اعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه الى خمس عشرة دولة. فلمدة أربعة عقود سابقة عاش النظام الدولي مرحلة ” الثنائية القطبية” التي اوجدت نوعا من التوازن بين المعسكرين الغربي والشرقي. وبانتهاء أحد طرفي المعادلة، وتحول عشرات الدول في العالم الى تبني النظم السائدة في الغرب، أصبح للولايات المتحدة اليد الطولى في تيسير أمور النظام الدولي باعتبارها ” القطب الواحد”.
واستمر هذا الوضع لعدة سنوات لحين ظهور قوة “روسية-صينية” موازنة وضعت حدا للانفراد الأمريكي، ولكنها لم تبلغ درجة من القوة تمكنها من فرض تصوراتها على أمريكا وحلفائها. فظل الطرف الأمريكي-الغربي يمتلك من أسباب القوة ما يسمح له بالتكيف مع هذه التغيرات دون التسليم بها.
إن مفتاح فهم أزمة النظام الدولي الراهن هو التمييز بين “مؤسسات النظام” من جانب و “تفاعلات النظام وقيمه” من جانب آخر.الجانب الأول، يتصل بالنصوص التي من المفروض العمل وفقا لها وهي بحكم التعريف ثابتة. والجانب الثاني، يشير الى واقع العلاقات والتفاعلات الدولية والتي هي بحكم التعريف متطورة ومتغيرة. تنبع أزمة النظام الدولي الراهن من أن النصوص التي تحكم مؤسساته لم تعد تعبر عن الواقع الدولي، وانماط سلوك الدول الكبرى والتوازن بينها. الأزمة هي، أننا إزاء مؤسسات تم إقامة اغلبها في اعقاب الحرب العالمية الثانية، وتُعبر عن الأوضاع والتوازنات التي كانت قائمة وقتذاك والتي لم يعد لها وجود الآن.
ويكفي الإشارة إلى التغيرات الكبيرة في المجال الاقتصادي ومساهمة الدول في إجمالي الناتج العالمي، فبعد أن كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية تتصدر الاقتصاد العالمي، فإن الصين تقدمت بشكل حثيث في العقود الأربعة الأخيرة لتنافس أمريكا على موقع قمة العالم.
شاركت الصين في هذا التقدم عدد من الاقتصادات الآسيوية حتى أن بعض الباحثين يرون أنه إذا كان القرن التاسع عشر قرنًا أوروبيًا، والعشرين أمريكيًا، فإن القرن الحادي والعشرين هو “القرن الآسيوي”. ويُدللون على ذلك بالمكانة التي تشغلها آسيا وفقًا لعدد من المؤشرات: فعدد سُكانها يبلغُ 5 مليار نسمة أي ثلثي إجمالي سُكان المعمورة، وان ثلثي عدد المُدن الكُبرى في العالم mega cities تقع فيها، وتُساهم بثلث الناتج العالمي الإجمالي، وثلثي مُعدل النمو الاقتصادي فيه، وتمتلك 6 من أكبر عشر بنوك في العالم، و 8 من أكبر جيوش العالم، وفيها 4 دول تمتلك أسلحة نووية، وتحظى بقدرات هائلة في مجال الابتكار التكنولوجي والجامعات المُتقدمة وذلك حسب البيانات الواردة في كتاب المؤلف الهندي “باراك خانا” بعنوان “المُستقبل آسيوي” الصادر في فبراير 2019.
وإذ ربطنا قوة الصين الاقتصادية مع تعاظم القُدرات العسكرية الروسية التي يدعمها اقتصاد خرج من عثرته ليشغل المرتبة الحادية عشر من بين اقتصادات العالم وذلك حسب تقدير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لعام 2019، والتحالف الاستراتيجي بين البلدين فانهما يمثلان قوة موازنة “غير صديقة” في مواجهة الولايات المتحدة.
هكذا، فان معطيات العالم من حولنا تشير الى اتساع الشُقة بين مؤسسات النظام الدولي الراهن التي نشأت من 75 سنة، والتطورات التي طرأت في واقع العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية. انهار تحالف الدول الخمس المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، بل وتصاعدت الخلافات في داخل المعسكر الغربي بين أمريكا والاتحاد الأوروبي. لم تعد واشنطن هي القوة الاقتصادية الأعظم كما كانت وقت انشاء الأمم المتحدة وتصاعد الدور الصيني ولكن الاقتصاد العالمي ما زال يعتمد على قاعدة الدولار الذي استمر العملة المفضلة في المعاملات التجارية الدولية.
وطرح الروس والصينيون على مدى العشر سنوات الأخيرة أفكاراً وتصورات لتغيير مؤسسات النظام الدولي وايدها كثير من الدول النامية، ولكنها لم تلق استجابة من الولايات المتحدة واغلب الدول الغربية الكبرى.
والنتيجة ان النظام الدولي الراهن هو نظام ” مأزوم” بسبب التباين بين مؤسساته وواقعه، وبين ما ينبغي أن يكون وفقاً للنصوص وحقائق الحياة. مؤسسات النظام تحتاج الى تغيير، ولكن شروط حدوثه غير متوفرة بعد فلا يوجد توافق حول هذا التغيير بين الدول الكبرى، ولا توجد قوة واحدة منفردة تستطيع أن تفرضه.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهات نظر الكاتب ولاتعكس بالضرورة رؤية المجلس المصري للشئون الخارجية.