إدارة الأزمة في الولايات المتحدة ومستقبل الدور الأمريكي في النظام الدولي ما بعد الجائحة
مايو 19, 2020أزمة الجائحة في سياق التنافس الأمريكي / الصيني
مايو 20, 2020
السفيرد حسين حسونة
عضو مجلس إدارة المجلس المصرى للشئون الخارجية
تعرض العالم لأوبئة عديدة عبر التاريخ، نذكر منها تلك التي انتشرت في السنوات الأخيرة وأسفر عنها ألوف الضحايا كوباء “سارس” عام ٢٠٠٢م، ووباء “دنج” عام ٢٠٠٥، ووباء “إيبوال” عام ٢٠٠٧، ووباء “الإنفلونزا” عام ٢٠٠٩، ووباء “ميرس” عام ٢٠١٢، ووباء “كورونا” الحالي عام ٢٠١٩م. وفي هذا السياق يمكننا التساؤل عن الجهود الدولية التي بُذلت لمواجهة تلك الأوبئة سواء من خلال المؤتمرات المتخصصة أو المواثيق الدولية أو المنظمات العالمية كالأمم المتحدة التي تواجه جائحة “كورونا” حاليا.
يلاحظ أولا أن المجتمع الدولي قد بدأ يتصدى لتداعيات الأوبئة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر حيث انعقد المؤتمر الدولي الأول للصحة في باريس عام ١٨٥١م بهدف توحيد القواعد التنظيمية الدولية للحجر الصحي إزاء انتشار أوبئة الكوليرا والطاعون والحمى الصفراء، وتلا ذلك عقد أربعة عشر مؤتمراً حول الأوبئة في الفترة من ١٨٥١م إلى ١٩٣٨م، كما تم إقامة مكتب دولي للصحة عام ١٩٠٧وذلك قبيل إنشاء منظمة الصحة العالمية عام ١٩٤٨ .أما بالنسبة للمواثيق الدولية فقد تم التوصل إلى إبرام أول معاهدة دولية في المجال الصحي عام ١٨٩٢ أجرى تعديلها عام ١٩٠٣ إلى أن قامت منظمة الصحة العالمية بإصدار القواعد التنظيمية الدولية للصحة عام ١٩٦٩ والتي يتعين على دولها الأعضاء الالتزام بها وفقا لدستور المنظمة.
وعلى الرغم من قيام عدد من المواثيق الدولية بتناول مجال الصحة بصفة عامة إلا أنها لم تتناول موضوع الأوبئة بحد ذاته حيث بقي خاضعا لتنظيمات خاصة. ونحن نرى أن الوقت قد حان لكي يبادر المجتمع الدولي باستبدال تلك التنظيمات بوثيقة قانونية شاملة متعددة الأطراف تتناول موضوع الأوبئة في إطار قواعد القانون الدولي المتعلقة بها كتلك الخاصة بالصحة، وحقوق الإنسان، والسيادة، والمسئولية الدولية، والتجارة الدولية، والتنقل عبر الحدود، ودور المنظمات الدولية.. الخ. وقد تكون لجنة الأمم المتحدة للقانون الدولي التي أنتمي إلى عضويتها هي الجهة المؤهلة لدراسة هذه القضية لإعداد مشروع معاهدة دولية وذلك باستعراض ممارسات الدول واتفاقياتها وتشريعاتها الوطنية توطئةً شاملة تتضمن قواعد ومعايير وآليات التعاون بين الدول في شأن منع الأوبئة واحتوائها والقضاء عليها. وسوف تمثل تلك المعاهدة إضافة هامة إلى مجموعة المعاهدات الدولية التي سبق أن تبنتها الأمم المتحدة في مجال التنظيم القانوني للعلاقات بين الدول.
أما عن دور المنظمات الدولية في مواجهة الأوبئة، فقد أبدت الأمم المتحدة مؤخرا قلقا متزايدا إزاء تداعيات وباء “كورونا”، فوافقت الجمعية العامة بالإجماع بتاريخ ٢ إبريل الماضي على قرار عنوانه ” التضامن العالمي لمكافحة وباء كورونا” أعاد تأكيد الالتزام بالتعاون الدولي المتعدد الأطراف والمساندة القوية للدور المركزي لمنظومة الأمم المتحدة في مواجهة العالم لتلك الجائحة، كما طالب الأمين العام للأمم المتحدة بقيادة التعبئة والتنسيق في المواجهة العالمية للوباء وتداعياته الاجتماعية والاقتصادية والمالية على كافة المجتمعات، وأكد القرار الحاجة إلى احترام حقوق الإنسان وعارض كافة أشكال التفرقة والعنصرية والزنوفوبيا في التعامل مع الوباء، ثم أكد الحاجة إلى مساعدة الأشخاص والمجتمعات الأكثر ضعفا وتأثرا بالوباء. وتال ذلك صدور قرار ثان في ٢٠ من الشهر ذاته حول “التعاون الدولي لضمان النفاذ العالمي للأدوية واللقاحات والمعدات الطبية لمواجهة الوباء”.
إن صدور هذين القرارين من قبل كافة أعضاء الأمم المتحدة إنما يعتبر رسالة سياسية قوية تعكس قلق المجتمع الدولي من انتشار وباء “كورونا” وتزايد أعداد وفياته بين الدول فضلا عن تداعياته الاقتصادية والاجتماعية، كما تعكس حرصه على تذكير كافة الدول بأهمية تعاملها مع الجائحة من خلال التضامن والتعاون بشتى أشكاله مع مراعاة الدور المحوري لمنظومة الأمم المتحدة في الإرشاد والتنسيق. وقد يترتب على تأكيد دور الأمم المتحدة هذا وتفويض الأمين العام بقيادة حملة مواجهة الوباء، إعادة تعزيز دور الأمم المتحدة على الساحة الدولية وذلك بعد أن فقدت مصداقيتها وفعاليتها في حل القضايا العالمية نتيجة لافتقادها دعم ومساندة الدول ذات التأثير في المنظمة الدولية. كما قد يعتبر القراران مؤشرا على قناعة الدول بأنه رغم القيود المفروضة مؤقتا على انتقال الأفراد والسلع عبر الحدود فال مناص من التعاون الدولي والمساعدة المتبادلة بين الدول لمواجهة التحديات الراهنة التي تواجه البشرية جمعاء.
أما مجلس الأمن المسئول عن حفظ السلم والأمن الدوليين فقد ثبت أن توصله إلى موقف موحد إزاء تناول وباء “كورونا” أكثر صعوبة نظرا لتأثره بالتوجهات السياسية للدول الكبرى صاحبة العضوية الدائمة في المجلس. ولعل هذا هو السبب في تعثر انعقاد جلسة للمجلس حتى الآن لمناقشة مختلف أبعاد الأزمة وإصدار قرار متفق عليه بين كافة أعضائه. فقد اكتفى المجلس بعقد اجتماع في التاسع من إبريل الجاري بناء على طلب أعضائه غير الدائمين للاستماع إلى مداخلة من الأمين العام للأمم المتحدة أكد خلالها أن الوباء يشكل تهديدا كبيرا لصون السلام والأمن الدوليين مما قد يؤدي إلى زيادة الاضطرابات الاجتماعية والعنف في مختلف الدول، وأشار إلى أهمية أي مؤشر على وحدة المجلس وعزمه على مواجهة الأزمة في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها العالم.
وبالرغم من هذا التحذير من قبل الأمين العام فال زالت الخلافات السياسية بين الدول الكبرى تشل عمل المجلس وتحول دون اتفاق على قرار موحد في مواجهة الأزمة، فالولايات المتحدة تمسكت بالإشارة إلى مصدر الجائحة في حين عارضت ذلك الصين وروسيا، كما اتجه بعضها إلى الاعتراض على تناول المجلس لموضوع يتصل بالصحة العامة ولا يتعلق في رأيها بالسلم والأمن الدوليين مما يعد خروجا على صلاحيات المجلس. ومن الواضح أن مضمون هذا الاعتراض لا يتفق مع رأي الأمين العام حول مسئولية المجلس إزاء الأزمة، كما يتعارض مع الموقف الذي سبق أن اتخذه المجلس عام ٢٠١٤م حيال وباء “إيبوال” الذي انتشر في غرب إفريقيا حيث اعتبره يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين. فهل ينتهج المجلس بالنسبة لوباء “كورونا” النهج ذاته؟ خاصة أن مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي قد أعرب في ٢٠ فبراير الماضي عن قلقه البالغ إزاء انتشار الوباء الراهن مضيفا أنه قد يشكل تهديدا للسلم والأمن في القارة الإفريقية. ولنتذكر أيضا أنه سبق للأمين العام الراحل كوفي عنان أن أكد في تقريره المقدم إلى المنظمة الدولية عام ٢٠٠٥ أن الأمراض الوبائية قد أصبحت في القرن الحادي والعشرين مع غيرها من المخاطر العالمية تشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين نظرا لآثارها الكارثية. وال شك أن هذا الوصف الكارثي ينطبق على الآثار الناجمة عن وباء كورونا اليوم. ولذا فقد حان الوقت أن تتخلى الدول الكبرى في مجلس الأمن عن تعنتها لصالح تغلب العالم على الجائحة التي تهدده.
وبالرغم من مواقف الدول الكبرى فقد حاول أعضاء مجلس الأمن الدولي على مدى عدة أسابيع الاتفاق على نص يهدف إلى دعم دعوة أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة في ٢٣ مارس الماضي لوقف إطلاق النار في الصراعات الدولية حتى يمكن للعالم التركيز على الجائحة، إلا أن المحادثات بشأن مسودة قرار أعدتها فرنسا وتونس العضو العربي في المجلس، تعثرت بسبب مواجهة بين الصين والولايات المتحدة بشأن الدعوة إلى دعم منظمة الصحة العالمية، حيث عارضت الولايات المتحدة الإشارة إلى المنظمة بينما أصرت الصين على ضرورة أن يتضمن القرار تلك الإشارة. وفي ضوء ذلك وزعت “استونيا” رئيس المجلس لشهر مايو و” ألمانيا” مسودة قرار جديد على المجلس تركز على تأييد الأمين العام والدعوة إلى هدنة إنسانية في الصراعات حول العالم لمدة تسعين يوما، ولا تتضمن أي إشارة إلى منظمة الصحة العالمية، إلا أن الصين تحفظت على تلك الصيغة مبدية تفضيلها للمسودة الفرنسية التونسية التي شملت إشارة ضمنية إلى منظمة الصحة العالمية. وفي مرحلة الحقة زاد الأمر تعقيدا نتيجة قرار الولايات المتحدة الانسحاب من منظمة الصحة العالمية.
نستخلص مما تقدم أن أزمة جائحة كورونا قد اختبرت مفهوم التعاون الدولي وأظهرت أنه بالرغم من أهمية العمل الجماعي متعدد الأطراف في مواجهة الأزمات الدولية فلايزال المجتمع الدولي يعاني من قصور في هذا الاتجاه. وقد يقتضي ذلك سعي مصر مع مجموعة الدول النامية إلى بلورة رؤية دولية جديدة تستلهم الدروس المستفادة من تجربة الجائحة الحالية وتؤسس لمرحلة جديدة لنظام دولي متعدد الأطراف قائم على التعاون والتضامن الدولي مما يحافظ على شرعيته ومصداقيته.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهات نظر الكاتب ولاتعكس بالضرورة رؤية المجلس المصري للشئون الخارجية.