إلقاء محاضرتين أمام معهد الدراسات الدبلوماسية
أغسطس 20, 2019مائدة مستديرة حول “مستقبل السودان”
أغسطس 22, 2019
بينما كنت أتابع وقائع الاحتفال بالحدث الكبير بتوقيع الاتفاق التاريخى للإعلان الدستوى بين قوى الحرية والتغيير فى السودان وبين المجلس العسكرى.. وأتأمل فى أبعاد النجاح التاريخى الذى حققه الجانبان بدور مهم للوساطة الإفريقية التى كانت مصر فى قلبها، وما قاله رئيس الوزراء مصطفى مدبولى عن أن العلاقات بين مصر والسودان ستشهد طفرة كبيرة هائلة فى الحقبة القادمة.. ودور الدبلوماسية الإثيوبية الجديدة فى شخص آبى أحمد.. وبينما أستعيد مشاهد عشتها فى مسيرة العلاقات بين البلدين، عندما كنا نهتف بأن مصر والسودان بلد واحد ونيل واحد ومصير واحد.. وعندما رأيت عام 56 رئيس وزراء السودان محمد أحمد محجوب وهو يندد بالعدوان الثلاثى على مصر من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأستعيد اللحظة التاريخية الفريدة التى رأيت فيها جموع الشعب السودانى وهى تستقبل الرئيس عبدالناصر فى الخرطوم استقبال الفاتحين وهو قادم لحضور أول مؤتمر قمة عربى بعد كارثة 67 المدوية فى استقبال أسطورى بما أعاد للرئيس ابتسامته وثقته بنفسه.
ثم أستعيد بالمقابل تلك اللحظة القاتمة التى قفز فيها إلى حكم السودان هذا الثنائى العجيب حسن الترابى وعمر البشير.. والحركة التمويهية المخادعة التى قاما بها بادعاء أنهما صديقان لمصر… وهو ما انطلى على البعض فى هذه الأيام.. ثم ما حدث بعد ذلك فما هى إلا خمسة أو ستة أعوام عندما تم تدبير عملية استهدفت اغتيال رئيس جمهورية مصر آنذاك وهو فى طريقه من مطار أديس أبابا إلى اجتماع القمة الإفريقية عام 1995 لتكون مصر بعد ذلك هى التى تطلب وتصر على رفع العقوبات التى أقرها مجلس الأمن على السودان، ليأتى بعد ذلك صراع السلطة بين الجنرال والشيخ، أى بين البشير والترابى، ويطيح بهذا الحكم الثنائى ثم بالترابى ليواصل النظام الفاسد بزعم أنه إنما جاء لينصر الإسلام فلا يكون الحصاد إلا انفصال الشمال عن الجنوب.
ويواصل النظام الفاسد تورطًا فلا يجنى أبناء السودان سوى مزيد من حروب داخلية ومزيد من التدهور الاقتصادى ويجد رئيسهم نفسه مطلوبًا أمام المحكمة الجنائية الدولية لما جنته يداه ضد شعب السودان خاصة فى دارفور.
طوال هذه الأعوام الحالكة فى تاريخ السودان كان النظام الفاسد عندما تحيط به الأزمات يعود يتظاهر بالود لمصر.. طوال هذه الأعوام الثلاثين كان هذا النظام يربى الصغار والشباب السودانى على كراهية مصر.. ومع ذلك كان أصدقائى السودانيون يقولون لى إن مصر لا يجب أن تكون غائبة عن الساحة فى السودان وخاصة الساحة الثقافية.. إلى أن جاءت أحداث الحراك الذى أطلقه تجمع المهنيين فى السودان وشكل ما سمى بعد ذلك بحركة الحرية والتغيير التى كنت أتابع أخبارها كل صباح على راديو لندن.. وكنت أراقب الشجاعة الممزوجة بالمرونة والإصرار التى يبديها المسؤولون عن قوى الحرية والتغيير إلى أن هيأ الله لهم وللسودان ما شهدناه من انتصار الأمس والتوصل إلى الاتفاق التاريخى.
السؤال الآن المطروح على مصر يكمن فيما قاله رئيس الوزراء مدبولى بأن الحقبة القادمة ستشهد بمشيئة الله طفرة فى العلاقات المصرية السودانية، أعتقد أن تلك هى العبارة المفتاح، خاصة أن السودان دولة تمتلك إمكانات هائلة ونستطيع بالتعاون سويا إقامة مشروعات مشتركة كبرى سواء فى مجال الزراعة أو الصناعة أو النقل وكذا السياحة، فضلا عن إمكانات التعاون العلمى والثقافى، ولو تم إنشاء مجلس مشترك للتعاون الاقتصادى والعلمى والثقافى لأمكن أن نحقق الكثير كما أنه من الممكن أن يكون هناك تعاون ثلاثى يضم مصر والسودان وإثيوبيا التى اكتسبت قبولا كبيرا فى السودان فى الفترة الأخيرة.. ويحسب للرئيس السيسى هنا دبلوماسيته الإفريقية والتى نقل فيها الدور المصرى تجاه التعاون والاستثمار المشترك.
ثمة أهمية كبرى لوضع تصورات مشتركة لحماية البحر الأحمر الذى يربط كلًا من السودان ومصر والسعودية.. ويحمى هذه المنطقة الاستراتيجية المهمة من مطامع دول أخرى، خاصة تركيا ذات التاريخ الاستعمارى لشعوب وادى النيل.. ثم التعاون المطلوب بين مصر والسودان فى ليبيا وما يمكن أن يحققه لاستقرار ليبيا وتحررها من الإرهاب. فى كل ذلك هناك دور مهم مطلوب للمجتمع المدنى المصرى فى مختلف المجالات الاقتصادية والثقافية والعلمية وغيرها، فضلا عن التعاون الاستراتيجى المهم.
وهنا فإننى أدعو المجتمع المدنى المصرى بكل فئاته، وأدعو المجلس المصرى للشؤون الخارجية تحديدا لتشكيل مجموعة عمل خاصة بالسودان، تقوم بوضع تصور لآفاق التعاون فى الحقبة المقبلة.
إن الاتفاق الذى جرى توقيعه بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكرى يوم 17 أغسطس يعنى بالنسبة لنا نهاية لحقبة الثلاثين عاما من حكم البشير المناهض والمعادى لمصر منذ مجيئه فى منتصف عام 1989 حتى نهايته عام 2019.. علينا الآن أن نبدأ فى بناء حقبة جديدة تزيل ركام الماضى.. حقبة تقوم على ما يربط بين البلدين من المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.. حقبة تستمد تراث وحدة وادى النيل وشعب وادى النيل من أجل مستقبل مشرق فى القارة الإفريقية بل فى العالم العربى.. إنها آفاق بلا حدود.
كلمة أخيرة.. لا أستطيع أن أختم هذا المقال دون أن أناشد أيضًا الإعلام فى مصر لإبداء مزيد من الاهتمام بما يجرى من نقلة كبيرة فى السودان، وهو ما يساعد على استعادة الأرض المفقودة والبناء عليها من أجل المستقبل.