الجائحة والدور المنشود للأمم المتحدة لتعزيز مفهوم الدولة الوطنيةوتأسيس نظام دولي جديد
مايو 21, 2020الاقتصاد المصري وأزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)
مايو 22, 2020
سفير/ رؤوف سعد
رئيس المكتب الوطني لإتفاقية المشاركة بين مصر والإتحاد الأوروبي
أولاً: التداعيات الأولية المباشرة على الاقتصاد العالمي والنظام الدولي متعدد الأطراف:
-
أبرزت الأزمة خللاً شديداً في مجمل بنية النظام العالمي الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث ظهر بوضوح هشاشة التكاتف الدولي وغياب القيادة والرؤية الدولية، فضلاً عن تنامي اللجوء إلى إعلاء المصلحة الوطنية وتلبية الاحتياجات المحلية، وانكشاف مذهل في استعداد وجاهزية الحكومات، خاصة في الدول الغربية، للتعامل مع الأزمة، ناهيك عن أداء روتيني باهت للمؤسسات متعددة الأطراف التي تأسست في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
-
ارتبط تصدع النظام المتعدد الأطراف بتآكل دور الولايات المتحدة منذ تأسيس هذا النظام بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، في قيادة النظام الدولي وصياغة قواعده الأساسية ودون توافر البديل الكفء الفعَال. في المقابل لا يبدو الاتحاد الأوروبي قادراً على تحمل أعباء قيادة أجندة المجتمع الدولي، رغم مساعيه سواءً فيما يتعلق بمفاوضات المناخ أو إعادة صياغة قواعد منظمة التجارة العالمية، كما لا تبدو الصين راغبة في الانخراط في هذ المسعى، وتكتفي حتى الآن بانتهاز الفرص وانتقاء صيغة ومواقع تقدمها، بشكل أسهم في مزيد من تصدع النظام الدولي.
-
جاءت الجائحة لتزيد من آلام الاقتصاد العالمي، حيث كانت أغلب التوقعات تشير إلى أن عام 2020 مقبل على أزمة عالمية جديدة وعميقة، ويواجه العالم تحديات جذرية من أبرزها تداعيات الحرب التجارية الأمريكية الصينية على النظام التجاري العالمي ومنظمة التجارة العالمية WTO، وعدم اكتمال تعافي منطقة اليورو من أزمة عام 2008 نظراًلتباعد المواقف التقليدية بين دول الشمال ودول الجنوب في الاتحاد في تناول مسألة التعافي، واستمرار احتواء الأزمة بتركيز الحزم الاقتصادية التحفيزية على تمويل الشركات الكبرى تجنباً لانهيارها في مقابل التخلي عن الشركات الصغيرة والمتوسطة، فضلاً عن عدم اكتمال تعافي الأسواق الناشئة من أزمة تدهور عملاتها، علاوةً على تباطؤ الاقتصاد الصيني في الآونة الأخيرة.
-
لعل أبرز ما أفرزته الجائحة الدور المحوري للدولة الوطنية، وليس المركزية، في إدارة الأزمات ، خلافاً للنهج السائد برشادة قوى السوق والعرض والطلب ، وظهور أهمية إعادة النظر بشكل جدي في توطين الصناعات بدلاً من الاستمرار في النهج الحالي بتجزئة مراحل الإنتاج، في ضوء ما رسخته الأزمة من ضرورة امتلاك الدول لقاعدة صناعية إنتاجية تتيح لها توفير قدراً من السيطرة والاكتفاء الذاتي عبر تعميق وتوطين صناعة بعض أو كل مراحل الإنتاج دون الانكشاف للعوامل الخارجية كتوقف سلاسل الإمداد أو لجوء بعض الدول لفرض قيود على تصدير بعض السلع الهامة على النحو الذي تبنته بعض دول العالم خلال الأزمة.
ثانياً: الانعكاسات الأولية المباشرة للجائحة على الاتحاد الأوروبي ومقاربات الاتحاد للتعامل معها:
-
استقبل الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو أزمة جائحة كورونا وهو يعاني من متاعب متعددة، فالاتحاد لم يستطع، منذ إبرام اتفاق لشبونة 2007 ، التوصل لإطار تعاقدي للدفع قدماً بالمشروع الأوروبي، الأزمات بالكتلة الأوروبية منذ أزمة الديون 2008 التي مثلت تحدياً هيكلياً لمؤسسات الاتحاد. ورغم عبور الاتحاد للأزمة وإنقاذ دول الجنوب (اليونان/ البرتغال/ إيطاليا/ أسبانيا) إلاَ وأن عواراً شاب آليات الإنقاذ ومسارات النمو بمرحلة التعافي، فضلاً عن تعرضه لتحديات خارجية ضاغطة كتدفق الهجرة غير الشرعية وتوالي الهجمات الإرهابية وتصاعد الشقاقات بين الدول الأعضاء، انتهاءً بصدمة البريكست التي كشفت عن قصور هيكلي في الاتحاد حيث ضخامة البنيان وبطء الحركة وضعف رد الفعل أمام التحديات السياسية الكبرى، ناهيك عن ما أحدثه الخروج البريطاني من ارتفاع لشعبية التيارات اليمينية المتشددة المناهضة لهوية الوحدة الأوروبية.
-
سياسياً، توضح متابعة تطورات مسيرة المشروع الأوروبي أن قادة الاتحاد استطاعوا عبر آليات تتميز بالمرونة الشديدة، إتاحة أكبر قدر من استيعاب الاختلافات في إطار أعم من التوافق، بالسماح بقدر من تباين دول الاتحاد في الأطر القانونية والآليات المؤسسية للاتحاد، فليس كل الدول الأعضاء بالاتحاد أعضاء في منطقة اليورو، وليس كل الأعضاء بالاتحاد الأوروبي أطراف في منطقة “شنجن” والعكس صحيح، مما مكَن المشروع الأوروبي من تجاوز التحديات والمضي قدماً في خططه وبرامجه المستقبلية.
-
جاءت أزمة الجائحة لترسيخ الفجوة الواسعة بين الشمال والجنوب داخل الاتحاد، حيث اتسمت مواقف دول الشمال وعلى رأسها ألمانيا بالتباطؤ في تقديم حزم الإنقاذ والتشدد في التزام دول الأزمة بالتطبيق الدقيق لإجراءات الإصلاح تحسباً من تراخي دول الجنوب في القيام بالإصلاحات اللازمة وإلقاء عبء الأزمة على كاهل دول الشمال، بينما طالبت دول الجنوب بضرورة سداد دول الشمال لثمن نجاحاتها التي لم تكن لتتم إلا على حساب أسواق دول الجنوب والشرق.
-
كان المخرج الوحيد الذي أفضى إليه اجتماع وزراء مالية دول منطقة اليورو أوائل ابريل 2020 هو تقديم حزمة إنقاذ تتجاوز 500 مليار يورو كمرحلة أولى لدول الجنوب الأكثر تعرضاً للأزمة. عقب الاجتماع اقترحت دول الجنوب بقيادة إيطاليا إصدار سندات “كورونا” لتخفيف أعباء الديون الإيطالية، بينما رأت دول الشمال أن الآليات الأوروبية القائمة تكفي لمواجهة الأزمة دون الشروع في آليات تخفيف ديون جديدة بل إنها قد تزيد من أزمات منطقة اليورو ككل.
-
اضطرت المستشارة الألمانية، في ظل استمرار ضغوط وانتقادات لمواقف دول الشمال من دعم دول جنوب الاتحاد، إلى التصريح بأن ألمانيا ستظهر روحاً تضامنية تواكب صدى أزمة الجائحة خلال الاجتماع المقبل لمجلس الاتحاد الأوروبي، واستعدادها لزيادة حصتها في ميزانية الاتحاد الأوروبي لتمكين المفوضية الأوروبية من إعداد تصور لحزم إنقاذ إضافية، وبالفعل خرج الاجتماع بتأسيس صندوق تعافي Recovery Fund، ، وتكليف المفوضية بإعداد خطة عمل الصندوق لعرضها على المجلس من حيث القيمة الإجمالية لمخصصات الصندوق التي يمكن لكل دولة عضو الحصول عليها (يتردد أنها ستتجاوز 1.5 تريليون يورو)، وتوزيع نسب مساهمات الدول الأعضاء لتمويل الصندوق وكذلك كيفية النفاذ لتمويل الصندوق.
-
في ذات السياق، ونتيجة للزخم الذي أحدثته الأزمة إزاء أطروحات تحديث آليات عمل وقواعد الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، عادت مجدداً للساحة بعض المقترحات القديمة مثل تدشين منصب “وزير مالية” لمنطقة اليورو لضمان قدر معقول من التناغم والانسجام في السياسيات المالية للدول الأعضاء، وكذلك إنشاء برلمان لمنطقة اليورو لضمان مزيد من الديمقراطية لآليات اتخاذ القرار بالمنطقة وتضمين رأي شعوب المنطقة في السياسات المقررة.
ثالثاً: ملامح مستقبل الاتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد جائحة كورونا:
-
كان الاتحاد الأوروبي قبل اندلاع الأزمة على وشك تدشين مرحلة جديدة لإطلاق مزيد من التماسك والدفع بالمشروع الأوروبي قدماً، حيث أعلنت المفوضية الجديدة مطلع عام 2020، عن أولويتين رئيسيتين لولايتها، تتمثل الأولى: في الصفقة الخضراء وهي حزمة من البرامج والإجراءات التجارية والصناعية والاستهلاكية الهادفة إلى إحداث تغيير عميق وجذري في نمط الإنتاج والتصنيع الأوروبي بالابتعاد تدريجياً عن النمط السائد حالياً بالاعتماد على الوقود الأحفوري وتغيير أنماط الاستهلاك والتغذية لتقليل الفاقد من الطعام وتعظيم أساليب الأمن الغذائي وتطبيق مفهوم الاقتصاد الدائري القائم على تجنب استخدام السلع ذات الاستخدام الأوحد، وصولاً إلى تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050 كهدف نهائي. وتتناول الأولوية الثانية التحول الرقمي وتطبيق مفاهيم وتطبيقات الاقتصاد الرقمي في كافة مناحي القطاعات والهياكل الصناعية والخدمية الأوروبية.
-
رغم التحديات والأزمات وتعدد التكهنات بقرب تفكك الاتحاد الأوروبي، نقدر أن هذه التكهنات تتسم بالتبسيط المخل، فيظل تشابك المصالح وتجاوز الاتحاد لتحديات عديدة، فضلاً عن ماحققه البناء الأوروبي من اندماج اقتصادي وسياسي غير مسبوق في التاريخ، وقدرة على ضمان استمرار السلام في أوروبا، وترسيخ دوراً وثقلاً راسخاً للاتحاد الأوروبي بين القوى والأقطاب القديمة والجديدة.
-
في هذا السياق، أكدت الأزمة أنه رغم تباعد المواقف الأوروبية إلا أن هناك خطوطاً حمراء من الصعب سياسياً تجاوزها وتحمل تبعاتها، فدول الجنوب، وخاصةً ايطاليا، لا يمكنها التمسك بمواقفها بالإصرار طول الوقت على شكل محدد من الدعم الأوروبي،لاسيما أن حجم ديونها قد تجاوز 135% من الناتج المحلي الإجمالي قبل تفشي الجائحة، ويُتوقع أن تتجاوز حاجز160% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول ديسمبر 2020، وإلا فالبديل هو العودة للعملة الوطنية وإعلان الافلاس وهو ما يمثل نفقاً مظلماً لا يعلم أي سياسي إيطالي أخطار عواقبه. من ناحية أخرى، فإنه من الصعب على دول الشمال تحمل اللوم التاريخي بالتردد في تقديم العون المالي اللازم لدول الجنوب التي تدفع ثمن أزمة فادحة لم تكن سببها، فضلاً عن أن دول الجنوب هي السوق الرئيسي لصادرات دول الشمال داخل السوق الأوروبية المشتركة ويهمها تعافيه، والأهم هو أن تقديم الدعم لدول الجنوب اليوم سيكون أقل تكلفة من تقديمه في اليوم التالي، حيث لا طاقة لألمانيا ودول الشمال بتحمل انفلات ديون ثالث “أكبر اقتصاد أوروبي” (بعد ألمانيا وفرنسا) .
-
تجدر الإشارة في هذا المقام إلى الدور المأمول للرئاسة الألمانية الدورية للاتحاد الأوروبي (يوليو- ديسمبر2020) في ظل قيادة شخصية المستشارة أنجيلا ميركل ذات التاريخ الطويل المتمرس في الدفع بألمانيا لصدارة المشهد الأوروبي على مدار أزمات وتحديات أوروبية وعالمية عديدة، بالإضافة إلى سعي الرئيس الفرنسي ماكرون إلى بذل الغالي والنفيس من أجل مزيد من الاستقرار داخل الاتحاد الأوروبي وعبور هذه الأزمة بأقل الخسائر الممكنة ليتمكن من كبح صعود التيارات اليمينية المتشددة داخل فرنسا وإعادة انتخابه لولاية أخرى (تنتهي ولايته في 2022)، ناهيك عن طموحه الدولي بأن يحتل الاتحاد الأوروبي مركزاً رئيسياً ومؤثراً على الساحة الدولية وسط توازنات جديدة لعالم ما بعد كورونا.
رابعاً: ملامح تعاطي الاقتصاد المصري مع التطورات الجارية وملامح المستقبل الأوروبي:
-
بلغ حجم التبادل التجاري السلعي بين مصر والاتحاد الأوروبي 27.7 مليار يورو بنهاية عام 2017 وسجلت الصادرات السلعية المصرية في تلك الفترة نحو 8.5 مليار يورو بينما بلغت الواردات من السوق الأوروبي نحو 19.2 مليار يورو. مما ارتفع بحصة الاتحاد الأوروبي إلى 30% من إجمالي حجم تجارة مصر الخارجية. كذلك يظل الاتحاد الأوروبي أكبر المستثمرين في مصر بإجمالي استثمارات مباشرة 39.7 مليار يورو بنهاية عام 2017، كما تشير أحدث بيانات نقطة التجارة الخارجية إلى أن المقصد الاكبر والرئيسي للصادرات الزراعية المصرية خلال عام 2018-2019 كانت موجهة للاتحاد الأوروبي الذي استحوذ بمفرده على 53% من إجمالي الصادرات الزراعية المصرية للخارج، بعائدات قدرها 3 مليار دولار (مقارنة بـ 2.2 مليار دول من المؤكد أن برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي التزمت الحكومة المصرية بتطبيقه بدقة منذ عام 2016 قد ساهم في تعزيز قدرات الدولة المصرية في مواجهة تداعيات الجائحة ابتداءً من امتصاص الموجة الأولى من انعكاساتها السلبية، حيث تزامنت الجائحة مع تراكم أكبر حجم من الاحتياطي النقدي الأجنبي في تاريخ الاقتصاد المصري بتجاوزه 45 مليار دولار، إلى جانب القدرة على التحول من وضعية مستورد صافي للوقود إلى مصدر صافي له خاصة الغاز الطبيعي بالتوازي مع الاكتشافات الواعدة بمنطقة شرق المتوسط وتأهب مصر للعب دور قيادي في منتدى غاز شرق المتوسط، والتحول إلى مُصدر للكهرباء (مشروع الربط الكهربائي مع قبرص وغيرها) وغيرها من الإصلاحات الهيكلية المالية والنقدية.
-
ارتكز تحرك الدولة المصرية، في مواجهة الجائحة،على ضخ السيولة اللازمة في شرايين مرافق الاقتصاد من خلال الإعلان عن حزمة تمويلية تحفيزية تبلغ 100 مليار جنيه وتوفير سيولة نقدية للشرائح الأكثر تضرراً كالعمالة غير المنتظمة، واتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي على اتفاق تمويلي آخر يستهدف في المقام الأول الحفاظ على مكتسبات برنامج الإصلاح الاقتصادي الجريء للقيادة السياسية، وتقبَلت أطياف المجتمع تحمل مشقته إدراكاً لأهميته في تحقيق تنمية حقيقية للاقتصاد المصري.
-
إلا أنه يجب أن ندرك أن الجائحة تمثل ضربة موجعة لقطاعي السياحة وقناة السويس بشكلٍ خاص([1])، إلى جانب فقدان الكثير من المصريين المغتربين لوظائفهم لاسيَما في الخليج، وبالتالي تراجع حجم تحويلات المصريين من الخارج، مما يعني تناقصاً حاداً في العائدات الدولارية، وبالتالي تناقص مستمر في حجم الاحتياطي النقدي الأجنبي (تناقص بالفعل 8 مليارات دولار، حتى الآن)، وهو ما يهدد مكتسبات الاحتياطي النقدي الأجنبي الذي راكمته مصر على مدار السنوات الخمس الماضية. في ذات السياق، تتحرك مؤسسة البنك المركزي بين مسارين، كلاهما شديد المرارة، الأول إبطاء وتيرة تناقص حتمي لحجم الاحتياطي النقدي الاجنبي وبين استقرار سعر صرف الجنيه المصري لاحتواء معدلات التضخم بأقصى طاقة ممكنة دون الانفلات، والعودة لذكريات أعوام 2015 و2016، ناهيك عن الحيلولة دون حدوث نوع من “الدولرة” في السوق المصري، مما يفرض الحرص الشديد على مصادر تدفق عوائد النقد الأجنبي المتاحة وعلى رأسها الصادرات وأهمها الصادرات للسوق الأوروبي التي تكاد تمثل الشريان الأساسي لنجاح هذه المعادلة الصعبة.
-
في ظل الجائحة التي اجتاحت العالم، تبدو أهمية التحولات الجارية في دول الاتحاد الأوروبي للخروج من الأزمة حتى يتسنى الأخذ في الحسبان هذه التحولات في تعاملاتنا مع شريك مصر التجاري والاستثماري الرئيسي. ويبدو لافتاً في هذا السياق ما تنتهجه ألمانيا تحديداً لتعديل هياكلها للتحول الصناعي كأحد الدروس المستفادة من الجائحة ، بتركيز الأنشطة الصناعية الألمانية على تلبية احتياجات السوق الألماني أولاً، أخذاً في الحسبان أن “التحول الصناعي” يحتاج لمزيد من الوقت وبرامج لتأهيل وتدريب العمالة لتكيفهم على نماذج التصنيع الجديدة وكذلك رأس مال قوي لشراء مستلزمات وأجهزة التصنيع الجديدة، بالإضافة إلى مسعى الاتحاد الأوروبي للحفاظ على الأطر متعددة الأطراف، لمواجهة التحركات المضادة للإدارة الامريكية الحالية، كمحاولة لملء الفراغ الذي أحدثه الانسحاب الأمريكي من اتفاقية باريس للتغير المناخي ، ومساعي الاتحاد لإنشاء آلية مؤقتة للتحكيم بمنظمة التجارة العالمية كبديل مؤقت لجهاز الاستئناف لآلية تسوية المنازعات بالمنظمة ولاحتواء مسعاها لنزع أنياب المنظمة المتمثلة في جهاز الاستئناف الذي يعتبر الجهة الوحيدة الضامنة لإنفاذ أحكام الاتفاقيات المؤسسة للنظام التجاري متعدد الأطراف، فضلاً عن محاولة احتواء التمدد التجاري والسياسي النافذ للصين .
-
أثبتت الازمة كذلك ضرورة استفادة مصر من استغلال التوجه المتوقع للشركات والمؤسسات الاقتصادية العالمية في الابتعاد تدريجياً عن تركيز مواقعها بالصين وإعادة نشر المواقع والمراحل الإنتاجية بمناطق جغرافية متفرقة لإتاحة أكبر قدر من المرونة، من خلال تطوير قدرات الاقتصاد المصري والعمل على توطين وتعميق الصناعة لجذب رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية المباشرة إليه التي ستبحث عن مواقع بسلاسل إنتاج بديلة عن الصين، أخذاً في الاعتبار وجود منافسين من المنطقة كالمغرب وتونس وتركيا والإمارات ومن خارج المنطقة تحديداً القارة الآسيوية كفيتنام وكمبوديا.
-
ارتباطاً بما سبق، من الأهمية تنويع المحافظ الاستثمارية والتمويلية بهيكل الاقتصاد المصري، بالتخفيف من حدة تركز الاستثمارات الأجنبية على قطاعي الأوراق المالية وأدوات الدين والطاقة الأحفورية، وكذلك تقليص تركيز الاستثمارات الحكومية والحزم والتسهيلات التمويلية التي يقدمها الجهاز المصرفي في القطاع العقاري، وأهمية التنبه إلى خطورة ما تتبناه شركات التطوير العقاري في السوق المصري من تيسيرات في السداد تتجاوز أحياناً الـ12 عاماً وأكثر والتي أصبحت تمارس دوراً شبيهاً بدور البنوك دون أن تمتلك أدوات تحليل وتقييم للعملاء الرصينة التي يمتلكها الجهاز المصرفي، مما يهدد بنشأة فقاعةBubble يمكن أن تؤثر على استقرار الجهاز المصرفي كله إذا ما أُضيف إليها تداعيات الأزمة الراهنة.
خامساً: خلاصات:
-
لعله من حسن طالع الاتحاد، أن الأزمة غير المسبوقة عالمياً وأوروبياً، تطرق أبوابه بعنف في الوقت الذي تقوده نخبة قديرة تدرك جيداً معطيات اللحظة الراهنة وتحديات المستقبل، فعلى رأس ألمانيا أنجيلا ميركل التي ترى في الاتحاد الأوروبي الحصن المنيع لألمانيا ومصالحها، ويقود فرنسا إيمانويل ماكرون الذي يتمسك بالمشروع الأوروبي لتحقيق طموحاته الوطنية والأوروبية، وعلى رأس المفوضية شخصية ألمانية قديرة وطموحة تسعى للانتقال بالاتحاد الأوروبي لمستويات جيواستراتيجية، وعلى رأس البنك المركزي الأوروبي شخصية فرنسية مرموقة ذات خبرات اقتصادية ونقدية رفيعة، الأمر الذي أفرز قيادة رشيدة لسفينة الاتحاد الأوروبي في خضم بحر متلاطم بالأزمات والمربكات المتوالية.
-
بالرغم مما أحدثته جائحة الكورونا من تداعيات كارثية على العالم كله، إلا أنها يمكن أن تتيح لمصر فرصة نادرة لإحداث تحولات جذرية في مفاهيم وسبل إدارة الدولة المصرية وتهيئتها للانضمام بكفاءة جديدة لاقتصاد عالمي جديد ونظام دولي مختلف. يبرز في هذا الصدد الأهمية البالغة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الذى سبق الجائحة، الذي دونه ما كان ممكناً صمود الاقتصاد المصري أمام الصدمة الأولى للجائحة، والذى يمكن أن يكون نقطة البداية، ليس فقط في تعميق ومواصلة الإصلاح ، وإنما، وهو الأهم، الإقدام على تطبيق ” فكر جديد ” فيما يتعلق بمجالات التصنيع والتصدير والزراعة والري والصحة والتعليم والثقافة المجتمعية للمواطن المصري، وإرساء الحوكمة الرشيدة، ووضع الأسس العلمية والتكنولوجية للانطلاق إلى عالم جديد تحكمه الرقمنة والنظام الأخضر، التجارة الإلكترونية وغيرها من أدوات العالم المعاصر .
-
أن المهمة العاجلة للحكومة المصرية خلال المرحلة المقبلة هي تطوير القدرات التنافسية للسلع والخدمات المصرية لتنويع وزيادة مقاصد الصادرات المصرية، مع السعي إلى زيادة الحصص السوقية الحالية للصادرات المصرية إلى الأسواق الأوروبية لاستمرار تدفق العوائد الدولارية في شرايين الاقتصاد المصري.
-
إن إيلاء المجتمع الدولي أولوية متقدمة للبُعد البيئي وتغيير أنماط الاستهلاك والإنتاج والتغذية، يدعم ما ذهبت إليه بعض الدراسات بأن الأسلوب الحالي للبشرية للإنتاج الصناعي والغذائي، يمثل واحد من أسباب الطفرات التي تنتاب التركيب البيولوجي للفيروسات ومنها فيروس كورونا وربما ستشهد البشرية سلالات أخرى أكثر شراسة منه إذا ما استمرت أنماط الحياة كما هي.
-
قد تشهد منظومة العلاقات الدولية والمؤسسات الدولية، تحت ضغوط تتشابه تأثيراتها مع تأثيرات الحروب العالمية، تغييرات كبيرة في مفاهيم وأدوات وأولويات العلاقات الدولية والتحالفات القائمة والترتيبات الإقليمية، فضلاً عن بروز مجال الرعاية الصحية، الذي يتوقع أن يظفر بأهمية خاصة كحق أساسي من حقوق الإنسان.
-
ارتباطاً بما سبق سيظل العالم كله أسير الصراع الأمريكي الصيني لفترة ليست بالقصيرة بعد تجاوز الموجة الأولى من الجائحة، وسيظل مستقبل النظام متعدد الأطراف، بما في ذلك النظام الاقتصادي والتجاري الدولي القائم رهينة لنتيجة هذا الصراع، وربما أحد ضحاياه، والانتقال إلى قواعد جديدة للنظام الدولي أسوةً بما تحقق عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية. وفي هذا السياق، لايجب إغفال التأثير “الإيجابي” لاحتمال وصول رئيس ديموقراطي للبيت الأبيض، الذي يتوقع أن يتبني سياسات مغايرة للإدارة الأمريكية ورأب الصدع الحالي في بنية النظام متعدد الأطراف وهو التحول الذي سيسهم، حال حدوثه، في تطورات تتابُعيَه تعضد من التضامن والثقة في العمل المتعدد الأطراف وإعادة التحالف بين ضفتي الأطلنطي لحالته الطبيعية وإيلاء أولوية لقضايا البيئة وغيرها، مما يتيح بدوره بيئة دولية مواتية لمضي المؤسسات الأوروبية في تنفيذ أولوياتها الجديدة وعلىى رأسها التحول الأخضر والانتقال الرقمي.
(2)ذكر في هذا الصدد ما يتم تداوله من قرارات لأكبر شركات خطوط النقل البحري (مثل MAERSK و MCM ) بتحويل بعض خطوط سير حاوياتها من قناة السويس إلى رأس الرجاء الصالح في ضوء الانخفاض الحاد في أسعار النفط حيث باتت طرق النقل الأطول أقل تكلفة، وهذا رغم ما أعلنته هيئة قناة السويس من حزمة تخفيضات في رسوم عبور القناة لجذب خطوط النقل العالمية، إلا أن أثر هذه الإجراءات لم تظهر بعد تأثيراته على قرارات الشركات العالمية.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهات نظر الكاتب ولاتعكس بالضرورة رؤية المجلس المصري للشئون الخارجية.