زيارة وفد المجلس إلى بلجراد
يوليو 2, 2023محضر اجتماع اللجنة الاقتصادية بالمجلس
يوليو 5, 2023
عزت سعد مدير المجلس المصري للشئون الخارجية
كان طبيعيا أن يستقطب تمرد مجموعة فاجنر فى روسيا ــ والذى لم يستغرق سوى 36 ساعة بعد إنهائه بوساطة من الرئيس البيلاروسى ألكسندر لوكاشينكو فى 24 يونيو الماضى ــ اهتمام العالم، حيث حظى بردود فعل دولية وتحليلات متباينة وتغطية إعلامية واسعة ومتواصلة. وربما ساهم فى ذلك حقيقة أن التمرد جاء فى توقيت يبحث فيه الغرب عن طرق جديدة للضغط على روسيا، فى ظل شواهد توحى بتعثر الهجوم الأوكرانى المضاد، الذى تعلق عليه واشنطن والحلفاء آمالا كبيرة فى إلحاق خسائر فادحة بالجانب الروسى، بما قد يجبره على التفاوض. وفى هذا السياق يمكن فهم التقييم الغربى لدلالات التمرد، وهو تقييم اختلطت فيه التمنيات بالحقائق.
والمتأمل لملحمة بريجوجين بتفاصيلها يخرج بانطباع مفاده أنها «شأن عائلى» بامتياز، أو خلاف بين أفراد الأسرة الواحدة، وإن خرج بعضهم عن الخطوط الحمراء، وذلك بالنظر إلى اعتبارات عديدة لعل أبرزها أن فاجنر ليست نبتا شيطانيا. فهى جزء من المنظومة العسكرية التى تخضع للقيادة العليا للقوات المسلحة، وتراقب أنشطتها الأجهزة الأمنية المعنية، مثلها مثل الشركات العسكرية الخاصة الأخرى فى البلاد. ويجب النظر إلى صعود فاجنر على أنه تطور فى سياق تاريخ طويل من الاعتماد السوفيتى والروسى على القوات غير النظامية. ولم تكن مغامرة بريجوجين انقلابا، كما يلاحظ أن قائد فاجنر لم ينطق بكلمة واحدة ضد بوتين شخصيا، وكان المستهدف من تصريحاته «جنرالات موسكو»، وتحديدا شويجو وزير الدفاع وجراسيموف رئيس الأركان. ولم يطالب بإنهاء الحرب، وإنما كانت طلباته كلها فى شكل ثأر شخصى من وزارة الدفاع. وبمعنى آخر، كان هدف تمرد بريجوجين لفت انتباه رب العائلة، بوتين، وفرض نقاش حول شروط استمراره فى ميدان المعركة ودور المجموعة ارتباطا بذلك وتأمين وتمويل أعضائها. ويلاحظ فى هذا السياق أن سكان روستوف تعاملوا مع عناصر التمرد بود والتقطوا الصور معهم. وفى تقدير بعض المحللين الغربيين كان التمرد بمثابة محاولة يائسة من بريجوجين لإنقاذ مشروعه، وربما فوجئ برد فعل بوتين، من حيث تعهده الحاسم بإخماد التمرد بالقوة. وفى النهاية، انحاز الرئيس للجيش النظامى، عندما وقع مرسوما يقضى بضرورة انخراط جميع الجماعات العسكرية غير النظامية فى القوات المسلحة، وهو ما اتفق عليه الجميع، عدا فاجنر. ووفقا لمعلومات متواترة، كان الجيش قد خطط لاستخدام القوة ضد فاجنر واعتقال بريجوجين بعد رفضه انضواء قواته تحت مظلة الجيش النظامى بعد معركة باخموت فى مايو الماضى، ومن هنا جاء رد فعله كما تابعناه.
وفى سياق هذا «الشأن العائلى»، جاء إعلان الرئيس الشيشانى رمضان قاديروف عن أن قوات «أحمد» التابعة له فى الطريق إلى روستوف «لتأديب» فاجنر. هذه القوات هى أيضا جزء من المنظومة وقبلت بالانضمام للجيش النظامى، على خلاف فاجنر. أما الرئيس ألكسندر لوكاشينكو الذى قام بدور الوساطة بمبادرة شخصية منه، وبحكم معرفته ببريجوجين الممتدة لأكثر من عشرين عاما حسبما أكد المتحدث باسم الكريملين، فهو حليف روسيا وسندها الرئيسى فى معركتها مع الغرب. ترتب على السياسة الغربية التدخلية فى دعم المظاهرات العارمة لإسقاط الرئيس لوكاشينكو عام 2020، إلى تحالفه مع جارته الكبرى.
والحال على ما تقدم، يمكن القول بأن تمرد فاجنر لم يكن لينجح مطلقا، حسبما أكدت تحليلات غربية عديدة، حيث يتعلق الأمر بنظام مصمم ضد الانقلابات، خاصة فى ظل وجود العديد من الوكالات الأمنية التى تراقب، وتعارض بعضها البعض أحيانا، فضلا عن مرابطة وحدات عسكرية نخبوية عديدة على تخوم العاصمة موسكو.
من ناحية أخرى، فإن العداء المتبادل بين بريجوجين والمؤسسة العسكرية الرسمية أمر معلن ومفضوح منذ بدء الحرب فى أوكرانيا. وفى هذا السياق، أشارت التقارير الاستخباراتية الأمريكية، المسربة فى أبريل الماضى، إلى أن الولايات المتحدة اعترضت اتصالات بين كبار القادة العسكريين الروس ناقشوا خلالها كيفية التعامل مع مطالب بريجوجين المستمرة لمزيد من الذخيرة والعتاد، خاصة أن الجيش الروسى نفسه كان يعانى أيضا من نقص الذخيرة. وفضلا عن ذلك أظهر بريجوجين طموحا سياسيا واضحا فى الأشهر الأخيرة، بجانب ولعه بالظهور فى وسائل الإعلام والحرص على إبراز أن فاجنر قادرة على القيام بمهام تتجاوز القتال بكثير، وأنه يمكنها تعزيز مصالح روسيا حول العالم بوسائل أخرى، شريطة أن يزودها الكرملين بالصلاحيات والموارد الكافية.
وكاد بريجوجين أن يتسبب فى أزمة دبلوماسية بين روسيا وصربيا العام الماضى، عندما أعلنت وسائل إعلام يمتلكها عن وصول اثنين من الصرب من نشطاء اليمين مقر المجموعة فى سانت بطرسبرج، للقتال ضمن قوات المجموعة فى أوكرانيا، وأن فاجنر قد تفتح مكتبا لها فى صربيا لتجنيد متطوعين للقتال ضد أوكرانيا. وأعقب ذلك أنباء عن العديد من المتطوعين الصرب الذين يتدربون بالفعل فى صفوف فاجنر، وظهرت فى يناير الماضى جدارية تحتفى بفاجنر فى بلجراد. وكانت النتيجة أن أبرزت وسائل الإعلام العالمية قضية توسع فاجنر فى البلقان، على نحو ما أراده بريجوجين تماما، على أمل أن يقنع الكرملين بأن شركته يمكن أن تعزز نفوذ روسيا الدولى بشكل أكثر كفاءة من جهاز الدولة المترهل. وهكذا، فسر هذا السلوك، من قبل خبراء، برغبة بريجوجين فى لفت انتباه القيادة الروسية إلى جهوده وتواصله الدولى المتزايد. وتفاديا لأزمة سياسية مع موسكو خاصة مع سعى بلجراد للانضمام للاتحاد الأوروبى، أعلن الرئيس الصربى فوسيتش أن فاجنر غير مرحب بها فى بلاده التى تحظر قتال المرتزقة، مؤكدا أنها لا تدعم حرب موسكو فى أوكرانيا وأنها تحترم سلامتها الإقليمية ولا تعترف بضم شبه جزيرة القرم. وتتفهم موسكو جيدا هذا الموقف، إدراكا منها بأن صربيا لا يمكنها التهاون فى مبدأ السلامة الإقليمية ارتباطا بمساعيها منع الاعتراف بإقليمها الانفصالى كوسوفو.
مما لا شك فيه أن للتمرد تداعيات على مستقبل فاجنر نفسها ودورها الخارجى، مما لا يتسع هذه المقال لتناوله. أما فيما يتعلق بتداعيات سقوط المجموعة على مسار الحرب فى أوكرانيا، فقد أكد المتحدث الرسمى باسم الكرملين أن التمرد لن يؤثر بأى حال من الأحوال على مسار «العملية العسكرية الخاصة»، مشددا على أن القوات الروسية تواصل بنجاح صد الهجوم الأوكرانى المضاد. وكان مراقبون غربيون قد أشاروا أخيرا إلى أن الجيش الروسى قلص إلى حد كبير اعتماده على فاجنر فى المعارك، خصوصا فى الجبهات الحساسة، فيما ينتشر الجيش فى مناطق أكثر تأثيرا من الناحية الاستراتيجية. ويعزز هذا النظر خبراء أمريكيون يعتقدون أن مقاتلى فاجنر لم يكونوا أبدا فى مواقع مهمة استراتيجيا، كما أن أعضاءها ليسوا على مستوى كاف من التدريب، مدللين على ذلك بالخسائر الفادحة فى الأرواح بين صفوفهم خلال عملية الاستيلاء على باخموت فى مايو الماضى. ويقدر الخبراء الغربيون أن الانتصارات التى حققتها الآلة العسكرية الروسية تعود، فى المقام الأول، إلى استخدام القوات الجوية والقوة النارية للمدفعية والاعتماد على قوات جمهوريتى دونيتسك ولوجانسك، إضافة إلى الوحدات الشيشانية.
علاوة على ما تقدم، وفى مارس الماضى، كان تحليل للمعهد الأمريكى لدراسات الحرب قد كشف عن أن وزارة الدفاع الروسية «أعطت الأولوية للقضاء على قوات فاجنر فى ساحات القتال فى باخموت». ولعل ذلك ما يفسر تلويح قائد فاجنر بترك موقعه فى باخموت فى اللحظات الحاسمة قبل السيطرة على المدينة الاستراتيجية، بسبب ما وصفه بتقاعس الجيش الروسى عن تلبية طلباته بإمداده بالأسلحة.
والحال على ما تقدم، يقدر خبراء غربيون أن المستفيد الأكبر من ملحمة بريجوجين، التى اعتبرت أحد أكثر الأيام اضطرابا فى حكم الرئيس بوتين منذ عام 2000، هو الرئيس نفسه، الذى تسامح كثيرا مع تصرفات بريجوجين، حيث مكنه ذلك من تمرير عدة قوانين استطاع من خلالها دعم عملية زيادة أعداد القوات المسلحة ومسار العملية العسكرية فى أوكرانيا. وربما تكون الأزمة ــ وفقا لهؤلاء الخبراء ــ قد ساعدت إلى حد ما فى نزع فتيل التوترات التى كانت تتزايد داخل الجسم السياسى الروسى. وبالتالى لا يستبعد هؤلاء إمكانية إعادة ترتيب وزارة الدفاع وإجراء تغييرات على قيادتها، فى ضوء بعض أوجه القصور التى شابت أداء الجيش خلال العام والنصف الماضيين، وهو بالضبط ما سعى إليه بريجوجين. ومن شأن ذلك المزيد من شعبية الرئيس بوتين فى صفوف القوات المسلحة. ويشار فى هذا السياق أيضا إلى أن الرئيس الروسى تمكن من البقاء فوق الصراع الداخلى بين بريجوجين والنخبة العسكرية، كما أنه استخدم التنافس لصالحه من بعض النواحى. وعلى سبيل المثال اعترف مسئولون أمريكيون بأنه بالرغم من العنصر الدعائى المسرحى لشكاوى بريجوجين العلنية، إلا أنه كان مفيدا للرئيس الروسى الذى انتقد، هو نفسه، قياداته العسكرية. كذلك كانت معركة قائد فاجنر مع وزارة الدفاع حقيقية، بدرجة ما، وليست مسرحية سياسية، غذتها الخسائر الفادحة التى تكبدتها روسيا فى باخموت.
أخيرا يقدر عدد من الكتاب الغربيين أن التحرك المفاجئ لقائد فاجنر والصداع المتواصل الذى سببه للرئيس بوتين على مدى الأشهر الماضية، يوضح خطورة اعتماد الدول على المرتزقة، حيث يمكن أن ينقلب السحر على الساحر فجأة، وتصبح هذه الجماعات المسلحة شوكة فى خاصرة الدولة التى اختارت اللعب بورقتها، وتباغتها بسيناريوهات ربما تُدخل تلك الدول فى دوامات من العنف والاقتتال ما يكبدها خسائر فادحة.
نشر المقال بجريدة الشروق بتاريخ 4 يوليو 2023 و رابط :