ينعى المجلس وفاة السيد السفير/سيرجي كيربيتشينكو سفير روسيا الاتحادية لدى جمهورية مصر العربية
September 3, 2019زيارة وفد المجلس الهندى للعلاقات الخارجية للمجلس
September 12, 2019
ان المراقب للتطورات السياسية العالمية، لاسيما علاقات روسيا بالولايات المتحدة الامريكية وحلفائها، لابد وان يلاحظ المغالاة في تقديم الدور الذى يلعبه الرئيس الروسي بوتين فى مخيلة الغرب منذ بدايات الالفية الثالثة وحتى الان. فالغرب، رسمياً واعلامياً، مهووس بما تفعله روسيا بوتين من أعمال توصف بأنها خطيرة وضارة بالديمقراطيات وتقوض الليبرالية التي طالما دافع عنها الغرب قبل وبعد سقوط الشيوعية وإنتهاء الحرب الباردة، وعادة ما ينعكس ذلك بوضوح في مقررات مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى في قممها السنوية بالتأكيد على العمل المشترك لمواجهة “انتهاك روسيا القواعد الدولية”، والحاجة الي حماية ديمقراطيات العالم من محاولات تقويضها”، مثل التدخل في انتخابات الرئاسة الامريكية عام 2016 واختراق الأمن “السيبرانى” في الولايات المتحدة وأوروبا وقلقلة استقرار الجيران واغتيال المنتقدين للنظام …الخ، بل والقول بأن الكرملين يقوم اليوم بدور هام في رسم اتجاهات الرأي العام في الدول الاوروبية الرئيسية واختراق مؤسساتها والقيام بعمليات قرصنة منظمة تديرها الاستخبارات الروسية لإضعاف النظام الليبرالي الغربي وتفتيت وحدة الاتحاد الاوروبي من خلال دعم احزاب اليمين القومي…الخ([1]). وهناك بعض وسائل الاعلام الغربية الكبرى التي تعتقد في ان الرئيس الروسي بوتين بات اليوم الزعيم السياسي الاكثر تأثيراً على المستوى العالمي)[2].(
في المقابل، يشار الي انه على حين كان ينظر الى روسيا في بدايات القرن الحالي على أنها خليط من الفشل والفساد والفوضى إبان عهد يلتسين، تبدلت الاحوال في عقول الكثيرين حيث باتت روسيا اليوم نموذجا لدولة المستقبل)[3](.
وفى تعليقه على الحملة على روسيا ورئيسها في الولايات المتحدة الامريكية أشار مايك بومبيو وزير الخارجية الامريكي الى أنه “يتفهم جيدا أصول هذه الظاهرة حيث دأبت روسيا على مناهضة الولايات المتحدة الامريكية دائماً”. وأضاف أن التهديد الروسي بمثابة عامل “دائم”، وان النخبة السياسية الحالية في الولايات المتحدة لا ترى أي فرق بين ” الاتحاد السوفيتي الاشتراكي ” وروسيا الحالية، وبالتالي فان المهمة الرئيسية لوكالة المخابرات المركزية الامريكية، وكما كان الحال إبان الحرب الباردة، هي ” مواجهة واحتواء وهزيمة روسيا”([4]) وذلك على النحو الذي اشارت اليه استراتيجية الأمن القومي الامريكي الصادرة في ديسمبر 2017([5](، واستراتيجية الدفاع الوطني الصادرة في يناير2018( ([6]واللتين وصفتا روسيا بالمنافس والعدو. من جانبه، وصف وزير الخارجية الروسي لافروف الحالة الحالية لعلاقات موسكو بواشنطن بأنها أسوأ من فترة الحرب الباردة، حيث لا توجد قنوات اتصال بين الجانبين، وجدت خلال الحرب الباردة التي لم تشهد ” إدماناً للروسوفوبيا ” والتي تبدو وكأنها إبادة من خلال الجزاءات”([7]).
والواقع انه على خلاف ما كان يعتقده جورباتشوف وحركته الاصلاحية من أن روسيا ومعها بلدان اوروبا الوسطي والشرقية الشيوعية السابقة ستصبح جزءاً من أوروبا الكبرى الجديدة، وأنه سيتم حل مؤسسات الحرب الباردة (حلفا الناتو ووارسو) لصالح تعزيز دور مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا CSCE ( صار مؤتمراً فيما بعد)، كانت لدي القوي الجيوسياسية المهيمنة في الغرب رؤية أخرى تقوم على أن الحرب الباردة قد حسمت لصالحها، وبالتالي ليس أمام الدول الجديدة سوي القبول بالقواعد الجديدة للنظام الدولي كما وضعتها الولايات المتحدة الامريكية. والأمر هنا لا يقتصر فقط على قواعد اقتصاد السوق والديمقراطية وحقوق الانسان والحريات الفردية، بل يمتد ليشمل سياسات الهوية ذاتها ومنظومة القيم، بموروثها التاريخي والثقافي والديني، التي تختلف من دولة لأخرى ( الصين مثال أساسي في هذا الشأن).
والحال على ما تقدم كان طبيعياً أن يقابل اهتمام روسيا بالحصول على اعتراف غربي بمصالحها المرتبطة بحوارها الجغرافي برفض قاطع. ولتقليص النفوذ الجيوسياسي لروسيا، أمكن جذب دول اوروبا الوسطي والشرقية الشيوعية السابقة للانضمام الي الهياكل الاورواطلنطية، الاتحاد الاوروبي وحلف شمال الاطلنطي، وذلك بهدف محاصرة روسيا واخضاعها للهيمنة الامريكية في النهاية. وهنا ينبغي الاعتراف بالدور الرئيسي للمجمع الصناعي العسكري الامريكي، حيث لعبت المصالح الاقتصادية دوراً مهماً في المطالبة بحصة معتبرة للاستثمار والتصدير في الدول الجديدة التي كانت مستعدة تماماً للاعتقاد في أن روسيا كانت، وستظل، تهديداً لوجودها، وهو ما يوفر غطاء شرعياً للمزيد من الانفاق العسكري على شراء السلاح والمعدات العسكرية([8](.
في السياق عاليه، من الواضح ان هناك تصميماً غربياً بقيادة الولايات المتحدة الامريكية على المضي قدماً في مسلسل الجزاءات وعدم التراجع عنها، وأخرها في 3 أغسطس 2019، بعد اتهام موسكو بالتورط في تسميم العميل الروسي المزدوج السابق سيرجي سكريبال في بريطانيا عام 2018. وارتباطاً بذلك أكدت الناطقة باسم الخارجية الامريكية ان الولايات المتحدة ستعارض ” تقديم أي قرض أو مساعدة تقنية الي روسيا” من المؤسسات المالية الدولية، وستفرض قيوداً تمنع المصارف الامريكية من تمويل الديون السيادية الروسية، مضيفة ان واشنطن ستفرض قيوداً على صادرات السلع والتكنولوجيا الي موسكو، وان هذه التدابير اتخذت بموجب قانون امريكي أقر عام 1991 يتعلق بمنع الاسلحة الكيماوية والبيولوجية، وان تلك العقوبات ستطبق اعتباراً من 19 أغسطس بعد إبلاغ الكونجرس، مؤكدة ان ” هذه التدابير يمكن ان تمنع روسيا من الوصول الي مليارات الدولارات من الانشطة التجارية الثنائية مع الولايات المتحدة”. وتعد هذه المجموعة هي الثانية من العقوبات الامريكية في هذا الملف، بعد رزمة أولي فرضت في اغسطس 2018، طالت صادرات منتجات تكنولوجية ومبيعات أسلحة الي روسيا.
وكانت العقوبات الامريكية والاوروبية ضد روسيا قد بدأت إبان ولاية اوباما الثانية منذ عام 2014 بعد ضم شبه جزيرة القرم، وشملت طرد عشرات من الدبلوماسيين الروس من نحو 14 دولة أوربية حليفة، وهو ماردت عليه موسكو في حينه، واعلان ما سمى” بقائمة عار جديدة” صدرت عن وزارة الخزانة الامريكية، ضمت 210 من كبار السياسيين ورجال الاعمال الروس، بعضهم وثيق الصلة ببوتين، والاعلان عن عقوبات أخرى استهدفت الحلقة الضيقة المقربة من الرئيس الروسي، طالت 7 من كبار رجال الأعمال الكبار (ما يسمى بالاوليجاركيين) و12 شركة يملكها هؤلاء أو يسيطرون عليها، اضافة الى 17 مسئولا روسيا بارزا والشركة الحكومية المصدرة للأسلحة (روس أوبارون اكسبورت). وقد بررت واشنطن العقوبات بأنها رد على “نهج وقح للحكومة الروسية وانشطة خبيثة لتقويض ديمقراطيات غربية”. وقد أضرت العقوبات بمؤشرات السوق الروسية، كما انهارت اسهم بعض الشركات التي طالتها العقوبات مثل شركة “روسال” عملاق صناعة الالومنيوم (تذهب نسبة 20-30% من صادراتها للسوق الامريكية) التي طالت العقوبات الامريكية مالكها “اوليج ديريباسكا”، كما انخفضت قيمة العملة المحلية الروسية (الروبل) مقابل الدولار بنحو 10% خلال العامين الماضيين، قبل ان تستعيد بعض التوازن لاحقاً.
ورغم ادانة موسكو للعقوبات الجديدة واعتبارها “غير قانونية وانتهاك لكل الاعراف”، إلا أن موسكو لم تشأ الرد عليها حتى الآن.
وفى خضم أجواء هذا الانهيار غير المسبوق في العلاقات الروسية / الغربية، وبدون دعاية انتخابية تذكر، أو حتي اعلان عن برنامج انتخابي، فاز الرئيس بوتين بولاية رابعة مدتها ست سنوات في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 18 مارس 2018 بأغلبية مريحة تجاوزت نسبة 76% من أصوات الناخبين. وقد أكدت نسبة المشاركة المعقولة في هذه الانتخابات(حوالى 70%) ومرور العملية الانتخابية دون تظاهرات شعبية تذكر، مشروعية نظام بوتين رغم حملة الانتقادات الغربية التي تصفه “بالديمقراطي غير الليبرالي” أو بـــــــــــــ التسلطية الانتخابية”electoral authoritarianism”([9]).
والواقع أن بعض مراكز الفكر في روسيا كانت قد توقعت ان تفتح الانتخابات الرئاسية في روسيا المجال أمام دورة جديدة في السياسة الخارجية الروسية يمكن معها توقع مقاربة جديدة للعلاقات مع الغرب ومراجعة نقدية لتجارب الماضي، وذلك على اساس احتمالية حدوث تغيير في كادر فريق السياسة الخارجية في الكرملين. ومع ذلك قللت العقوبات المتواصلة كثيراً من امكانية حدوث انفراجه في العلاقات بين الجانبين، فضلا عن تعيين جون بولتون مستشارا للأمن القومي ومايك بومبيو وزيرا للخارجية، وكلاهما معروف بموافقة المناهضة لروسيا، وهو ما سيبقى على حالة الغموض حول مستقبل هذه العلاقات، خاصة وان اللقاءات المتكررة بين بوتين وترامب منذ قمة هلسنكي عام2018، وآخرها اللقاء الذي تم على هامش قمة العشرين في أوساكا باليابان في يونيو الماضي، وكذلك لقاءات ممثلي الرئيسيين، وعلى المستويات الأدنى، مثل لقاء بولتون وباتروشيف أمين عام مجلس الأمن القومي الروسي في اغسطس 2018، لم تغير من الامر شيئاً حيث تحول ميزان القوي في السياسة الخارجية الامريكية بشدة من البيت الابيض الي الكابيتول بعد سيطرة الديمقراطيين تماماً على مجلس النواب بعد انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر2018. وحتي قبل ذلك، لم يكن الملف الروسي محل خلاف جوهري يذكر بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. كل ذلك رغم إبداء روسيا استعدادها دائماً للتعاون مع الولايات المتحدة في قضايا الحد من الاسلحة الاستراتيجية، ومنع انتشار الاسلحة النووية، ومكافحة الارهاب الدولي، والتعاون في الأزمات الاقليمية مثل كوريا الشمالية وأفغانستان.
والسؤال الذى يطرح نفسه هنا: هل سيستمر بوتين في تحديه لما يسمى بالنظام الليبرالي الغربي، ام انه سيسعى الى البحث عن نوع من المصالحة مع الغرب؟.
للإجابة على هذا السؤال، يجب تناول ديناميكيات السياسة الخارجية الروسية والاسباب التي تقف وراء استمرار تمتع بوتين بشعبية كبيرة، لم تقل في أي وقت عن نسبة 70% وفقا لتقديرات عديدة محايدة، وذلك رغم مسلسل العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة على بلاده، وماتزال تتوالى، والصعوبات الاقتصادية الناجمة عن تدهور أسعار الغاز والنفط واللذين يمثلان نسبة 70% إيرادات روسيا من العملات الصعبة.
ومن بين الاسباب وراء شعبية بوتين خطابه السياسي المحافظ، المؤكد دائما للكبرياء الوطني والهوية الحضارية والدينية الخاصة بالأزمة الروسية، وهى كلها امور يتشاطر فيها بوتين مع المجتمع الروسي. ومن الظلم والتبسيط تبرير شعبية بوتين الكبيرة بالدعاية الرسمية من قبل النظام (البروباجندا)، وهى موجودة بالفعل وبقوة في قنوات التلفزيون الرسمية، والتي عادة ما تؤكد على حقيقة أن بوتين حمى البلاد، والتي تعافت بفضله بعد انهيار إبان عقد التسعينيات على عهد بوريس يلتسين، وانه بفضل قبضة بوتين القوية فقط امكنها القيام من جديد وتأكيد مصالحها المشروعة على المسرح العالمى. وتمٌس كل هذه الامور مشاعر المواطنين الروس، ليس بسبب (البروباجندا) وانما بسبب احداث وظروف مر بها الروس انفسهم، تسعى الآلة الاعلامية الرسمية الى تذكيرهم بها دائماً.
في السياق عاليه، يمكن القول بأن العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على روسيا تخدم النظام الحاكم، فهي توفر دليلا على استهداف الغرب روسيا واضعافها كجزء من استراتيجية أوسع لتغيير النظام في موسكو. والحال كذلك، تبدو اغلبية المواطنين، رغم المظاهرات التي تحدث في موسكو من حين لأخر، مستعدة لشد الاحزمة وتحمل الصعوبات الاقتصادية، بما فيها التقشف في موازنات الصحة والتعليم والمعاشات. ويضاف الى ذلك عامل هام وراء شعبية بوتين يتمثل في حقيقة أن الدولة الروسية نجحت في استعادة قبضتها على قطاع السلع الاساسية والاصول الاقتصادية الاستراتيجية الاخرى، وتقليص نفوذ طبقة كبار رجال الاعمال الذين تربحوا في التسعينات من القرن الماضي في ظل نظام يلتسين، بعد ان كان قد تم خصخصته في عمليات اتسمت بالفساد والفوضى.
وقد جاء قرار ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 ليرفع من شعبية بوتين لعنان السماء، وأدى الى تغيير المسرح السياسي كله في روسيا والعالم. فقد جاء رداً على ما جرى في أوكرانيا من انقلاب على نظام يانوكوفتش المنتخب بإشراف اوروبي فى فبراير 2014، وهو الانقلاب الذى دعمته واشنطن وتم تقييمه من قبل موسكو على انه بداية لانضمام اوكرانيا للناتو. وفي هذا السياق يؤكد الاستراتيجيون الروس أن الأزمة الأوكرانية في ذاتها ليست السبب الرئيسي وراء الموقف الغربي من موسكو، وان كانت بمثابة عرض للأزمة العميقة بين الولايات المتحدة وروسيا. ذلك ان هذه الاخيرة، في تعاملها مع اوكرانيا، قامت بكسر وتحدي النظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. وهكذا يمكن القول بأن ضم القرم يمثل نهاية بحث روسيا عن علاقة ايجابية مع الغرب، والتي جعلت من الممكن في السابق إقامة علاقات تعاون لا يستهان بها معه، رغم بعض النزاعات الجدية بين الجانبين مثل حرب الايام الخمسة مع جورجيا، في اغسطس 2008. ووفقاً لديمتري ترينين مدير مركز كارنيجي موسكو، لم يكن هدف موسكو الحقيقي من ضم القرم مراجعة تسويات ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في منطقة البحر الاسود، وإنما توفير بديل للنظام الدولي ما بعد الحرب الباردة، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، حيث يعتقد بوتين أن هذا النظام قد ولي رغم اقتناع الكثيرين في روسيا والولايات المتحدة بان الاولي أضعف من أن تتحدي هذا النظام([10]).
والواقع ان هناك ما يشبه الاجماع بين المحللين الغربيين على ان الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها الاوروبيين قد فشلت فشلاً ذريعاً في توقع تحركات روسيا سواء عندما حرضت هذه الدول ميخائيل ساكاشفيلى على بدء حرب اغسطس 2008 ضد روسيا، او عندما وقع انقلاب كييف ضد ياناكوفيتش، وما تبعه من فرار الرئيس خارج البلاد، أو التدخل العسكري الروسي في سوريا اواخر سبتمبر 2015. فقد تجاوزت هذه التحركات – في كل خطواتها – التوقعات الغربية لما كانت روسيا مستعدة لفعله، والمخاطر التي كانت مستعدة لتحملها من أجل حماية مصالحها.
ويضاف الي ما تقدم أن سياسة بوتين الخاصة بإحياء دور روسيا كقوة عالمية واهتمامه بتطوير قدراتها العسكرية لاسيما النووية، هي بمثابة عنصر رئيسي لشعبيته. ففي الثقافة السياسية الروسية يعد القائد القوى بمثابة ركيزة اساسية في هذه الثقافة ، فهو انعكاس للدولة القوية، والعكس صحيح أيضاً ، وهى مسألة حرص بوتين عليها منذ انخراطه في السلطة كرئيس للوزراء عام 1999، ثم رئيساً في العام التالي عندما قام بسحق الحركة الانفصالية في الشيشان ثم سداد ديون روسيا واعادة بناء قوتها العسكرية واستعادة هيبتها ووضعيتها كقوة كبرى عالمية ، وكان خطابه فى مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير عام 2007 ايذانا بتأكيد هذه الوضعية([11]).
وتؤمن أغلبية المواطنين الروس بأهمية استمرار حكم بوتين بوصفه الخيار الافضل لحفظ النظام والاستقرار في الداخل مع الحفاظ على وضعية روسيا في الخارج كقوة عالمية. وحيث ان هياكل السياسة الداخلية الروسية تعتمد الى حد كبير على اولويات السياسة الخارجية، فانه من المرجح ان يستمر هذا الوضع في المديين القصير والمتوسط.
وفى هذا السياق، وبعد الأزمة الاوكرانية، رسخت روسيا من طبيعة سياستها التقليدية “الاستقلالية”، مركزة أساساً، وبقوة، على السيادة الوطنية والاقليمية، وهى السياسة التي أدانها جون كيري وزير الخارجية الامريكية الاسبق واصفا اياها بسياسة ” القرن التاسع عشر”([12]).
على آية حال رأت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية في عملية ضم القرم ودعم الانفصاليين في مناطق شرق اوكرانيا، تحديا لنظام ما بعد الحرب الباردة، وهو ما قاد الى استعباد روسيا من مجموعة الثمانية الصناعية الكبرى وفرض الجزاءات حتى الأن، بل وايضا أدى ذلك الى مخاوف من قبل دول الفضاء السوفيتي السابق حيث تعيش أقليات روسية كبيرة. ليس فقط من دول البلطيق الثلاث، المعروفة بعدائها التقليدي لروسيا، بل وايضا بيلاروس وكازاخستان الشريكين الموثوق بهما من قبل موسكو.
والواقع أن خطاب بوتين السياسي، الذي عادة ما يتهم فيه الغرب بتجاهل مصالح روسيا وعدم الاستماع اليها، مؤكدا استعداد موسكو للدفاع عن نفسها بما لديها من قدرات نووية عسكرية ونظم صاروخية، انما يعكس عدم استعداد موسكو للتخلي عن تحدى الهيمنة الغربية والاصرار على التعامل معها على قدم المساواة، وفى اطار منظومة من القيم الخاصة بها( دور الكنيسة الارثوذكسية – حديث بوتين عن الوطنية والقومية الروسية والعالم الروسي الذى مركزه موسكو)، متبنيه في ذلك استراتيجية تقوم على التوجه شرقا وتنشيط علاقاتها بالدول غير الغربية بدءا بالصين. وقد جاء تدخل روسيا في الازمة السورية في سبتمبر 2015 ليوفر فرصة لموسكو لتأكيد دورها العالمي واثبات انها ليست في عزلة دولية.
ومع ذلك، يلاحظ انه بالرغم من انتقاد بوتين الشديد للولايات المتحدة وحلفائها الا ان مواقفه هنا كانت دائما محسوبة، بل ودفاعية بالأساس وانه لا يذهب الى حد تهديد مصالح الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها، وادارة ظهر روسيا لهم، خاصة في الملفات التي تحتاج فيها واشنطن الى تعاون موسكو كمكافحة الارهاب ومنع الانتشار. وكمثال على ذلك رد الفعل الروسي على الضربة الثلاثية لسوريا في ابريل 2018. ذلك انه مع التصعيد الأمريكي ومحاولات حشد الحلفاء للضربة، سعت موسكو الى التهدئة وانشاء قنوات اتصال مع واشنطن، مع التأكيد في الوقت ذاته على عدم التهاون في المساس بمصالحها في سورية. وقد امكن لروسيا بسياستها هذه كسب بعض الوقت لحليفها الاسد لإخلاء المواقع المستهدفة بالضرب، علما بأن الدول الثلاث التي نفذت الضربة، كانت اكدت ان هدفها منها ليس تغيير النظام. وبالمثل يتبنى بوتين ردود فعل هادئة على التصعيد في سياسات العقوبات ضد بلاده، كذلك كان بوتين واضحا في التأكيد على ان بلده ستستخدم الاسلحة النووية فقط حال تعرضها لهجوم نووي.
وعلاوة على ما تقدم يلاحظ أيضاً ان الخطاب السياسي للرئيس الروسي يتسم بقدر كبير من الواقعية، فهو لا يخفي حقيقة الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها بلاده. ورغم حديثه عن قوة روسيا العسكرية وامتلاكها أسلحة جديدة يمكن ان تصل الى أي مكان في العالم، لا يتردد في تناول اوجه ضعف خطيرة في اقتصاد بلاده ومعاناتها من مشكلات اجتماعية لا يستهان بها ، وحاجتها الى مواجهة تحديات جسام.
اخيراً فإن صراحة بوتين، في تناوله لمشكلات روسيا الداخلية وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، انما تعكس حدود فاعلية دور روسيا في الاستراتيجية العالمية، اذ يظل هذا الدور مرهونا بمقدار ما تسمح به موارد الدولة، لاسيما مدى نجاحها في تحديث اقتصادها أو قدرتها على ادارة حصار الغرب لها وتغلبها على تداعيات العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة عليها. وفى هذا السياق، يخطئ من يعتقد أن بوسع روسيا بظروفها الحالية ملء الفراغ الذى قد تتركه الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، اذا ما صح ما يقال حول رغبة ترامب في الانسحاب من المنطقة، باعتبارها منطقة مضطربة وترك مسئولية حمايتها وحفظ السلام والاستقرار فيها الى حكامها بالأساس فيما يسمي بعقيدة ترامب، والتي تقترب كثيرا من مبدأ أوباما في هذا الشأن.
والخلاصة هي أنه من المنظور الروسي فإن أي تنازلات او توافقات لصالح الغرب ستكون تكلفتها السياسية والاستراتيجية عالية للغاية، حيث يتعلق الأمر بكيان الدولة الروسية ذاتها اخذاً في الاعتبار الأهمية التاريخية والاستراتيجية لأوكرانيا بالنسبة لروسيا. اما بالنسبة للولايات المتحدة، فالأمر يتعلق بضرورة استمرار الهيمنة الامريكية على النظام الدولي. وفي ضوء ذلك يبدو التوافق بين الجانبين مستحيلاً، وبالتالي من المرجح ان تظل حالة التوتر في العلاقات بين روسيا والغرب قائمة لسنوات قادمة. واذا كانت اوكرانيا هي البؤرة الجيوسياسية للمواجهة بين الجانبين في المدي المنظور، إلا أنها امتدت بالفعل لتشمل جبهات أخرى جيواقتصادية ومعلوماتية وثقافية وفي الفضاء، بل وتجاوزت العلاقات الروسية / الامريكية، حيث تضررت كثيراً علاقات روسيا بالاتحاد الاوروبي، بدءاً بألمانيا، وبدول أخرى حليفة للولايات المتحدة مثل استراليا وحتي كندا واليابان.
المراجع:
[1])– راجع في هذا المعني:
Mikhail korostikof: Russia is the honey Badger of International Relations. 15 December 2017, carnegie Moscow center http://carngie.ru/commentary/75051.
([3]) – Ivan Krastev: Democracy at Risk,: Haunting western Democratic Imagination, Global Challenges ,Issue No.2,September 2017 .
([4])– Vladimir Vasiliev : Cloak and Dagger diplomacy.How pompeo will fight Against the “Russian threat”,16.03.2018.
([9] )- انظر علي سبيل المثال:
([10])– Dmitri Trenin: Moscow determined to follow its own path,Carnegie Moscow Center,1 April 2014.
([11])- المرجع السابق.
([12]) -You Just don’t in the 21st Century behave in 19th Century fashion by invading another country on completely trumped up pre –text ” .John Kery on 2 march 2014 on CBS’s “ face the Nation”.
نشرت بمجلة الدبلوماسي عدد 283 بتاريخ سبتمبر 2019 (دبلوماسية القمة متعددة الابعاد).