المؤتمر السنوي للمجلس المصرى للشئون الخارجية “تداعيات الحرب في أوكرانيا على الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط ومصر”
فبراير 11, 2023يرحب المجلس المصري للشئون الخارجية بعقد مؤتمر القدس رفيع المستوي، بمقر جامعة الدول العربية
فبراير 12, 2023
فى 11 فبراير الجاري، عقد المجلس المصري للشئون الخارجية مؤتمره السنوي تحت شعار “تداعيات الحرب في أوكرانيا على الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط ومصر”، وذلك بمشاركة نخبة من الدبلوماسيين والخبراء والمتخصصين. وافتتح أعمال المؤتمر السيد وزير الخارجية/ سامح شكري.
وقد فرض موضوع المؤتمر نفسه وبقوة، ليس فقط بالنظر إلى أن الحرب مثَّلت التطور الجيوسياسي الأكثر أهمية منذ عقود، كما كانت العامل المهيمن على العلاقات الدولية منذ بدايات العام الماضي، والمرجح استمرارها هذا العام، وربما لسنوات طويلة قادمة، وإنما أيضًا للتداعيات الجيوسياسية التي تنطوي عليها هذه الحرب، مُعِيدةً منافسة القوى العظمى والتحالفات الجيوسياسية إلى واجهة المشهد العالمي، وخلق حالة من الانقسام والاستقطاب الحاد، جعلت العديد من الدول، خاصة النامية، في حيرة من أمرها حول كيفية التعامل معها. أما التداعيات الجيواقتصادية، ارتباطاً بالعقوبات الاقتصادية غير المسبوقة على روسيا بسبب الحرب، فقد امتدت آثارها المباشرة وغير المباشرة لتشمل كل أرجاء المعمورة، مُحدِثةً اضطراب وفوضى وضغوطاً هائلة غير مسبوقة في الاقتصاد العالمي. وقد كشف هذا “الهجوم الاقتصادي الشامل” ضد روسيا، حسبما أكد خبراء، عن واقع جديد مهم هو أن زمن العقوبات غير المكلفة والخالية من المخاطر، والتي يمكن التنبؤ بها، قد انتهى في الواقع.
في السياق عاليه، عالج المؤتمر ثلاثة محاور؛ حيث يتناول الأول تداعيات الحرب على تنافس القوى الكبرى في الإقليم (الولايات المتحدة وروسيا والصين)، مع الأخذ في الاعتبار حقيقة أن أوروبا كانت اللاعب الحاضر الغائب، حيث ظلت – راضية أو مرغمة – جزءًا من الاستراتيجية الأمريكية، سواء بفرض عقوبات على صادرات الطاقة الروسية أو جزء من تحرك أمريكي أوسع لتأمين احتياجات الدول الأوروبية من الطاقة، في ظل تداعيات الحرب، خاصة من منطقة الشرق الأوسط. وتناول المحور الثاني التداعيات على الدول العربية ودول الجوار (تركيا وإيران وإسرائيل)، فيما ألقى المحور الثالث الضوء على تداعيات الحرب على مصر، سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً.
ولقد خلص المؤتمر، فيما يتعلق بالمحور الأول، إلى التأكيد على أن الشرق الأوسط سيظل ساحة هامة لتنافس القوى العظمى. وقد يكون صحيحاً القول بأن كل من القوى الثلاث لا يملك نفس الأهداف في المنطقة، وأنه حتى لو لم تحاول روسيا أو الصين أن تحل محل الدور المهيمن للولايات المتحدة فيها، إلا أن لكلٍ منها أهدافًا تتعارض مع المصالح الأمريكية فيها. وبينما تحاول الولايات المتحدة الحد من بصمتها العسكرية في المنطقة، تحاول الصين توسيع نفوذها الاقتصادي دون استثارة الشركاء أو الانجرار عسكرياً. أما روسيا فتسعى إلى تعزيز مصالحها الأمنية والاقتصادية، وبالتالي مكانتها العالمية، فضلاً عن البحث عن فرص لتقويض النفوذ الأمريكي.
ومن ثمَّ، يمكن القول بأن العديد من التحركات وأهداف القوى الثلاث غير متماثلة، مع مراعاة أن تحركات كلٍ منها يمكن أن تؤثر على الأخرى في الإطار الأوسع لتنافس القوى العظمي. وجديرٌ بالذكر أن هناك تقديرات عديدة تشير إلى أنه بسبب تنافس القوى العظمى هذا، فإنه من المرجح أن تظل معظم صراعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في حال من الجمود خلال عام 2023، بل إن هناك فرصًا للتصعيد وسيناريوهات مختلفة يمكن أن تشعل شرارة القتال هنا وهناك.
وفيما يتعلق بالمحور الخاص بتداعيات الحرب على الدول العربية وكلٍ من تركيا وإيران وإسرائيل، لاحظ المؤتمر أن هناك توجهًا قويًا يعتقد أن التنافس المتصاعد بين التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة والمحور الروسي / الصيني، يوفر فرصاً للقوى المتوسطة، إلى جانب ما يمثله من تهديدات. ولعلَّ هذا متجلٍّ بوضوح في زيارات ثلاث من قيادات القوى الكبرى للمنطقة خلال العام الماضي (زيارة الرئيس بايدن للرياض في 13 – 16 يوليو 2022، والرئيس بوتين لإيران في 19 من الشهر ذاته، والرئيس الصيني للرياض في 7 – 9 ديسمبر 2022).
وفي هذا السياق، فلا ريب أن تداعيات الحرب على تنافس القوى الكبرى، تمثل فرصة للدول العربية، بما توفره لها من هامش للمناورة السياسية، ونوعاً من التوازن في العلاقات العربية / الأمريكية، بما يساعد في تقليص تداعيات أية تحولات محتملة في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط خلال السنوات القادمة. وسيكون على القوى الكبرى المتصارعة إيلاء المزيد من الاهتمام لوجهات نظر البلدان العربية، خاصة إذا ما أحسنت الأخيرة استخدام ما لديها من أوراق.
من جهةٍ أخرى، وبالنسبة لدول الجوار العربي الثلاث، فقد وضعت الحرب وتداعياتها الدول الثلاث أمام تحديات صعبة ومعقدة. وفي هذا الصدد، عملت تركيا على استثمار الأزمة لصالحها قدر الإمكان، بما مكَّنها من لعب أدوار جيوسياسية حسَّاسة، كان لها انعكاسها في السلوك التركي في الإقليم، سواء فيما يتعلق بسوريا أو ليبيا. أمَّا ايران، فقد انفردت بكونها الدولة الوحيدة التي اختارت دعم روسيا عسكرياً خلال الحرب، وهو ما قلص كثيراً من هامش المناورة أمامها، ورسخ وضعيتها كطرف أصيل في محور روسيا / الصين، كما كان لهذا الموقف انعكاسات حاسمة على فرص إحياء الاتفاق النووي المُوقَّع عام 2015.
أمَّا إسرائيل، فقد حاولت في البداية تبنِّي موقفًا محايدًا، أو هكذا وصفته، فرضته اعتبارات تتعلق بالحضور العسكري الإيراني في سوريا. إلا أنه مع الوقت، وبصفة خاصة منذ الكشف عن انخراط إيران في دعم روسيا بالمسيرات، تحول الموقف الإسرائيلي بشدة، فيما يتعلق بمهادنة روسيا، حيث تشير تقديرات غربية عديدة إلى وجود دعم إسرائيلي مخابراتي وعسكري (أسلحة دفاعية) لأوكرانيا مباشرة أو عبر الناتو، كما استفادت إسرائيل كثيراً من التداعيات الأمنية للحرب، في صورة مبيعات أسلحة للعديد من الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا، بعد أن دفعت الحرب هذه الدول إلى زيادة إنفاقها الدفاعي.
هذا، وارتباطًا بالمحور الأخير المعنِي باستقصاء تداعيات الحرب على مصر سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً. فقد أعرب المشاركون عن ارتياحهم إزاء مضي مصر قدماً في سياستها الخارجية القائمة على تنويع الخيارات والانفتاح على الجميع. وهو الأمر الذي يمكن التعرف عليه بوضوح، سواء من تحركات مصر تجاه القوى الدولية الثلاث (الولايات المتحدة – روسيا – الصين) أو موقفها في الإطار المتعدد الأطراف. ولا يخفى أن القاهرة كانت أول مَن بادر إلى الدعوة لعقد اجتماع عاجل للجامعة العربية لبحث الأزمة الأوكرانية، وهو ما قاد إلى إنشاء مجموعة اتصال عربية للعب دور الوساطة بهدف تعزيز ودعم التوصل إلى حل سياسي للأزمة. وكما أشار السيد وزير الخارجية في كلمته الافتتاحية، فقد بذلت مصر جهوداً حثيثة للتفاعل على المستوى الثنائي والمتعدد لاحتواء التداعيات السلبية للأزمة، مؤكِّدًا اهتمام مصر بالدفاع عن منظومة العمل الجماعي متعدد الأطراف، والتحذير من مغبة التحرك والعمل الدولي خارجها من خلال السعي لإرساء قواعد جديدة خارج هذه المنظومة.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى الزيارة الأخيرة التي قام بها السيد وزير الخارجية لموسكو في مطلع فبراير الجاري، وتصريحاته خلالها، والتي أكدت مصالح مصر وعلاقاتها المتشابكة بالقوى المختلفة، بما عبَّر عن رسوخ هذا التوجه في السياسة الخارجية المصرية، رغم الضغوط الجمَّة التي تواجهها، وتفهُّم كلٍ من موسكو وواشنطن لتلك السياسة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، ساهمت الحرب بشدة في تفاقم تداعيات أزمة كوفيد 19، خاصة بالنظر إلى الارتفاع الكبير في أسعار الغذاء والطاقة. وحريٌ بالذكر هنا رفض مصر توظيف العقوبات الاقتصادية ضد موسكو ارتباطًا بالحرب في أوكرانيا، ويُحسب للحكومة المصرية في هذا الصدد قيامها، منذ البداية، بتشكيل خلية أزمة، برئاسة السيد رئيس مجلس الوزراء للتعامل مع التداعيات الاقتصادية للحرب، من خلال اتخاذ التدابير والإجراءات الكفيلة بتأمين مخزون البلاد من السلع الاستراتيجية واحتياجاتها الغذائية، بما في ذلك التخفيف من الضغوط على الاقتصاد المصري والمواطنين من ذوي الدخل المحدود.
من ناحيةٍ أخرى، أكَّد المؤتمر أن هناك آثارًا إيجابية للأزمة، تمثلت في مضاعفة الصادرات المصرية من الغاز الطبيعي المسال بنسبة 100% تقريباً، وفقاً لوكالة بلومبرج. وقد تحقق ذلك بفضل جهود حثيثة للاستفادة من تأثيرات الحرب على قطاع الطاقة العالمي، والتي كانت بمثابة الحافز الرئيسي لتحولات هيكلية إيجابية يُتوقَّع أن يشهدها هذا القطاع خلال السنوات المقبلة. ولقد تمثَّل محور هذه التحولات بصفة أساسية في تركيز العديد من دول العالم المتقدم على التحول نحو الطاقة النظيفة. وفي هذا السياق، تلاقت المصالح المصرية مع مساعي الاتحاد الأوروبي لإيجاد بدائل للغاز الروسي وتنويع مصادر الطاقة لديها، وهو ما دفع الحكومة المصرية إلى توفير الاستهلاك المحلى للغاز المصري وتوجيهه للتصدير، مع زيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أنه في سياق دبلوماسيتها للتعامل مع أزمة الأمن الغذائي، طالبت مصر من داخل الأمم المتحدة، في سبتمبر 2022، بإطلاق مبادرة عالمية لمبادلة الديون، كما عرضت التعاون في إنشاء مركز دولي لتخزين وتجارة الحبوب على أراضيها. وقد لفت السيد سامح شكري وزير الخارجية – في كلمته خلال الدورة السابعة والسبعين للجمعية العامة في سبتمبر الماضي – الانتباه إلى “التأثيرات المضاعفة” لما وصفه بـ “الأزمات المتعددة في الواقع الدولي وتشابكها” وعلى رأسها “الأمن الغذائي”، الناتجة عن “إخفاق المجتمع الدولي لسنوات طويلة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، والقضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي”، مشيراً في ذلك إلى ما أسماه بـ “الواقع بالمؤسف في إفريقيا”.
وكان من بين أهم ما خلص إليه المؤتمر في هذا الشأن التأكيد على أن الأزمة ربما تكون بمثابة حافز للتخفيف من حجم الواردات المصرية، وتعزيز الاستثمار في القطاعين الزراعي والصناعي، بما في ذلك تشجيع المزارعين على زراعة المحاصيل الرئيسية، وتنويع أسواق استيراد القمح والمواد الغذائية التي يحتاجها السوق المصري، وتوطين الصناعات الوطنية، وهو ما بدأت الحكومة المصرية في القيام به بالفعل.
أخيراً، ومن الناحية الأمنية والعسكرية، فقد خلص المشاركون إلى بعض الدروس المستفادة من الحرب حتى الآن، ومنها الأهمية الاستراتيجية للجيوش النظامية، وتحديثها باستمرار، بما يكفل تعزيز قدراتها لمواجهة التحديات الجديدة التي تفرضها التكنولوجيا العسكرية والأمنية الحديثة. وقد أُشِير في هذا الصدد إلى أن المسيّرات تمثل الآن قدرات أساسية للقوات البرية، وأداة فاعلة في الحرب الحديثة. وفيما يتعلق بمستقبل دور روسيا كمورِّد رئيسي للسلاح لدول المنطقة، بما فيها مصر، لا تبدو الصورة واضحة في هذا الشأن، وإن كان من المنطقي القول بأن طول أمد الحرب سوف يؤثر على صادرات موسكو من الأسلحة لزبائنها في المنطقة.
هذا، وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم الأمن القومي حظي باهتمام كبير خلال أعمال المؤتمر؛ حيث أُشِير في هذا الشأن إلى أمن الطاقة والأمن الغذائي، وأمن المناخ، كأبعادٍ هامة ضمن مفهوم الأمن القومي، لاسيَّما في سياق ما تفرضه تحديات الواقع العالمي الراهنة.