سفير هشام الزميتي
شهد الوطنيون الأفارقة يوم 17 يناير 2021 الذكرى الستين لاغتيال الزعيم الكونجولى الوطنى باتريس لومومبــا. ويهمنا نحن كمصريين بصفة خاصة، ظهور العديد من الحقائق التاريخية الموثقة التى أكدت نقاء ونزاهة الدور الذى لعبته مصر وقيادتها وقواتها المسلحة التى شاركت فى عملية الأمم المتحدة لحفظ السلام فى الكونجو.
فبرغم العديد من الكتب والدراسات التى سعت خلال الستين سنة الماضية للإجابة على السؤال البسيط: من الذى قتل لومومبا؟ فإن كتاب: اغتيال لومومبا، لعالم الاجتماع البلجيكى لودو دى ويت اكتسب مصداقية خاصة، إذ تمكن المؤلف من الحصول على تصريح خاص لنشر وثائق من الأرشيف الملكي، ومراسلات وزارة الخارجية البلجيكية، إلى جانب ما أفرج عنه من وثائق وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وما صدر من كتب تغطى تلك الفترة، وحتى بعض سجلات الأمم المتحدة. فقد فجرت الأدلة على تورط قوى غربية كبرى ووكالاتها المخابراتية فى عملية اغتيال لومومبا دوياً هائلاً حتى أن البرلمان البلجيكى شكل لجنة تحقيق فى تلك الأمور. فلقد أمضى المؤلف أكثر من ست سنوات بين الوثائق بحثاً عن الحقيقة، حيث أثبت أن من شاركوا فى تنفيذ هذه المؤامرة نجحوا فى إلصاق التهمة بمعارضى لومومبا من الكونجوليين، إلا أن مرور الوقت، وصدور مؤلفات عديدة وبعض المذكرات السياسية، أكد مدى عمق المؤامرة الدولية التى نفذت بإحكام ضد أحد أهم رموز التحرر الإفريقي.
وكان تصاعد حدة الحركة الوطنية الكونجولية المنادية بالاستقلال قد دفع بلجيكا للإعلان عن منح أكبر مستعمراتها الاستقلال اعتباراً من 30 يونيو 1960، ثم تلاحقت الأحداث متسارعة بعد ذلك، إذ فوجئت بلجيكا بالفوز الكاسح للمناضل باتريس لومومبا وحزب الحركة الوطنية الكونجولية الذى يرأسه فى الانتخابات التى جرت فى آخر مايو 1960، وبالتالى أحقيته فى تشكيل أول حكومة وطنية برئاسته، فما كان من برلمان بلجيكا إلا أن أصدر قانوناً يسمح للعميل مويز تشومبى بتشكيل حكومة برئاسته فى إقليم كاتانجا حيث مناجم الألماس والمعادن النفيسة وحيث الاحتكارات العالمية والمصالح التجارية للقوى الغربية، وذلك حتى لا تكون للحكومة الوطنية سلطة على هذا الإقليم الغني. وفى 24 يونيو 1960 حازت حكومة لومومبا على ثقة البرلمان، وتقرر تعيين جوزيف كاسافوبو أول رئيس للبلاد التى استقلت رسمياً يوم 30 يونيو 1960.
ويذكر الوطنيون الأفارقة بكل فخر وقفة لومومبا الشامخة خلال الحفل الرسمى للاستقلال، حيث رد على كلمة الملك بودوان ملك بلجيكا التى استفزت مشاعر الكونجوليين حين طالبهم الملك بعدم اتخاذ أية خطوة متسرعة، أو قرار غير مدروس بما يغير ما خلفته بلجيكا لهم، وذلك رغم علمه أن عدد الخريجين الجامعيين يعد على أصابع اليد الواحدة، وليس بالبلاد كوادر فنية، بل إن جميع ضباط الجيش كانوا من البلجيكيين. فقد نهض لومومبا موجهاً حديثه للمواطنين الحاضرين، رغم أن برنامج الحفل لم يكن يتضمن كلمة لرئيس الوزراء، إذ قال: أيها المناضلون من أجل الاستقلال.. واليوم منتصرون.. أتذكرون السخرة والعبودية التى فرضها علينا المستعمر الذى أهاننا وصفعنا طويلاً لأننا زنوج فى نظره، لقد استغلت أرضنا ونهبت ثرواتنا استناداً لنصوص ادعوا أنها قانونية رغم انحيازها الصارخ للرجل الأبيض ضد الإنسان الأسود. لقد تعرضنا طويلاً للرصاص، وكان السجن من نصيب من سعى للحفاظ على كرامته كإنسان.
وعلى النقيض من كلمات لومومبا التاريخية، ومواقفه الشجاعة، كان العميل تشومبى يردد مفاخراً، مقولات فرضها عليه أسياده بأن العنصر الأسود ليس له تاريخ لأنه شعب جاهل لايعرف الكتابة، وليست له فلسفة، ولابد من استمراره فى استرضاء هؤلاء الشجعان الذين قدموا من أوروبا ليعاونوه على الخروج من مستنقع التخلف. وكان طبيعياً أن تنحاز القوى الغربية لتشومبي، وأن تتكالب للقضاء على لومومبا المنتخب من الشعب. فكانت المؤامرة.
إذ أعلن تشومبي، مدعوماً بالقوات البلجيكية انفصال إقليم كاتانجا يوم 11 يوليو 1960، أى بعد الاستقلال بأحد عشر يوماً فقط، وفى اليوم التالى طلب الرئيس كازافوبو، ورئيس وزرائه لومومبا من الأمم المتحدة التدخل للتعامل مع المؤامرة التى تعرض لها الكونجو، فأصدر مجلس الأمن قرار إرسال قوات لحفظ السلام، والتى واجهت معارضة من تشومبى حالت دون انتشارها فى إقليم كاتانجا. وبعد مفاوضات بين سكرتير عام الأمم المتحدة داج همرشولد وتشومبى رضخ السكرتير العام لشروط زعيم الانفصال، ووافق على دخول القوات الدولية للإقليم بعد التعهد بعدم التعرض للانفصال، ومن هنا كانت القطيعة السياسية بين همرشولد ولومومبا، خاصة وأن القوى الكبرى بمجلس الأمن أيدت موقف السكرتير العام بما يعنى تكريس انفصال كاتانجا عن باقى الكونجو بدلاً من الحفاظ على وحدة أراضيها.
وإثر ذلك كما هو معروف، فقد أرسل ألن دالاس مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تعليمات لمندوب الوكالة بالكونجو جاء فيها أن استبعاد لومومبا يعد أهم أهداف واشنطن، ويجب أن يحظى هذا الهدف بالأولوية المطلقة فى عمل الوكالة السري. كما وضعت بلجيكا من ناحيتها الخطة باراكودا ونفذت العملية 58316 للتخلص من لومومبا، وتمكنت هذه القوى، والتى ساندتها وتسترت عليها الإدارة العليا للأمم المتحدة، من اختطاف لومومبا ورفاقه بعد أن صدرت تعليمات صريحة من نيويورك للقوات الدولية بعدم توفير أية حماية لرئيس الوزراء المغضوب عليه، وقد نقل لومومبا ورفاقه إلى مدينة إليزابيث فيل أو لومومباشى حالياً حيث نفذ فيهم الحكم بالإعدام بحضور مسئولين بلجيكيين وبعض قادة الأمم المتحدة الذين أداروا وجوههم حين وضعت جثته فى برميل من الحامض لإخفاء معالمها. وكان ذلك يوم 17 يناير1961.
وكانت مصر فى طليعة الدول التى سارعت بإرسال قوات للإسهام فى حفظ السلام والحفاظ على استقلال الكونجو، فأوفدت كتيبة بقيادة العقيد سعد الشاذلي. ورغم كونها المرة الأولى التى تشارك فيها مصر فى إحدى عمليات الأمم المتحدة، إلا أن حسن تنظيم وانضباط قواتنا فى ظل الظروف السياسية المتوترة والعوامل المناخية الصعبة كان مثاراً للتقدير. كما أوفدت مصر أيضاً بعثة عسكرية بقيادة العميد أحمد إسماعيل لتدريب الجيش الوطنى الكونجولى، وقامت بدور معروف للحفاظ على استقرار كينشاسا خلال الفترة المضطربة. وتشاء الأقدار أن يكون الرجلان من أبطال نصر أكتوبر العظيم.
وحين اتضحت ملامح المؤامرة الغربية ضد القيادة الوطنية لهذه الدولة الإفريقية الشقيقة الشابة وزعيمها المناضل لومومبا، وحين اختار سكرتير عام الأمم المتحدة الانحياز للجانب الآخر بما يتناقض مع الولاية القانونية والمهام المحددة التى من أجلها جاءت القوات الدولية، فقد اتخذت مصر القرار الصحيح بعدم المشاركة فى أية خطوة من شأنها تكريس انفصال إقليم كاتانجا، والتزمت بالمباديء والقيم الراسخة التى تتميز بها دبلوماسيتنا فكان موقفها ناصعاً، بينما أيادى الآخرين ملوثة بدم المناضل لومومبا. وفى إطار المغالطات المتعمدة لتشويه هذا التاريخ الناصع والموقف الشجاع، فإنه يحلو للبعض من المغرضين القول بأن القوات المصرية خرجت عن مهام ولاية الأمم المتحدة فى الكونجو بدلاً من أن يقولوا إن الأمم المتحدة هى التى تساهلت فى تكريس انقسام الكونجو لحساب المصالح الاحتكارية للدول الكبرى، ونذكر فى هذا المقام ما كتبه محمـد حسنين هيكل بعد اغتيال لومومبا، إذ طالب باستقالة همرشولد من منصبه لأنه فقد ثقة جميع الدول الإفريقية.
أما لومومبا ذاته، فقد ذكر فى رسالته الأخيرة إلى زوجته بولين: «لقد جاهدنا من أجل الكرامة والاستقلال غير المشروط، ولكن الاستعمار البلجيكى والإمبريالية وحلفاءهم الغربيين وجدوا دعماً مباشراً وغير مباشر، متعمداً وغير متعمد، من كبار المسئولين بالأمم المتحدة، تلك المنظمة التى وضعنا فيها ثقتنا حين طالبناها بالتدخل للحفاظ على وحدة أراضينا فخذلتنا وتخلّت عنا. وحين يكتب التاريخ الحقيقى لقارتنا فلن يكون ذلك التاريخ الذى يدرسونه فى واشنطن أو بروكسل أو باريس أو الأمم المتحدة، وإنما ستكتب إفريقيا تاريخها بنفسها وسيكون مليئاً بالأمجاد والانتصارات والكرامة».
ولعلّ فى كلمات المناضل لومومبا شهادة مهمة على نزاهة ومصداقية الدبلوماسية المصرية.
نشر المقال بمجلة الدبلوماسى يناير – فبراير 2021 عدد 299-300″ نهر مبارك الغدوات ميمون الروحات”
https://online.pubhtml5.com/yrgv/dnnb/#p=1