الولايات المتنافرة الأمريكية
سبتمبر 18, 2022مشاركة السفير د./ حسين حسونة عضو مجلس إدارة المجلس فى أعمال لجنة الأمم المتحدة للقانون الدولي في دورتها الأخيرة لعام 2022
سبتمبر 25, 2022
بتاريخ 21 سبتمبر 2022، شارك السفير د./ عزت سعد، نيابة عن المجلس، فى الفعالية التى أقامتها الرابطة الشعبية الصينية للسلام ونزع السلاح CPAPD بمناسبة اليوم العالمى للسلام لعام 2022، والتى عُقِدَت تحت شعار “نحو مبادرة أمنية عالمية لحفظ سلام العالم واستقراره”.
حيث أعرب السفير/ سعد عن عميق شكره لمنظمى الفعالية، مشيرًا إلى أنه منذ بدايات خمسينيات القرن الماضي، تأسست السياسة الخارجية لجمهورية الصين الشعبية على مبادئ التعايش السلمي الخمسة، والتي تشمل الاحترام المتبادل للسيادة ولسلامة الأراضي، وعدم الاعتداء وعدم التدخل في الشئون الداخلية والمساواة والمنافع المتبادلة والتعايش السلمي. وكان ذلك هو الموقف الذي أكدته بكين خلال مشاركتها في مؤتمر باندونج الافرواسيوي عام 1955. وقد ظلت الصين تدافع عن هذه المبادئ بحماس وإيمان، سواء أمام أجهزة الأمم المتحدة، أو في الأطر التي تجمع الصين بالتجمعات والتنظيمات الدولية الإقليمية حول العالم مثل منتدى التعاون الصيني / الأفريقي أو منتدى التعاون الصيني / العربي، حيث أشارت وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية التي أصدرتها الحكومة الصينية في 13 يناير 2016، وأعلنها الرئيس الصينى شي جينبينج فى مقر الجامعة العربية بالقاهرة، أن الصين تعتنق المبادئ الخمسة للتعايش السلمى، وهى: الاحترام المتبادل للسيادة والسلامة الإقليمية، وعدم الاعتداء المتبادل، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، والمساواة، والمنافع المتبادلة، والتعايش السلمى. وفي هذا السياق تضيف الفقرة: أن الصين تدعم عملية السلام فى الشرق الأوسط وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 4 يونيو 1967.
أضاف السفير/ سعد أنه من المهم إلقاء الضوء على طبيعة “السلام” وما يعنيه في الفكر السياسي الصيني. فهو لا يقتصر فقط على نبذ الحرب وعدم اللجوء إلى استخدام القوة في العلاقات الدولية، وإنما يكتسب بعداً تنموياً لا يستهان به. فبدلاً من الوصفة الغربية الفاشلة بشأن تصدير الديمقراطية لدول الشرق الأوسط الكبير والتسويق لها والتي ترتب عليها تحول بعض الدول إلى “دول فاشلة”، تؤمن الصين بأن المساعدات الاقتصادية والفنية هي أدوات ضرورية لتحقيق الاستقرار والأمن والسلام الاجتماعي والحكم الرشيد في بلدان المنطقة. وانطلاقاً من هذا المفهوم الصيني، لا يجب أن نندهش من قيام الصين بدعم العديد من الدول النامية التي تعيش حالات عدم استقرار سياسي وأمني، على أساس أن هذا الدعم، بما في ذلك الاستثمارات في مشروعات ضخمة في مجالات البنية التحتية مثلاً، هو الذي سيجلب الاستقرار والسلام والأمن. وتتبني الدول الغربية وجهة نظر مغايرة حيث تشترط الاستقرار أولاً قبل تقديم الاستثمارات، باعتبار أن أغلبها يأتي من القطاع الخاص غير المستعد للاستثمار في مناطق أزمات.
وفي الشرق الأوسط، نقدّر الموقف الصيني في ذلك تماماً، خاصة مع عقود من الحرب وسفك الدماء والسياسات الأمريكية الفاشلة في المنطقة. فالصين لديها الكثير لتقدمه لنا في الاقتصاد والتنمية الشاملة، بدلاً من السياسات الغربية التي تتسم بالتناقض والنفاق. ونظرة إلى هذه السياسات في أزمات عديدة حول العالم تؤكد ما أقوله. فقط كمثال كثيراً ما تتحدث النخب السياسية الأمريكية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أنه للأسف لا يجرؤ أي مسئول أمريكي على التفوه بأي انتقاد لآخر حالة احتلال استيطاني عنصري في العالم، هو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين الذي يلقي كل الدعم العسكري والمالي من الولايات المتحدة الأمريكية.
ومع صعود الصين بوصفها القوة الاقتصادية الثانية على مستوي العالم والقوة التجارية الأولى، وتزايد الضغوط الخارجية والمنافسة عليها، وفي إطار دبلوماسيتها النشطة، تدافع الصين عن شكل جديد للعلاقات الدولية يقوم على المبادئ الخمسة السابق الإشارة اليها ممثلة في الاحترام المتبادل والإنصاف والعدالة والتعاون على أساس المساواة في المنافع وتعزيز بناء مجتمع يتقاسم مستقبل البشرية، وتسعي إلى عالم منفتح ونظيف وجميل ينعم بالسلام الدائم والأمن العالمي والرخاء المشترك. ويقدر بعض الكتاب الصينيين – بحق – أن مفتاح بناء نوع جديد من العلاقات الدولية يكمن في موازنة العلاقات مع القوي الرئيسية ومع الدول النامية وخلق نموذج منفصل من التعزيز والتفاعل المتبادل. ولكي تحقق الصين ذلك، عليها أولاً تنسيق علاقاتها بالدول الأخرى الرئيسية، أخذاً في الاعتبار أنه في المرحلة الانتقالية التي يمر بها النظام الدولي حالياً، تمر علاقات القوي الرئيسية بتغييرات تدريجية وعميقة.
وفي السياق عاليه، اقترحت القيادة الصينية العديد من أطر التعاون، بما في ذلك مبادرة الحزام والطريق والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وهو ما وفر للصين مشاركة إيجابية ونشطة في الحوكمة العالمية بأبعادها السياسية والاقتصادية. ويضاف إلى ذلك “مفهوم الأمن المشترك والمستدام”، على أساس أنه من غير المرجح أن تكون العلاقات القائمة بين الدول – وخاصة بين الدول الكبيرة – قادرة على مواجهة التحديات الجديدة للقرن الحادي والعشرين.
وقد جاءت مبادرة الرئيس “شي” للأمن العالمي لتؤكد على مجموعة من المبادئ الأساسية لجعل العالم مكاناً أكثر أماناً، والتي تشمل تسوية المنازعات الدولية من خلال الحوار، واحترام خلافات بعضها البعض ومراعاة المصالح الوطنية المختلفة لتحقيق “الأمن للجميع”. وكما أكد الرئيس شي في خطاب القاه في أبريل 2022: “نحن بحاجة إلى العمل معا للحفاظ على السلام والاستقرار في العالم … إن البلدان في جميع أنحاء العالم مثل الركاب على متن السفينة الذين يشتركون في نفس المصير”.
والحقيقة أن مسلسل الأزمات العالمية منذ الأزمة المالية عام 2008 ثم جائحة فيروس كوفيد -19 والحرب في أوكرانيا وحرب التجارة والعقوبات الاقتصادية الأحادية المتوالية على دول عديدة، ومن قبل ذلك غزو العراق وأفغانستان وغيرها، هي كلها أزمات تشهد على فشل الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم. وبما أننا نحن جميعاً أصحاب مصلحة في نظام عالمي عادل يؤمن الاستقرار والأمن للدول جميعاً، صغيرها وكبيرها، فمن الطبيعي أن ندافع عن المبادرة العالمية للأمن بعناصرها القديمة والجديدة على السواء، باعتبارها إطار عمل شامل للأمن العام لصالح المجتمع الدولي بأسره. وتشمل مبادئ المبادرة رفض العقوبات الأحادية، خارج نظام الأمم المتحدة واحترام سيادة جميع الدول وسلامتها الإقليمية، واحترام الخيارات المستقلة لمسارات التنمية والنظم الاجتماعية التي تقررها الشعوب في مختلف البلدان. كذلك ترفض المبادرة سياسات الكتل والأحلاف والدور المركزي للأمم المتحدة في تسوية المنازعات وإدارة الصراعات. وفي هذا السياق، أكد الرئيس شي في خطابه بمناسبة الذكري الخمسين لاستعادة الصين مقعدها في الأمم المتحدة، والسابق الإشارة اليه، الدور المركزي للمنظمة والعمل الجماعي الدولي “من أجل تعددية أطراف حقيقية”، مضيفاً: “أن بناء مجتمع يتشاطر مستقبل مشتركاً للبشرية يستوجب أمم متحدة قوية وإصلاح وتنمية لنظام الحوكمة العالمي”. وتؤكد المبادرة على ضرورة “أخذ المخاوف الأمنية المشروعة لجميع البلدان على محمل الجد”، وهو التزام متبادل يقع على الجميع، ويفترض دبلوماسية وحوار مباشر فيما بين الأطراف المعنية وقدراً لا يستهان به من الانضباط وحسن التقدير كشروط أساسية لإدارة الأزمات. ومن شأن ذلك تعزيز قدرة الدول، لا سيما القوي الكبرى، على مواجهة التحديات المشتركة. ويصدق ذلك بصفة خاصة على العلاقات الأمريكية / الصينية، حيث يجب التخلي عن التوترات الجيوسياسية المتزايدة لصالح التعاون بشأن قضايا دولية عديدة مثل منع الانتشار وتغير المناخ ومكافحة المخدرات. وبدلاً من التعاون وحرمان الأخرين من قول أكبر في الحوكمة العالمية، تركز الولايات المتحدة على المنافسة، بغض النظر عن تكاليفها ومخاطرها حتى على الولايات المتحدة نفسها. ولا شك أن ذلك يخلق أجواء من عدم الثقة والشكوك في النوايا الحقيقية للقيادة الأمريكية. وعلى سبيل المثال كثيراً ما أكد الرئيس بايدن بأن الولايات المتحدة لا تسعي إلي حرب باردة جديدة أو تريد تغيير النظام في موسكو أو في بكين.
ومع ذلك فإن أفعال أمريكا تجاه البلدين، ارتباطاً بأوكرانيا في حالة روسيا، وتايوان في حالة الصين، قد قوضت كثيراً من مصداقية واشنطن، ليس فقط بين القيادة في البلدين، ولكن أيضاً مع الدول الأخرى.
والخلاصة هي أن المبادئ التي تضمنتها المبادرة العالمية للأمن تتسق إلى حد كبير مع مبادئ وأهداف منظمة الأمم المتحدة، وأهمها حفظ السلم والأمن الدوليين بعيداً عن التوترات الجيوسياسية ومساعي بعض الدول للهيمنة على النظام الدولي، ومحاولة استخدام قواعده من أجل تحقيق مصالح خاصة. ويقتضي ذلك الكثير من الجهد من قبل الإدارة الأمريكية لتعزيز مصداقيتها والتخلي عن النفاق والمعايير المزدوجة. وعلى سبيل المثال تبدو واشنطن متحمسة لمكافحة ما تسميه الاستبداد الرقمي، مستهدفة شركات تكنولوجيا المراقبة الصينية، بينما لا تفعل أي شيء مع شركات مماثلة تتخذ من الولايات المتحدة وإسرائيل، وغيرها ممن تسميهم أمريكا “ديمقراطيات غربية”، مقراً لها. وبالمثل، تبذل إدارة بايدن جهوداً كبيرة لإنشاء ترتيبات تستبعد دولاً بعينها مثل الحوار الأمني الرباعي (The Quad)، الذي يستبعد الصين والإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. وكذلك المحاولة الفاشلة لإنشاء ما يسمي بــــ “ناتو عربي” في الشرق الأوسط ضد إيران.
وسيكون أفضل كثيراً للولايات المتحدة أن تنخرط في حوار مع القوي الأخرى، بعيداً عن سياسات التنافس، من أجل بلورة رؤية شاملة وإيجابية للعالم تأخذ مصالح جميع الدول في الاعتبار، وليس فقط مصالح الولايات المتحدة دون غيرها وستظل مصالح وقيم البلدان متباينة، الأمر الذي يستوجب الاعتراف به واحترامه طالما لا ينطوي على أضرار أو مخاطر على أحد.