حلقة نقاشية حول “القمة العربية الـ39 بالدمام”
أبريل 11, 2018تأبين المرحوم السفير د.محمد شاكر
أبريل 19, 2018
استضاف المجلس مساء الأربعاء 18 أبريل 2018 معالى السفير د. نبيل العربى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، للحديث عن نظام الأمن الجماعى الدولى وأسباب فشله. وقد ترأَّس الجلسة السفير د. منير زهران، رئيس المجلس، وحضرها جمعٌ من النخبة الدبلوماسية والفكرية المصرية.
افتتح الجلسة د. منير زهران بإلقاء الضوء على الروابط التى تربط سيادته بالدكتور نبيل العربى، وملامح من السيرة الذاتية للمُحاضِر، مبيناً دراساته العلمية ومناصبه الدبلوماسية والسياسية التى تبوَّأها، وكيف أنه يُعَد أحد أعلام القانون الدولى المعاصر عبر خبرة متراكمة كانت بدايتها كلية الحقوق بجامعة القاهرة.
بعدأن تناول د. نبيل دفة الحديث،قدَّم شكره لرئيس المجلس المصرى،ثم قام بعرض ورقته، ونصها كالتالى:
-
إن إلقاء نظرة عامة على النظام الدولى المعاصر الذى نشأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والذى يحدد أبعاده ميثاق الأمم المتحدة يؤكد أن نظام الأمن الجماعى الذى نصَّ عليه الميثاق لحماية السلم والأمن الدوليين قد فشل. فميثاق الأمم المتحدة يبدأ “نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب… وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد، ونأأأن نبين الأحوال التى يمكن فى ظلها تحقيق العدالة”.
-
ولقد كشف الحساب بعد سبعة عقودٍ ونيف أن الأمم المتحدة قد فشلت فشلاً ذريعاً فى الاضطلاع بمسئولياتها. ويستدعى ذلك ذكر اعتراف السكرتير العام الثالث للأمم المتحدة أوثانت فى عام 1969 صراحةً فى أحد تقاريره إلى الجمعية العامة أنه “لسنواتٍ طويلة كانت الحرب الباردة بين معسكر الولايات المتحدة ومعسكر الاتحاد السوفييتى المتهم الرئيسى لهذا الفشل”. لذلك بعد سقوط حائط برلين عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفييتى، ساد العالم موجة من التفاؤل والشعور العام بأنه سيتم تحقيق ما ورد فى ديباجة ميثاق الأمم المتحدة من أن “نحن شعوب العالم نؤكد العزم على إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحروب”. ولهذا الغرض اتُفِقَ على إقامة الأمم المتحدة التى يكون الهدف الأول من إنشائها هو “المحافظة على السلم والأمن الدوليين باتخاذ التدابير الجماعية الكفيلة بمنع وإزالة أى تهديد لهما، والقضاء على جميع صور العدوان”. ارتفعت الآمال بأن هذه الأهداف السامية سوف ترى النور بعد انتهاء الحرب الباردة، وسوف ينبذ العالم قانون الغاب الذى يعود لعهود مظلمة ماضية عفا عنها الزمن بحيث يسود السلام والعدالة كل بقاع الأرض.
-
هذه المسئوليات الجسام يتولاها مجلس الأمن الذى ينص الميثاق فى المادة الرابعة والعشرين “رغبةً فى أن يكون العمل الذى تقوم به الأمم المتحدة سريعاً وفعَّالاً يعهد إلى مجلس الأمن بالتبعات الرئيسية فى أمر حفظ السلم والأمن الدوليين ويوافق على أن المجلس يعمل نيابةً عنهم”. كما نصَّ الميثاق على أن قرارات المجلس فى المسائل الإجرائية تصدر بأغلبية تسعة أصوات من بينها أصوات الأعضاء الدائمين متفقة (Concurring). ويعتقد سيادته أن التجارب أثبتت أن هذا النص مَعيب وأدى إلى شلل فعلى لأعمال المجلس.
-
لابد من الإشارة إلى ان الجمعية العامة لها صلاحيات واسعة فى مناقشة أية مسألة واتخاذ قرارات فى حالاتٍ معينة، ولكنها قرارات غير ملزمة. ومن المناسب هنا التعرض بإيجازٍ إلى القرار الشهير “الاتحاد من أجل السلام” الذى أصدرته الجمعية العامة إبَّان الحرب الكورية فى 3 نوفمبر 1953، والذى يُسَاء فى مصر فهم أبعاده. وتكفى الإشارة إلى أن هذا القرار لا يملك دستورياً تعديل أحكام الميثاق الذى يحدد أبعاد دور مختلف الأجهزة([1]). وقد أنشأ القرار لجنتان؛ إحداهما Peace Observation، والأخرى Collective Security، وبمرور الزمن وعدم استخدامهما أصبحتا عاطلتَيْن ولا تعملان. ما تبقى من القرار ويستخدم أحياناً هو الشق الإجرائى الذى يتعلق بدعوة الجمعية للاجتماع خلال 24 ساعة إذا اقتضى الأمر (Emergency Special Session) (م B8، و م B9) من لائحة إجراءات الجمعية العامة.
-
وبالفعل فى أول اجتماع قمة لمجلس الأمن، وبعد انتهاء الحرب الباردة فى 31 يناير 1992 طلب قادة العالم من السكرتير العام الجديد للأمم المتحدة الدكتور بطرس بطرس غالى أن يقدم تقريراً عن تصور لطبيعة العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة، فتقدَّم سيادته بتقرير فى غاية الأهمية أُطلِق عليه “أجندة السلام”، ولكنه سرعان ما تبين أن حماية السلام العالمى لن تتحقق بمجرد انتهاء الحرب الباردة لأن مصالح الدول الكبرى كثيراً ما تتعارض، وبالتالى سوف يستمر شلل مجلس الأمن وعدم قدرته على اتخاذ التدابير الفعّالة العاجلة التى تفرض السلام بسبب سوء استخدام الفيتو([2])، واختصاصات المجلس واسعة ولا تقتصر على أحكام المادة 39.
-
وعلى سبيل المثال وليس الحصر هناك اتفاقيات فى إطار حقوق الإنسان مثل اتفاقية Genocide تلقى على المجلس مسئوليات مباشرة، كما أن اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية الدولية (ICC) تضفى على المجلس مسئوليات واسعة تشمل بدء الإجراءات ووقفها أمام المحكمة ([3]).
-
كما أن العديد من اتفاقيات نزع السلاح تضفى على المجلس مسئوليات عديدة فى التحقق من التنفيذ السليم لأحكامها. بالإضافة إلى ما تقدم، تتضمن المادة (94) من الميثاق على مجلس الأمن صلاحيات فى حال رفض طرف تنفيذ حكم لمحكمة العدل الدولية.
-
هنا، لابد من العودة إلى الوراء وإلقاء نظرة معمقة على ما سوف أُطلِق عليه “العقد الاجتماعى” الذى أُبرِم عام 1945 فى مؤتمر سان فرانسيسكو عند إقرار ميثاق الأمم المتحدة بعد أكبر حرب مدمرة فى تاريخ الإنسانية. عندئذٍ اتُفِق على إنشاء “مجلس أمن” يتولى الإشراف على حماية السلم والأمن الدوليين، وأن تكون للمجلس صلاحيات واسعة غير مسبوقة للقضاء على كل ما يهدد السلم، كما اتُفِق على أن تكون للدول الخمس الكبرى دائمة العضوية صلاحيات نقض (فيتو) للقرارات الموضوعية وليس القرارات الإجرائية. وللأسف لم يحتوِ الميثاق على تحديد دقيق للقرارات الإجرائية التى لا يجوز نقضها وما هو موضوعى يمنح الميثاق رخصة للدول الخمس دائمة العضوية رخصة نقض بمعنى إفشال قرارات حصلت على الأغلبية المقررة لإصدارها ([4]).
-
الحجة وراء هذه الرخصة غير المسبوقة التى قٌدِّمَت كانت تدور حول مسئولية هذه الدول الخمس العظمى فى حماية السلام العالمى أى مسئولية دولية عامة ولم تكن لحماية مصالح شخصية لهذه الدول. وقد حاولت الدول الخمس الكبرى فى مؤتمر سان فرانسيسكو فرض رغبتها فى إطلاق يدها فى نقض جميع القرارات أياً كان مضمونها وإدماج هذه الرخصة بوضوح فى صلب الميثاق، ولكنها لم تنجح فى ذلك للمعارضة التى أبدتها الدول. ونجد أن الوضع الحالى يجعل المصالح السياسية والاقتصادية المتشابكة للدول الخمس الكبرى التى تملك صلاحية إعاقة مباشرة مجلس الأمن لمسئولياته تجعل من غير المتصور أن هناك أى إجراء يستطيع أن يقوم به المجلس لا يمس هذه المصالح بطريقة مباشرة او غير مباشرة. معنى هذا ببساطة أنه قد كُتِب على مجلس الأمن بتركيبته الحالية أن يبقى فى حالة شلل دائم، وهو ما تعانى منه الإنسانية منذ نشأة الأمم المتحدة.
-
وبناءً على ما تقدم، فإن شبكة الحماية الدولية للدول التى جاء بها ميثاق الأمم المتحدة لم تعد متوافرة. وهذا ما عانت منه الدول العربية بالنسبة لقضية فلسطين على مدى سبعة عقود، وما تعانى منه الآن المنطقة فيما يتعلق بتطبيق القرارات الخاصة بسوريا. نعم أحياناً تصدر قرارات من المجلس تعالج العديد من الأزمات، ولكن فى نهاية المطاف لا تُطبَّق هذه القرارات.
-
ولابد من الإشارة هنا إلى أن شلل المجلس لا يتوقف فقط على الاستخدام الفعلى للفيتو. فقد كنت ممثلاً لمصر فى مجلس الأمن خلال عامَى 1996 و1997، ورأست المجلس فى يونيو 1996، وشاهدت بنفسى وعانيت من تهديدات الدول الخمس فى المشاورات قبل التصويت باستخدام الفيتو لإجهاض الكثير من القرارات الهامة. وفى نهاية المطاف، ما يحدث عندما يتم التوصل إلى صياغة تقبلها الدول الخمس الكبرى تكون إمَّا:
-
الإحجام عن اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإنهاء النزاع، والاكتفاء بتعيين مبعوث لإدارة النزاع، وخير مثال على ذلك هى القرارات الخاصة بفلسطين.
-
أوقرارات بتوقيع عقوبات لا تغير الأوضاع كثيراً، ولكنها تضر عادة أبرياء كثر.
-
أو صياغات مشوهة لفظية (Verbal) لا تتسم بالفعالية مثل ما نراه حالياً يتكرر من إدانات وشجب فى قرارات المجلس دون التطرق إلى الإقدام على إجراء يغير من الأوضاع المأساوية محل البحث.
-
نعم هناك بعض الاستثناءات، وعلى سبيل المثال ما حدث فى يونيو 1950 أثناء الحرب الكورية عندما أصدر المجلس قراراً واضحاً لا لبس فيه، ولا يتسم بالغموض والتردد برد عدوان كوريا الشمالية ضد كوريا الجنوبية، وكان سبب هذا “النجاح” أن وفد الاتحاد السوفييتى كان قد قاطع جلسات المجلس بسبب عدم الموافقة على قبول الصين الشعبية فى الأمم المتحدة ([5]). وبعد صدور هذا القرار برد عدوان كوريا الشمالية عاد الوفد السوفييتى فوراً لمقعده فى المجلس، ولم يتغيب عضو دائم بعد ذلك أبداً. استثناء آخر فى غاية الأهمية هو الموقف القوى والواضح الذى اتخذه المجلس عام 1990 عندما أقدمت عراق صدام حسين على الغزو الأحمق والغاشم لدولة الكويت، لم يتردد المجلس فى اتخاذ القرارات المطلوبة تحت الفصل السابع من الميثاق الذى يعالج حالات قمع العدوان وتهديد السلم الدولى.
-
هذا، ولابد من الإقرار بأنه فى السنوات الأخيرة لا يتم اللجوء إلى الفيتو فى حالاتٍ كثيرة كما كان الوضع فى الماضى؛ فبريطانيا وفرنسا قلما تلجآن إلى استخدام الفيتو، والصين لا تستخدم الفيتو منفردة إلا فيما يتعلق بتايوان. وروسيا لا زالت تستخدم الفيتو بدون تردد وتهدد باستخدامه فى حالاتٍ كثيرة جداً. أمَّا الولايات المتحدة، ففى السنوات الأخيرة تستخدم الفيتو وتهدد به كثيراً لحماية إسرائيل فقط. ولكن المحصلة النهائية أن الفيتو والتهديد به قائم ويؤدى إلى شلل أعمال مجلس الأمن.
-
عالمنا المعاصر فى حاجة ماسَّة إلى إعادة إنقاذ البشرية عن طريق الاتفاق على نظام أمن جماعى له “أنياب” ويستطيع فرض السلام والقضاء على المذابح والفظائع التى ما زالت تُقتَرَف، وهو ما سبق أن اتُفِق عليه عام 1945 فى مؤتمر سان فرانسيسكو.
-
من جهةٍ أخرى، لابد من الإشارة إلى أن مجلس الأمن لم يباشر أحد أهم مسئولياته التى نصَّ عليها الميثاق؛ فالمادة (26) من الميثاق تنص على أن مجلس الأمن هو المسئول عن وضع خطط تُعرَض على أعضاء الأمم المتحدة لوضع “منهاج لتنظيم التسلح”، ولكنه تَرَكَ مسئولية تنظيم التسلح للجمعية العامة التى تصدر توصيات. ويجب أن يُؤخَذ فى الاعتبار هنا أن الميثاق قد تمَّت صياغته قبل بدء العصر النووى، ممَّا يعنى أنه بعد استخدام القنابل النووية فى هيروشيما وناجازاكى فى أغسطس 1945 أصبح من الضرورى مباشرة المجلس الصلاحيات التى أضفاها الميثاق فى العصر النووى. ولكن المجلس – ربما بسبب الحرب الباردة – أحجم عن مباشرة هذه المسئولية وتركها للجمعية العامة التى لا تملك نفس الصلاحيات. وقد نشطت الجمعية العامة فى حدود مسئولياتها وأبرمت تحت إشرافها معاهدة منع الانتشار النووى عام 1968 التى كان من المفروض أن تكون عالمية، بمعنى أن جميع دول العالم تلتزم بما جاء فيها من نبذ الأسلحة النووية. وبالفعل، انضمت الغالبية العظمى من دول العالم إلى المعاهدة، ولكن بقيت بعض الاستثناءات الهامة:
-
ترفض إسرائيل بشدة الانضمام ولديها برنامج نووى نشط، وتشير الدراسات إلى أن لديها العديد من القنابل النووية، وفشلت جميع محاولات الدول العربية فى الحد من نشاطها النووى.
-
كذلك الهند وباكستان رفضتا الانضمام للمعاهدة منذ البداية ثم أجريا على التوالى تجارب نووية فى النصف الثانى من التسعينات ودخلا النادى النووى من أضيق أبوابه.
-
جنوب أفريقيا أثناء حكم الأقلية البيضاء فجَّرت قنبلة نووية، ويُقال بالمشاركة مع إسرائيل فى جنوب المحيط الأطلسى، ولكن بعد سقوط نظام حكم الأقلية أعلنت أنها قد تخلَّصت ممَّا لديها، وإنْ كانت قد تردَّدت بعض الشكوك حول هذا الموضوع.
-
أمَّا بالنسبة للشرق الأوسط، فقد بدأت محاولات إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية عام 1974 بالتعاون بين مصر وإيران، ولا زالت المحاولات متعثرة بسبب رفض إسرائيل التجاوب مع هذه المحاولات. فى عام 1995، انعقد مؤتمر تقرر فيه المد اللانهائى للمعاهدة، ونجحت الدول العربية فى إصدار قرار من المؤتمر بإنشاء المنطقة الخالية فى الشرق الأوسط. وبالرغم من ذلك، نجحت المناورات الإسرائيلية فى إفشال إنشاء المنطقة.
-
الأوضاع الحالية والفوضى العارمة فى بعض بقاع الأرض وعلى وجه الخصوص فى المنطقة العربية تؤكد أنه قد بات ضرورياً إعادة صياغة التنظيم الدولى ليتجاوب مع إفرازات التطورات الدولية فى العقود السبعة الماضية. كما أن آفة المرحلة الراهنة فى العلاقات الدولية ليست الحروب التقليدية بين الدول، بل حروب داخل الدول تتحول إلى حروب بالوكالة – كما نشاهد فى سوريا – أو تفشى ظاهرة الاعتداءات الإرهابية التى يتسع رحاها. ولابد من وضع حدٍ لها عن طريق إقدام مجلس الأمن على اتخاذ التدابير الجماعية المناسبة للقضاء على هذه الظاهرة.لابد من مواجهة الحقيقة والإقرار بأن مجلس الأمن لا يستطيع الإقدام على مباشرة هذه المسئوليات فى ضوء الإطار القانونى الذى يحدد مسار عمله. لذلك لابد من السعى جدياً إلى تغيير “قواعد اللعب فى المجلس”.
-
إذا كان نظام الأمن الجماعى لا يعطى الضمانات اللازمة لحماية الدول، فيحق التساؤل عمَّا إذا كان النظام القضائى الدولى يوفر هذه الحماية، بمعنى هل تملك دولة أن تلجأ إلى جهة قضائية دولية لرفع ظلمٍ وقع عليها؟
-
لمحاولة الإجابة على هذا التساؤل يلزم إلقاء نظرة على النظام القانونى الدولى، وأعنى به مجموعة الاتفاقيات الدولية التى أقرها المجتمع الدولى، والتى تنظم العلاقات بين الدول. وهنا يمكن القول إن هناك اتفاقيات دولية تنظم جميع أوجه العلاقات الدولية على الأرض وفى السماء وفى الفضاء الخارجى وفى البحار وفى قاع البحر، وتحوى هذه الاتفاقيات حقوقاً وواجبات على هذه الدول احترامها. ولكن العقبة الكبرى تكمن فى تطبيق هذه الاتفاقيات، فكما هو معروف الالتجاء إلى القضاء الدولى اختيارى، وبالتالى لا يمكن إجبار دولة على قبول الذهاب إلى محكمة دولية للنظر فيما إذا كانت قد خالفت قاعدة قانونية أو التزاماً عليها تنفيذه إلا برضاها. نعم، قد تقبل بعض الدول الاختصاص الإلزامى لمحكمة العدل الدولية، ولكن حتى الآن ثلث دول العالم فقط قامت بذلك، وعادةً يتم ذلك بشروط؛ فعلى سبيل المثال، قبلت مصر الاختصاص الإلزامى لمحكمة الدل الدولية عام 1957 فيما يتعلق بإدارة قناة السويس وبين الدول الموقِّعة على اتفاقية القسطنطينية لعام 1888 فقط، وبالتالى يمكن القول بأن النظام القانونى الدولى يحوى القواعد القانونية التى تنظم العلاقات الدولية إلا النظام القضائى الدولى يعتبر قاصراً وعاجزاً عن تطبيق هذه القواعد، فهناك إن فجوة واسعة بين النظامَيْن. فى نهاية المطاف، ما أهمية القاعدة إذا كانت قاصرة عن التطبيق؟
-
وبالرغم من أننى أعتقد بضرورة تعديل الميثاق لإلغاء نظام الفيتو لأنه يتعارض مع المادة الثانية فقرة (1) بأن تقوم الهيئة على مبدأ المساواة فى السيادة بين جميع أعضائها، وقد توليت رئاسة لجنة الميثاق فى الأمم المتحدة، وطالبت بذلك فى محافل دولية عديدة، وكتبت عدة مقالات نُشِرَت فى كتب ومجلات دولية، إلا أننى وللأسف الشديد لا أعتقد أنه فى الظروف الدولية الحالية سوف يكون من المُجدِى السعى لإلغاء نظام استخدام الفيتو، ولكن يحدونى الأمل فى أن ينجح المجتمع الدولى فى ضوء المآسى والمذابح التى يشهدها العالم فى إخراج بعض الأمور من نطاق استخدام الفيتو.
-
بعد مأساة غزة وحلب والقوطة، لابد من أن يتساءل الضمير العالمى كيف تمنع دول كبرى يصال مساعدات إنسانية إلى سكان حلب، ولماذا تمنع دول كبرى إصدار قرارات بوقف إطلاق النار.
-
عندما تشتعل الحروب أو عندما يكون هناك تهديد جدي باستخدام أسلحة الدمار الشامل مثل الأسلحة الكيماوية. فى مثل هذه الحالات المحددة الصارخة يجب على مجلس الأمن أن يباشر مسئولياته دون إعاقة، وعلى المجتمع الدولى مسئولية اتخاذ الخطوات التى تسمح للمجلس بمباشرة هذه المسئوليات فى المحافظة على السلم والأمن الدوليين، فإننى فى ضوء ما سبق أعتقد أن الوقت قد أزف للدعوة إلى الإقدام على دراسة جدية حول سبل رفع كفاءة الاداء فى مجلس الأمن لتمكينه من القيام بمسئولياته فى حفظ السلم والأمن الدوليين.
-
هناك طريق آخر يمكن طرقه ولكنه غير مضمون النتائج أيضاً، وهو الالتجاء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التى لها صلاحيات سياسية طبقاً للمادة العاشرة من الميثاق، ولكنها لا تُصدِر قرارات إلزامية، والعمل على استصدار قرارات بأغلبيات ساحقة تُطالِب الدول المعتدية بالتوقف عن انتهاكها، وهو ما حدث بالفعل عندما تآمرت بريطانيا وفرنسا على غزو سيناء، فيما يُعرَف بحرب السويس عام 1956؛ فقد استخدمت كلٌ من بريطانيا وفرنسا مع إسرائيل الفيتو فى شل مجلس الأمن، وأُحيل بحث العدوان الثلاثى إلى الجمعية العامة بتأييد من الدولتين الأعظم الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى، وبتأييد عارم غير مسبوق من باقى الدول، فتوقف العدوان وانسحب المعتدى. فما هى الدروس المستفادة من هذه السابقة؟
-
أولاً: ضرورة توافر تأييد قوى من الدولتين الأعظم الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى.
-
ثانياً: موقف قوى وواضح من داج همرشولد سكرتير عام الأمم المتحدة وقتئذٍ لمساندة الشرعية الدولية.
-
ثالثاً: تأييد ساحق من جميع دول العالم…… وجميع هذه العناصر غير متوافرة الآن.
وأثناء عضوية مصر فى مجلس الأمن عامَى 1996 و1997، تقدمت باقتراحات فى هذا الشأن، ولكن للأسف لم يكن هناك تجاوب جدى من باقى الدول الأعضاء فى المجلس بعد معارضة قوية من الدول دائمة العضوية.
-
والسؤال الآن، هل يمكن تكرار هذه السابقة فى الظروف الحالية؟ لابد من المحاولة لإنقاذ البشرية من براثن الحروب والدمار، ولكن لابد أيضاً من إلقاء نظرة واقعية على أوضاع عالمنا المعاصر. فقرارات الجمعية العامة فقدت فى السنوات الأخيرة الكثير من قيمتها السياسية لأنها فى نهاية المطاف لا تُطبَّق ولا تُحترَم، وحتى قيمتها الأدبية تضاءلت بشدة. وتكفى هنا الإشارة إلى القرارات العديدة التى صدرت فى مختلف جوانب القضية الفلسطينية، والتى لم تُترجَم إلى واقع ملموس، وبقيت مجرد انعكاس لمبادئ قانونية عامة تفتقد القوة للتنفيذ. وفى الواقع، فإن هذا الوضع أصبح ينطبق أيضاً على العديد من قرارات مجلس الأمن التى أصبحت تُطبَّق فيما يتعلق بالعقوبات فقط. أمَّا القرارات التى يصدرها المجلس لمعالجة أوضاع سياسية فى مختلف المسائل السياسية التى تُعرَض على المجلس فقلَّما يكون لها تأثير حقيقى ملموس على مُجريات الأمور، بحيث يمكن القول أن الأمم المتحدة بأجندتها المختلفة أصبحت تدير المنازعات ولا تعمل على إنهائها وإحلال السلام بين الدول المتحاربة.
-
وفى هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن عمليات حفظ السلاح التى بدأت عام 1956 إثر العدوان الثلاثى ضد مصر، وكان الهدف منها التحقق من عدم استئناف القتال واحترام كل طرف لالتزاماته إلى عدم الإقدام على إيجاد حلٍ أدى فى نهاية المطاف إلى تجميد المنازعات وليس حلها. وكمثالٍ حى، هناك قوات حفظ سلام فى الكونغو منذ ستينات القرن الماضى، ولا زالت الأوضاع غير مستقرة، ممَّا يدفعنى إلى القول بأنه لابد من تنشيط محاولات جدية لإقرار السلام فى هذه المناطق بدلاً من الاكتفاء بتجميد المنازعات. من جهةٍ أخرى، نجد الآن العديد من مبعوثى الأمم المتحدة فى كثيرٍ من الدول (سوريا – ليبيا – اليمن – الصحراء الغربية) وكثير غيرها فى مختلف أنحاء العالم يبذلون قصارى جهودهم دون حل المنازعات.
-
هذا الوضع أعتبره إعلاناً لإفلاس نظام الأمن الجماعى الدولى الذى أعلنه ميثاق الأمم المتحدة عام 1945. المطلوب، وبإلحاح، تطوير القواعد التى اتفق عليها المجتمع الدولى فى ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية لتصلح لمواجهة تهديدات السلم والأمن الدوليين التى تظهر فى القرن الحادى والعشرين.
-
ما العمل إذن؟
-
لابد من البحث جدياً وبعمق فى طرق وأساليب بديلة لحماية السلام. هنا أُطالِب بالتفكير جدياً فى تعديل ميثاق الأمم المتحدة. فالميثاق ينص صراحةً على بحث موضوع التعديل لمواكبة تطورات العلاقات الدولية بعد عشر سنواتٍ من إقراره، أى كان المفروض أن يبدأ بحث تعديل الميثاق جدياً اعتباراً من عام 1955، وبالفعل أُدرِج بندٌ فى جدول أعمال الجمعية العامة فى ذلك العام للنظر فى تعديل الميثاق، ولكن الدول الكبرى نجحت فى إحباط تلك المحاولة لأنها تعلم جيداً أن تعديل الميثاق – إذا كُتِب له النجاح، وهو أمر غير مضمون – قد يؤدى إلى تقليص صلاحياتها بالنسبة لاستخدام الفيتو.
-
وفى هذا الإطار، من المناسب أن أسجل أن الوفد المصرى فى مؤتمر سان فرانسيسكو تقدم باقتراح أن ينطبق الفيتو فقط على التعديل الأول للميثاق (بعد 10 سنوات)، ولكنه لا يسرى بعد ذلك، وللأسف سقط الاقتراح فى التصويت على هذه المادة.
وأقترح كبداية:
-
الإقدام على محاولة جدية لتحديد نطاق استخدام الفيتو، وذلك بتعديل نصِّ المادة 40 من لائحة إجراءات المجلس بحيث تنصُّ صراحةً على أن قرارات المجلس فى الأمور الإنسانية وعند استخدام أسلحة الدمار الشامل خارج نطاق الفيتو.
-
العمل على تنشيط مسئوليات الجمعية العامة واستغلال الرأى العام العالمى بكفاءة للضغط على الدول التى تهدد أعمالها السلم والأمن الدوليين.
-
تنشيط حركة عدم الانحياز التى كانت فى مرحلة معينة تمثل الضمير العالمى والتى يمكن بالتعاون مع الاتحاد الأوروبى محاوِلةً إعادة التوازن إلى العلاقات الدولية.
المناقشة:
أوصى السفير عبد الرؤوف الريدى، الرئيس الشرفى للمجلس،بنشر هذه الورقة القيِّمة للاستفادة منها ولاستيعاب النصوص القانونية الكثيرة التى تحويها. وذكر أنه عندما كان فى بعثة مصر فى الأمم المتحدة فى خمسينات القرن الماضى أعلن الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور رفضهالعدوانالثلاثىعلىمصر، وأكَّد أنه لا يجوز أن تنتهك دولة كبيرة سيادة دولة صغيرة، وأنه لا يقبل أن يكون انسحاب إسرائيل مشروطاً بأى شرط؛ يقوموا بالانسحاب أولاً ثم التفاوض على أى قضية أخرى لاحقاً. وفى هذا السياق، تساءل سيادته عن أسباب نجاح القانون الدولى فى قضية العدوان، مشيراً إلى أن هناك اختلافاً كبيراً بين ما كانت عليه الأوضاع فى السابق وما هى عليه الآن. ففى الوقت الحالى مهما تم التعديل – إن وُجِد إلى ذلك سبيلاً – سيظل السلوك الخاص بالدول الكبرى هو الأساس فى النظام الدولى. وفى هذا الصدد، طرح تساؤلاً آخراً حول الفرص المتاحة لتعديل ميثاق الأمم المتحدة لتحقيق أغراضها المنشودة.
تحدثالسفير د./ عزت سعد عن النقطة الخاصة برضائية القانون الدولى، وأنه فى النظام الدولى لا توجد سلطات ثلاث بالمعنى المتعارف عليه فى القانون الداخلى (تشريعية – تنفيذية – قضائية)، وأن النظام القضائى الدولى يتسم بالرضائية، حتى المحاكم الدولية المعنية بحقوق الإنسان لا تسطيع أن تنظر فى أى انتهاك لهذه الحقوق من قِبَل أى دولة ما لم تعترف هذه الدولة بالاختصاص الإلزامى للمحكمة بنظر النزاعات التى هى طرف فيها، وهذا موجود فى محكمتَى ستراسبورج وسان خوزيه على سبيل المثال. وأشار سيادته إلى ما ذكره د. نبيل العربى بالنسبة لمحكمة العدل الدولية وعدم اعتراف مصر باختصاصها الإلزامى، وكذلك عدم قيام مصر بالانضمام إلى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، ملمحاً – أى الدكتور العربى – إلى ضرورة قيام مصر بذلك، وهو مالا يراه السفير عزت سعد محققاً للمصالح المصرية، ويكفى أن محكمة العدل الدولية مختصة بنظر المنازعات الناجمة عن تطبيق وتفسير اتفاقية عام 1888 الخاصة بحرية المرور فى قناة السويس. وأضاف أن وضعاً كهذا يوفر الحماية لمصالح الدول الصغرى والمتوسطة لأنه لا يجب تجاهل حقيقة أن مسألة توازن القوى تلعب دوراً حاسماً فى القانون الدولى، وأنه كلما كانت هناك قوى كثيرة كبرى، يكون هناك عامل توازن فى تطبيق القانون الدولى عموماً، ولنتخيل مثلاً أن الاختصاص الإلزامى للمحكمة مفروض على الدول فرضاً، فهذا يعنى إمكانية تصدى محكمة لاهاى لادعاءات السودان بتبعية مثلث حلايب وشلاتين لها. نفس الامر بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية التى لو لم يكن الاعتراف باختصاصها اختيارها لحدثت مشكلة كبيرة ارتباطاً بالادعاءات الغربية بانتهاك مصر لالتزاماتها الدولية بموجب النظام الأساسى للمحكمة عند فض اعتصام رابعة العدوية والنهضة أواخر عام 2013.
وخلص السفير عزت سعد إلى التأكيد على أن تعليق اختصاص هذه المحاكم الدولية على الاعتراف به صراحةً من قِبَل الدول ضمانة للدول وحصانة من الضغوط السياسية فى ظل نظام دولى أبعد ما يكون عن المثالية، علماً بأن اختصاص المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان هو أيضاً اختصاص اختيارى لا ينعقد إلا بموافقة الدولة المعنية الصريحة بهذا الاختصاص. أمَّا بالنسبة لاستخدام الفيتو فى مجلس الأمن، ورغم مساوئه، إلا أن المتأمل لممارسة المجلس فى هذا الشأن يصل إلى نتيجة مفادها أن الفيتو يستخدم فى محله.
د. نعمان جلال: لم يكن ميثاق الأمم المتحدة تعبيراً قانونياً بقدر ما كان تعبيراً عن توازن القوى الكبرى ومصالحها، وإلى الآن يوجد فى ميثاق الأمم المتحدة المادة الخاصة بالدول العدو، على الرغم من إهمالها، لكنها موجودة، ولا ريب فى أن الجزء السياسى فى الأمن الدولى هو السبب فى إخفاق الأمم المتحدة ونظام الأمن الدولى ككل.
فى إجابته على ما إذا كان نجح نظام الأمن الجماعى الدولى قد نجح من عدمه، أشار د. نبيل العربى إلى أنه لم ينجح قطعاً. وتعقيباً على سؤال السفير عبد الرؤوف الريدى: لماذا نجح هذا النظام فى قضية العدوان الثلاثى على مصر فى 1956؟ ذكر أن هذا كان بسبب استغلال قرار الاتحاد من أجل السلام الصادر عن الجمعية العامة وليس عن مجلس الأمن، كما يُضَاف إلى أسباب النجاح وقوف الرأى العام العالمى كله ضد العدوان، وموقف “همرشولد” الذى لن يتكرر مرة أخرى.
وفيما يتعلق بمسألة تعديل الميثاق، أوضح أن التاريخ الحديث يبين أن المجتمع الدولى حاول تغيير الأوضاع مرتين؛ الأولى كانت فى فرساى بعد الحرب العالمية الأولى والثانية فى مؤتمر سان فرانسيسكو. ولا يعتقد بقيام حرب عالمية ثالثة لأنه فى حال حدوث ذلك سينتهى العالم. لا شك فى وجود حاجة ضرورية إلى تعديل ميثاق الأمم المتحدة، ولكن هناك اختلاف حول الكيفية؛ كيف يمكن استغلال الثغرات الموجودة الآن، وعلى رأسها المادة 40 من لائحة إجراءات المجلس التى تنص على أنه يعمل وفقاً لما ورد فى الميثاق وفى النظام الأساسى لمحكمة العدل الدولية، ولكنها لم تحدد هل ينطبق عليها الفيتو أم لا. وأشار سيادته أن أهم مبدأ استقر عليه المجتمع الدولى فى القرن العشرين هو تحريم استخدام القوة فى العلاقات الدولية، والذى بدأ فى عام 1928، ثم قُنِّن فى المادة 2 فقرة 4 من الميثاق.
يرى سيادته أن مؤتمر مدريد أضر بالتسوية المنصوص عليها فى قرار مجلس الأمن رقم 242 الذى يتحدث عن التزامات على الأطراف أن يقوموا بتنفيذها وليس التفاوض عليها. وفى هذا المؤتمر، نجحت إسرائيل فى قلب الميزان تماماً لصالحها. وفى هذا الصدد، أشار إلى أن عملية سلام مع إسرائيل لابد وأن يكون لها مدى زمنى محدد ومعين، فعلى مدى أكثر من 15 سنة من التفاوض مع الإسرائيليين يتضح أن أكثر مسألة تهمهم هى الوقت، فهى مسألة استراتيجية لديهم بالأساس.
وجاء مؤتمر مدريد بفكرة “الأرض مقابل السلام”، والتى فرح بها العرب كثيراً، فما معناها؟ فمعالتسليم بإمكانية تقسيم الأرض، كيف يمكن تقسيم هذا السلام؟
بالنسبة لملاحظات السفير د./ عزت سعد، رأى د. نبيل العربى أن حديثه منطلق بالأساس من تفكير وطنى خالص غيرةً على حماية الحقوق المصرية، ولكن إذا ارتكز التفكير فى هذا الشأن على الحدود الوطنية الضيقة، فلن تكون هناك حاجة للقضاء الدولى الذى يجب تعزيز صلاحياته.
وفيما يتعلق بمداخلة د. نعمان جلال، وافقه سيادته فى قوله أن الميثاق هو وثيقة قانونية تؤدى لإرساء أوضاع سياسية.
د. بهجت قرنى: ذكر أنهبالنسبة لدراسات الأمن، فهى فى حالة ثورة كبيرة جداً، ليس فيما يتعلق بالأمن الجماعى فقط، وإنما بالأمن القطرى أيضاً، وأكَّد على أنه إذا لم يكن هناك اتفاق وإجماع على مصادر التهديد، فسيكون مفهوم الأمن مهزوزاً؛ وفى ضوء ذلك، يُعَد الكلام عن الأمن العربى كلاماً مبالغاً فيه. وأضاف أن مفهوم السيادة شهد ثورة كبرى أيضاً، إنما ابتداءً من سنة 2000، ومع إقرار حق التدخل تحت مُسمَّى مسئولية الحماية (Responsibility to protect) هل يمكن أن يُطَبَّق مفهوم الأمن الجماعى فى حالة خلاف جذرى مع هذا الحق الذى أصبح أحد أسس النظام الدولى؟ فالنظام الدولى قائم على السيادة القطرية، والسيادة هى احتكار الاختصاص ومن ثَمَّ وجوب عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول، ولكن مع إقرار حق التدخل هذا، فإن مبدأ السيادة يختفى ولا قيمة له.
تساءل سيادته كذلك عن أنه فى مواجهة قوة القانون، ماذا يمكن فعله إزاء قانون القوة؟ بالنسبة لقرار 242، هناك خلافات جمَّة حول تفسيره، هل هو الإقليم أم الأقاليم المحتلة (Occupied Territory or Territories)، وذكر سيادته أنه قد تحدث مع مَن صاغ القانون حول هذا الأمر، وبيَّن أنه ترك القرار غامضاً لكى يتم تمريره. لكن فى هذه الحالة، إذا تُرِكَت الأمور للتطبيق، مع التسليم بأن التطبيق يقوم على أساس المناورات السياسية، فهنا ماذا يمكن فعله لمواجهة قانون القوة؟
د. نبيل العربى: لا شك أنه يوجد تطور كبير فى القانون الدولى الإنسانى، وهناك نظريات حول هذا الموضوع، وهذا لا يمس موضوع الميثاق ولا أحكام الميثاق، وبيَّن أنه – فى هذا السياق – يتم التحدث عن حماية فرد، وهذا تطور طبيعى للإعلان العالمى لحقوق الإنسان، ولكن موضوع الأمن الجماعى يتحدث عن دول.
فيما يتعلق بالقرار 242، يوجد فى اللغة الإنجليزية بالفعل اختلافٌ حول الكلمة (Territory or Territories)؛ ولكن هذا ليس موجوداً فى باقى لغات الأمم المتحدة. أهم مبدأ هو عدم استخدام القوة فى العلاقات الدولية، ومجلس الأمن لا يستطيع أن يعمل إلا طبقاً لأحكام القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة.
مداخلة د. منير زهران: تصادف سنة 1967 وجود سيادته فى غرفة عمليات وزارة الخارجية، وكان وزير الخارجية محمود رياض فى نيويورك، وجاءت منه برقية أفادت بأن محمود رياض ذهب إلى مَن صاغ القرار 242، وطلب منه تعديل الكلمة إلى (the Territories)، ولكن الآخر رد عليه بأن هذه اللغة سيئة (This is bad English). من جهةٍ أخرى، ذكر سيادته أن هناك تشاوراً قد تم مع الإسرائيليين أنفسهم قبل طرح القرار؛ فعندما كان سيادته فى واشنطن أيام قطع العلاقات مع الولايات المتحدة، ذكر “جوزيف سيسكو” مساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأوسط آنذاك أنهم صاغوا القرار فى وزارة الخارجية ثم أرسلوه لآرثر جولدبرج ليعطيه للورد كارادون؛ لأنه لو قدموه هم سيتم رفضه.
السفير د./ عادل السالوسى: بالنسبة للشأن المصرى فى القضاء الدولى، يرى أن موضوع سد النهضة والعلاقات مع إثيوبيا مُرشَّحَة للتصعيد فى المرحلة القادمة، متسائلاً هل هناك مخرج لأزمة هذا السد، باعتبار أن لمصر حقوق تاريخية مكتسبة ووضعية قانونية تعطى لمصر حقوقاً وفقاً لكافة اتفاقياتها المعنية السابقة ووفقاً للقانون الدولى الخاص بالأنهار الدولية أيضاً؟
السفيرة/ جيلان علام: تعتقد سيادتها أن رؤية موضوع الأمن الجماعى مسألة نسبية، وأنه يختلف وفق وجهات النظر. وبينما ترى أن هناك اعتقاد بأن هذا النظام قد فشل، فهى تستعجب من موقف إسرائيل التى تقول بأن هذا النظام لا قيمة ولا أثر له. ومع ذلك تسعى للدخول فى مجلس الأمن. على الجانب الآخر، تساءلت عن إمكانية إيجاد مخرج أو منهاج آخر لموضوع الأمن الجماعى تلتزم به الدول القوية لحماية مصالح الدول النامية، لاسيَّما فى ضوء تعاظم دور دول أخرى غير روسيا والولايات المتحدة كالصين مثلاً؟
د. نبيل العربى: مصر لم تنضم إلى اتفاقية استخدام الأنهار الدولية فى غير الأغراض الملاحية، وهذا خطأ كبير وإحدى الفرص المهمة التى ضيعتها مصر.
هل سيكون هناك نجاح للأمن الجماعى؟ لا أبداً، وهناك بالفعل نوع من البلطجة الدولية… ولاشك أن رؤية الأمن الجماعى نسبية، وبالنسبة لاحتمالية انضمام إسرائيل لمجلس الأمن، فهذا أمر مستبعد نظراً لكونها تخالف مواد الميثاق القائلة بضرورة إسهام الدولة المرشحة لعضوية المجلس فى حفظ السم والأمن الدوليين، وهو ما لا ينطبق على إسرائيل.
السفير د./ حسين حسونة: أشار سيادته أولاً إلى أن الميثاق وضع بالفعل مهام إقامة نظام قانون دولى جديد بعد الحرب العالمية الثانية، والتى منها موضوعات السيادة وتحريم استخدام القوة أو التهديد بها فى العلاقات الدولية، ولكن بالتوازى مع ذلك – وعلى مدى عدة عقود – تطورت نظرة الدول إزاء هذا الموضوع إلى حدٍ كبير؛ فلا توجد سيادة مطلقة ولا يوجد حظر مطلق للتدخل فى الشئون الداخلية. وقد تزعمت الدول الغربية هذا التيار، وحاولت، بذكاءٍ أحياناً، التدخل فى شئون الدول الأخرى، وهذه مشكلة عويصة، وهذا ما حدث أخيراً فى سوريا؛ حيث قامت ثلاث دول غربية بضرب سوريا بذريعة خرقها التزاماتها بعدم استخدام الأسلحة الكيماوية، وادَّعت فرنسا أنها وشركائها فعلوا ذلك نيابةً عن المجتمع الدولى، بينما طرحت روسيا مشروع قرار يدين هذا التدخل فى مجلس الأمن، ورُفِض المشروع، وهذا يُذكِّر بمسألة كوسوفو وتدخل الناتو فيها.
من جهة أخرى، تجب التفرقة بين التدخل الإنسانى من قِبَل الأمم المتحدة والتدخل الإنسانى من قِبَل دول معينة؛ فالتدخل الأول جائز فى حالاتٍ معينة كالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، أمَّا الدول التى تدَّعى على انفراد حق التدخل فهذا أمر خطير جداً، لأنه مَن الذى أعطاها صلاحية التدخل؟
ولكن رغم التشاؤم بالنسبة لنظام الأمن الجماعى، أشار سيادته إلى أنه يجب على الدول الصغيرة أن تتعاون معاً لتنسيق مواقفها للحفاظ على حقوقها، وهذا واضح مثلاً فى حال مجموعة دول عدم الانحياز.
د. نبيل العربى: إن الأمم المتحدة مثل أى كيان إنسانى قابل للتطوير، لكن ما لا يمكن تغييره هو مبادئها الأساسية. ولا يمكن إنكار فشل المنظمة فى بعض الأمور، ويكفى أنها لم تقضِ على الاستعمار، بل تناولته تحت مُسمَّى الوصاية فى فصلٍ كامل من ميثاقها، والذى قضى عليه هو الدور الذى لعبه جمال عبد الناصر ونهرو فى الدورة 60 حتى أصدرت القرار الشهير رقم 1514 المعنىّ بإنهاء الاستعمار. وبالطبع هناك فرص ضائعة لإصلاح المنظمة، كان منها مذكرة “يارنج” الصادرة فى 8 فبراير 1971، التى قضت بأن على إسرائيل الانسحاب إلى حدودها، وأن تقوم مصر بالتوقيع على معاهدة سلام مع إسرائيل. وبينما رفضت إسرائيل الانصياع لهذه المذكرة، لم تحرك مصر ساكناً. وبشأن القراررقم 338 لعامفى 1973 بعد اندلاع حرب أكتوبر التى هزت العالم كله، سعت مصر لمفاوضات على عدة جبهات أو مناطق، ولكن سوريا رفضت ذلك، ولم يحضر الوفد السورى اجتماعات جنيف وقتها، ما حُسِب فرصة ضائعة كذلك.
أكَّد د. كمال أبو عقيل أن القانون الدولى فى أزمة واضحة، وذكر أنه قد شارك فى استضافة مفوضة العلاقات الخارجية الأوروبية منذ سنوات، وسألها هل السلم الذى دام فى أوروبا لما يزيد عن 60 عاماً عائد إلى تطبيق القانون الدولى؟ فجاء الرد لا، إنما هذا نتيجة توازن القوى. إن القانون الدولى قانون مطاط بالنسبة لهذه الدول.
تساءلت السيدة هدايت عبد النبى عمَّن يحمى الشعوب من استخدام الأسلحة النووية فى ظل الخلافات بين حكومات الدول الكبرى؟ وأشارت إلى تأكيدها على وجود فجوة بين القانون الدولى وتطبيقه، وأن هذا التطبيق خاضع لمصالح الدول الكبرى وفقط.
من جانبه، أشار السفيرمحمود السعيد إلى أزمة حق الفيتو الذى تمتلكه دول مجلس الأمن الخمس الدائمة العضوية؛ فعلى الرغم من الإقرار بوجود نظام دولى، إلا أن حق الفيتو بوضعه الحالى يعرقل معالجة الكثير من القضايا الملحة والمهمة فى المجتمع الدولى، وهذا إنما يؤكد أن مبدأ توازن القوى هو المبدأ الحاكم فى العلاقات الدولية وليس القانون الدولى.
د. نبيل العربى: أكَّد سيادته أنه لا شك أننا نعيش فى عالم تعمه الفوضى إلى حدٍ ما ولكن لا يحكمه قانون الغاب، بل خطا خطواتٍ متقدمة ناحية التطور.
بالنسبة لتساؤل مَن يحمى الشعوب والدول أيضاً؟ أشار إلى أن أحسن فترة لحسم الإجابة على هذا السؤال هى فترة الحرب الباردة، حيث كانت كل الاتفاقيات المهمة تتم وتُحتَرَم وكل الدول كانت تصدق عليها، عكس ما يحدث الآن؛ لأن كل دولة كانت تريد استضافة قواعد لديها حتى يمكنها من خلالها أن تحمى مصالحها وحقوقها. فى نهاية المطاف، ووفقاً لسنة الله فى الكون، هناك دول كبرى قوية لديها قدرة أكثر على تحقيق غاياتها ومصالحها ما لم يكن هناك نوع من التعاون والتنسيق بين الدول الصغرى. وفى هذا السياق، يجب العمل على إحياء حركة عدم الانحياز وتفعيلها، والتعاون مع دول مثل الصين والاتحاد الأوروبى مثلاً لتعزيز القدرة على الدفاع عن مصالح هذه الدول.
___________________________________________________________
[1] لابد من الإشارة هنا إلى اللفظ المتعلق بحرب كوريا؛ فقوات الأمم المتحدة التى أُرسِلَت للدفاع عن كوريا الجنوبية كانت بقرار من مجلس الأمن أثناء تغيب المندوب السوفييتى عن المشاركة فى اجتماعات المجلس بسبب عدم قبول ممثلى الصين الشعبية، وكان ذلك فى يونيو 1950، وقرار الاتحاد من اجل السلام صدر فى 3 نوفمبر 1950 وربما سوء الفهم ينبع من استخدام القرار كلمة تدابير (Measures) ولكنها لا ترقى إلى مستوى (Decisions) التى يتخذها مجلس الأمن.
[2] شكَّلت الجمعية العامة مجموعة عمل مفتوحة العضوية من جميع الدول كُلِّف الدكتور نبيل العربى برئاستها لوضع هذه المقترحات موضع التنفيذ. وللأسف الشديد تبين بعد مداولاتٍ لمدة ثلاث سنوات فى بداية تسعينات القرن الماضى صعوبة التوصل إلى اتفاق بين الدول لإعادة رسم خريطة جديدة للعلاقات الدولية فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
[3] وهذه المسئولية فى نظرى تقحم المجلس وهو جهاز سياسى فى أمور قضائية وقد كتب مقالاً فى جامعة Trento الإيطالية عام 2000 انتقدت فيه بشدة إضفاء دور مجلس الأمن بهذا الشكل فى اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية الدولية.
[4] مادة (40) من لائحة إجراءات المجلس.
[5] قُبِلَت الصين الشعبية فى أكتوبر 1971.