
تركيا والغرب… اعتماد متبادل
سبتمبر 7, 2020
حلقة نقاشية حول “الآثار المحتملة لاتفاق التطبيع الإماراتي مع إسرائيل على المصالح المصرية”
سبتمبر 17, 2020عزت سعد
بعد مفاوضات استغرقت نحو اثنى عشر عاما وقعت مجموعة دول الـ 5+1 (الدول الخمس النووية الأعضاء الدائمة فى مجلس الأمن وألمانيا) والاتحاد الأوروبى وإيران، فى 14 يوليو 2015، الاتفاق النووى، أو ما يعرف بـ«خطة العمل المشتركة الشاملة»، والتى وصفها الرئيس الأمريكى السابق أوباما بالصفقة التاريخية وبأنها نجاح كبير للدبلوماسية الدولية أمكن من خلالها تجنب الحرب. واعتمد مجلس الأمن الدولى الصفقة بالإجماع بموجب قراره رقم 2231، وبدأ تنفيذها فى 16 يناير 2016 بعد أن تحققت الوكالة الدولية للطاقة الذرية من تنفيذ إيران التزاماتها تمشيا مع الصفقة، وبالتالى تم رفع معظم العقوبات التى فرضتها الأمم المتحدة بموجب قرارات ستة صادرة عن المجلس أوقف القرار 2231 العمل بها، وذلك باستثناء الحظر المؤقت على الاتجار بالأسلحة التقليدية وتكنولوجيا الصواريخ والمواد النووية وتلك ذات الاستخدام المزدوج.
وكان المكسب الأكبر لإيران، مقابل موافقتها على وضع برنامجها النووى بأكمله تحت نظام خاص للرقابة والتفتيش، هو احتفاظها بقدرات لتخصيب اليورانيوم (بنسبة أقصاها 3.67%) فى سابقة هى الأولى من نوعها لدولة غير معترف بها كدولة نووية، وذلك بالمخالفة لالتزاماتها بموجب معاهدة منع الانتشار وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة. وكان هذا الحق فى التخصيب، وما يزال، السبب الجوهرى وراء انتقادات نتنياهو واليمين الأمريكى المحافظ الداعم لإسرائيل للاتفاق، وهى انتقادات بدأت مع إعلان الصفقة وحتى قبلها على أساس أنها تشكل سابقة يمكن لدول أخرى المطالبة بها، وأن هذا الحق سيجعل إيران قريبة جدا من صناعة سلاح نووى.
***
وكان أوباما استخدم حجتين رئيسيتين لإقناع مجلس الشيوخ (الجمهوريون أساسا) بالموافقة على الصفقة، الأولى: أن منع الكونجرس الحكومة من تنفيذ التزاماتها بموجب الصفقة، يحمل فى طياته مخاطر انهيار نظام الجزاءات التى وقعت على إيران، حيث تعهدت الدول الأخرى التى وقعت الصفقة والتزمت بها برفع هذه الجزاءات عن إيران بغض النظر عن موقف واشنطن، خاصة أن هذه الدول أضيرت اقتصاديا وتجاريا نتيجة فرض العقوبات على طهران بجانب شركاء إيران التجاريين ممن انضموا لنظام الجزاءات، بما فيهم العديد من دول الاتحاد الأوروبى وكوريا الجنوبية واليابان والهند. فقد تحمَل معظم هذه الدول أعباء الجزاءات فقط لأنها اعتقدت أن الولايات المتحدة كانت تتعامل مع الملف النووى الإيرانى وتتفاوض عليه بحسن نية بهدف تسويته دبلوماسيا. وبالتالى فعدم توقيع واشنطن على الاتفاق يقوِض الثقة فيها ويسقط نظام الجزاءات. أما الحجة الثانية فكانت أن رفض الصفقة من قبل مجلس الشيوخ يبعث برسالة للعالم مفادها أنه لا يمكن الاعتماد على الولايات المتحدة فى احترام وتنفيذ معاهدات منع الانتشار النووى التى تتفاوض عليها الإدارة.
وبعد فشل حملة المحافظين وأصدقاء إسرائيل فى الولايات المتحدة فى وقف الصفقة، تركزت جهود هؤلاء فى اتجاه تجميد تنفيذ بنودها على أمل أن يعيد الرئيس القادم فتح الملف، وهو ما حدث بالفعل حيث وصف ترامب الصفقة بـ«الكارثية» إبَان حملته الانتخابية، ثم انسحب منها فى مايو 2018. ولم تكتفِ واشنطن بالانسحاب، بل وقامت بإنهاء الإعفاءات المؤقتة للأعضاء الآخرين فى الصفقة بمواصلة العمل مع إيران بشأن مشاريع نووية محددة تتطلبها الصفقة دون التعرُض لأى عقوبة أمريكية، مثال ذلك: قيام المملكة المتحدة والصين، بدعم إيران فى تحويل مفاعل آراك بالماء الثقيل إلى نموذج أقل حساسية للانتشار، وتزويد روسيا مفاعل بوشهر بالوقود والسماح لإيران باستيراد اليورانيوم المخصَب بنسبة 20% لمفاعل طهران للأبحاث.
وجاء رد الفعل الإيرانى على الانسحاب الأمريكى بعد عام من وقوعه، حيث أعلنت فى مايو 2019 أنها ستبدأ فى تقليص التزاماتها بموجب الصفقة ردا على فشل الأطراف فى تنفيذ تخفيف العقوبات بعد انسحاب الولايات المتحدة. واعتبرت إيران، ومعها روسيا والصين، الخطوة الأمريكية بإنهاء الإعفاءات المتعلِقة بالتعاون النووى معها بأنها انتهاك صارخ لجوهر الصفقة والمسمار الأخير فى نعشها، ودليل على الهدف الاستراتيجى الحقيقى لواشنطن وهو حرمان إيران من الاستخدام السلمى للطاقة النووية والتكنولوجيا المتقدمة ذات الصلة، كما تُؤكِده المادة 4 من معاهدة منع الانتشار النووى.
***
وفى إطار سياستها بممارسة «أقصى ضغطٍ» على إيران أعادت الإدارة فرض الجزاءات التى رُفِعَت بعد توقيع الصفقة بجانب سلسلة من الجزاءات المفروضة منذ عقود، حيث تنظر واشنطن إلى إيران كدولة راعية للإرهاب، ومنتهكة لحقوق الإنسان. واستنادا إلى حقيقة أن الصفقة تنص على رفع كامل للعقوبات ولكن بشكل تدريجى، بل وحتى إمكانية إعادتها تلقائيا فى حال أخلت طهران بالتزاماتها، أصبح ملف تمديد حظر تجارة الأسلحة مع إيران، والمفترض أن يرفع فى 18 أكتوبر القادم، بموجب الصفقة، إحدى أهم قضايا حملة ترامب الانتخابية. وقد فشلت جميع التحرُكات الأمريكية لاستصدار قرار من مجلس الأمن بتمديد الحظر الشهر الماضى ولم يصوِت لصالح مشروع القرار سوى دولة واحدة (الدومينيكان) بجانب الولايات المتحدة. وإزاء ذلك، أصدرت الخارجية الأمريكية مذكرة زعمت فيها أن قرار مجلس الأمن 2231 يعطى لها الحق القانونى فى استدعاء «آلية فض النِزاع» أو ما يسمَى بـ«كل شىء أو لا شىء» المنصوص عليها فى الاتفاق والتى بموجبها يمكن إحالة الملف النووى إلى مجلس الأمن وإعادة فرض جميع العقوبات الدولية على إيران متى ثبت انتهاكها لالتزاماتها بموجب الاتفاق. وتدفع واشنطن فى هذا الشأن بأنها ماتزال طرفا فى الصفقة لأن القرار 2231 لم يتم تعديله ليعكس انسحابها منها. ورغم أنه لا يمكن استخدام حق النقض ضد هذه الآلية وفقا لقرار مجلس الأمن، إلا أن رد فعل أطراف الاتفاق جاء حاسما إذ أكدت أن واشنطن لا تملك تفعيل هذه الآلية لأنها ببساطة لم تعد طرفا فى هذا الاتفاق.
أما بالنسبة لإيران فتشير مواقفها الأخيرة إلى حرصها على تجنُب استصدار قرارات من مجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإدانتها بسبب عدم وفائها بالتزاماتها بموجب الصفقة، وذلك بالرغم من إعلان الوكالة قبل أيام بأنها ضاعفت من كمية اليورانيوم المخصَب المسموح به بموجبها بمقدار عشرة أضعاف، إلَا أنها ماتزال تفتح منشآتها لفرق التفتيش. ولا شك أن ما آلت إليه سياسة «أقصى ضغطٍ» الأمريكية ضد إيران من فشل ذريع، إنما يعكس استياء المجتمع الدولى من الخطوات الأحادية الجانب التى اعتادتها إدارة ترامب والهُوَة العميقة بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين. ويضاف إلى فشل واشنطن فى مجلس الأمن فشلها فى إجبار طهران على العودة إلى التفاوض على نحو ما سعى إليه ترامب فى غيبة من استراتيجية أمريكية بديلة.
ولقد كان ممكنا أن تُوفِر خطة العمل المشتركة الشاملة فرصة غير مسبوقة لجهد دولى لإحراز تقدُم نحو إنشاء منطقة خالية من السلاح النووى فى الشرق الأوسط كمرحلة أولى نحو إنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل فى المنطقة، إلا أن ذلك لم يحدث حيث لم تشر الصفقة من قريب أو بعيد إلى مسألة إنشاء هذه المنطقة، كما أن تأكيد الصفقة على أن الحق فى التخصيب لا يخص سوى إيران وحدها، يعكس عدم وجود أية نوايا جدية لدى القوى النووية الخمس لممارسة أى ضغوط على إسرائيل للتخلى عن أسلحتها النووية. وعموما تجاهلت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الموضوع تماما على مدى العامين الماضيين.
***
والخلاصة أن سياسة إدارة ترامب زادت من انعدام الثقة التاريخى بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، والذى بدأ عندما دبَرت الحكومتان الأمريكية والبريطانية انقلابا ضد محمد مصدَق. والحال كذلك لن تتخلَى إيران عن دعم بنيتها العسكرية والصاروخية اقتناعا منها بأن واشنطن لن تتخلَى عن مسألة تغيير النظام وخيار الحرب العسكرية وعدم سحب قوَاتها من المنطقة على الأقل فى الوقت الحالى. وعلى هذه الأسس تُقيم طهران استراتيجيتها تجاه واشنطن معتمدةً على الذات عسكريا، والتصرُف دون أى دعمٍ خارجى وفى حدود ما تمتلكه من موارد وما لديها من تقنيات عسكرية محلية بعد عقود من العقوبات. وتدرك إيران أنها بصدد استراتيجية حرب غير متكافئة، وهو ما دفعها إلى تطوير أدوات عديدة منها السعى لاكتساب قدرات نووية. وفى هذا السياق، تُشير تقارير أخيرة للوكالة الدولية للطاقة الذرية أن لدى إيران برنامجا راسخا لتطوير وتخصيب اليورانيوم وأجهزة الطرد المركزى يُمكن إعادة تشكيله بسهولة أكبر لإنتاج اليورانيوم العالى التخصيب لأغراض الأسلحة النووية. كذلك تُشير تقديرات استخباراتية أمريكية مُعلنة إلى أنه لم تعد هناك أية عقبات فنيَة أمام إيران لإنتاج سلاح نووى، إلاَ أنه لا توجد دلائل على أن قرارا سياسيا اتُخِذ فى هذا الاتجاه. وماتزال إيران متمسِكة بأن البديل هو عودة الولايات المتحدة إلى الصفقة أيا كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية، وإلاَ فإنها ماضية قدما فى عدم الالتزام بها والعودة إلى ما كان عليه الحال قبل توقيع الاتفاق، مشيرةً فى ذلك إلى لجوئها للقضاء الدولى طلبا لتعويضات من واشنطن عن موت الآلاف من الشعب الإيرانى بسبب النَقص الحاد فى الغذاء والدواء والذى تجاهلته واشنطن تماما متمسكة باستمرار العقوبات والحصار رغم تفشى جائحة كورونا.
هذا ويُستفاد من السوابق أن الجزاءات التى فرضتها الولايات المتحدة فى حالات مماثلة كباكستان منذ عام 1990 قد فشلت تماما، كما قادت واشنطن الجهود لتطبيع العلاقات النووية مع الهند ورفع الجزاءات على التعاون النووى معها من خلال اتفاق وقع عام 2008 مع مجموعة المُورِدين النوويين. وبالتالى يمكن القول بأنه سيتم التعامل مع إيران فى النهاية ــ بما انتزعته من تنازلات بموجب الصفقة ــ كدولة عادية منتجة للطاقة النووية، على قدم المساواة مع دول أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا والعديد من الدول الأخرى الأطراف فى معاهدة منع الانتشار النووى التى لا تمتلك سلاحا نوويا.
نشر المقال بجريدة الشروق بتاريخ 14 سبتمبر 2020 و رابط:
https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=14092020&id=1bf37c91-7944-4434-aade-418eb030aa5a