نحو إقرار إعلان عالمي حول إنشاء عالم ما بعدالجائحة
مايو 26, 2020المراسلات السرية بين ستالين وتشيرشل وروزفلت” ( 2-3 )
يونيو 2, 2020
-
ترامب يغفل دور الاتحاد السوفييتي في النصر على ألمانيا الهتلرية، وموسكو “تنتفض”!.
-
الرسائل السرية المبكرة بين الزعماء الثلاثة كشفت عن أبعاد الخلافات وغياب الثقة.
-
مؤتمرات موسكو وطهران ويالطا حددت مسار العلاقات المتبادلة، ورسمت خريطة عالم ما بعد الحرب.
-
ستالين “يحتد” منتقدا تشيرشل بسبب مماطلته وروزفلت، في فتح الجبهة الثانية في غرب اوروبا.
موسكو – د. سامي عمارة
أثار بيان البيت الابيض الصادر حول الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية سخطا واسع النطاق من جانب الاوساط الرسمية والشعبية في روسيا. وفيما انتقدت موسكو إغفال الرئيس الامريكي ترامب الاشارة الى دور الاتحاد السوفييتي المحوري في هذه الحرب، وما قدمه من ضحايا تجاوز عددها العشرين مليون نسمة، ومتناسيا ان الاتحاد السوفييتي كان السباق بالاستيلاء على برلين، فيما كان جنوده أول من رفعوا علم بلادهم على الرايخستاج في مايو 1945، كشفت وثائق الخارجية السوفيتية عن خفايا وأسرار المداولات التي جرت بين زعماء الاتحاد السوفييتي ستالين والبريطاني تشيرشل والامريكي روزفلت عن حقيقة تطورات الحرب ، ودور كل من هذه البلدان في تحقيق النصر على ألمانيا الهتلرية، وهي ما نستوضحه من مراسلاتهم السرية التي كانت موسكو أفرجت عنها، تأكيدا لدورها المحوري في هذه الحرب وما حفلت به من مآس وكوارث.
كانت ماريا زاخاروفا الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية أول من إنبرى لدحض ما تضمنه بيان البيت الابيض من “إفتراءات”، تناسي فيها كل الدول التي ساهمت في تحقيق النصر على الفاشيةعدا اثنتين: “الولايات المتحدة وبريطانيا”. وذلك ما كان أوجزه الرئيس الامريكي دونالد ترامب الى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في تهنئته التي بعث بها إليه بمناسبة حلول الذكري الخامسة والسبعين لتحقيق النصر في الحرب العالمية الثانية. ولعل ما خلصت إليه زاخاروفا سواء في تغريدتها على مواقع التواصل الاجتماعي، او في البيان الرسمي الصادر عن الخارجية الروسية، يمكن ان يكون تعبيرا سديدا عن جوهر موقف موسكو من هذه الافتراءات.
قالت زاخاروفا:
-
“بإمكانكم أن تسموا ذلك كما تريدون، سواء كان ذلك تزويراً أو إهانةً للتفكير السليم أو إعادةً لكتابة التاريخ. ولكن عندما تصدر مثل هذه التعليقات عن سلطات بلد يدعي أنه “زعيم العالم الحر” أو “نصير الديموقراطية” ويزعم محاربة الأكاذيب بلا هوادة، فإنه لا يمكن التسامح مع ذلك”.
على ان القول الفصل في هذا الصدد لا يمكن إلا أن يكون لـ”التاريخ” بكل تعرجاته وحقائقه وأحداثه، وأيضا للوثائق التي هي وكما الأرقام، لا تكذب. ومن هنا فقد رأينا وكعادتنا في تناول مثل هذه الاحداث المحورية التي حددت وتحدد مسار وملامح التاريخ، ان نعود الى الغوص في بحار الوثائق التي طالما سعدنا بالاطلاع عليها في أرشيف وزارة الخارجية الروسية وبين وثائقه التي،وكما يقول المثل الروسي “غير قابلة للاحتراق”. وكانت وزارة الخارجية السوفييتية سبق وأفرجت عن الرسائل السرية المتبادلة بين زعماء الاتحاد السوفييتي يوسف ستالين، وبريطانيا ونستون تشيرشل، والولايات المتحدة فرانكلين روزفلت (1933- 1945) وخلفه هاري ترومان (1945-1949).
ولما كانت هذه الرسائل تزيد في حجمها عن الالف صفحة، فانه يكون من الاجدى التوقف عند ما يتعلق منها بالبدايات، نعقبها باهم محطات الاتفاق والاختلاف، مرورا بما جرى من خطوات للتنسيق على كافة الأصعدة بما فيها ما جرى في شمال افريقيا وطال بطبيعة الحال الاراضي المصرية. ولم نكن وبطبيعة الحال لنفغل التوقف بالكثير من التفاصل عند وقائع المؤتمرات الدولية التي جمعت رؤساء البلدان الثلاثة في كل من موسكو وطهران ويالطا، التي حددت ليس فقط مسار وتطورات الحرب، بل ورسمت أيضا لاحقا خريطة العالم، وإضطرت فيها الدول الحلفاء بزعامة الولايات المتحدة وبريطانيا، الى الاعتراف بالاتحاد السوفييتي واحداً من ابرز زعماء هذا التكتل العالمي ضد بلدان المحور التي تزعمتها ألمانيا وايطاليا.
ولعله من نافلة القول في هذا الصدد أن نشير إلى أن الاتحاد السوفييتي خرج من هذه الحرب قوة عظمى، صار العالم كله يحسب لها الف حساب، بل وولج بوابة “الامم المتحدة” غير مكتف بصوت واحد شأن كل البلدان الاعضاء، بل وبثلاثة أصوات هي الاتحاد السوفييتي وأوكرانيا وبيلاروسيا، تقديراً وعرفاناً وإعترافاً بدور هذه الدول في الحرب العالمية الثانية.
وتقول الوثائق ان الاتحاد السوفييتي وبالتحالف مع التشكيلات المسلحة لبلدان شرق أوروبا التي اجتاحتها جحافل الجيوش الهتلرية ورزحت ردحا طويلا من الزمن تحت نير الاحتلال النازي، استطاع سحق القوات الفاشية، وتحقيق النصر في إطار ملحمة بطولية جمعات كلا من الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الائتلاف. وأشارت هذه الوثائق ضمنا الى ان التعاون مع هذه البلدان لم يخل من صعوبات وخلافات، لعل أهمها ما ظهر في أعقاب تحول الاتحاد السوفييتي الى الهجوم والتحرك صوب تحقيق الفكرة الاساسية، وهي سحق الفاشية وعدم الاكتفاء بدحر المعتدى عند الحدود السوفيتية، بل والمضي قدما لتحرير حلفائه في شرق اوروبا و”غرس” العالم السوفييتي قوق قبة الرايخستاج، وهو ما تحقق له قبل وصول قوات الحلفاء الى برلين في مايو 1945.
لكن ماذا تقول الوثائق بهذا الصدد؟
ما أن إندلعت نيران الحرب لتطال أطراف الثوب السوفييتي ابتداءً بقلعة بريست على الحدود الشرقية لجمهورية بيلاروسيا السوفيتية في 22 يونيو 1941 ، حتى إنتفضت الشعوب السوفيتية “عن بكرة أبيها” كما يقال للتصدي لما وصفوه بالهجوم الغادر، ولم تكن تتوقع مثل هذا التحول في مسار الحرب، ربما يقينا من جانبها ان المانيا الهتلرية لن تفعل ذلك، وهي التي بادرت بتوقيعها مع الاتحاد السوفييتي في 23 اغسطس عام 1939 معاهدة عدم الاعتداء التي عرفت تحت اسمي وزيري خارجية البلدين “مولوتوف وروبينتروب”، في أعقاب معاهدات مماثلة كثيرة وقعتها عدد من الدول الغربية ومنها فرنسا وبريطانيا مع ألمانيا الهتلرية. وبعيدا عن الخوض في سلبيات هذه المعاهدة، وبروتوكولاتها السرية التي حددت مناطق النفوذ لكل من الدولتين في الاراضي المتاخمة لحدودهما، نشير الى الرسالة التي تلقاها الزعيم السوفييتي يوسف ستالين من ونستون تشيرشل في 8 يوليو 1941 أي بعد أقل من أسبوعين فقط من غزو القوات الهتلرية للاراضي السوفيتية، يقول فيها:
-
“يسعدنا جميعا، ما تبديه الجيوش السوفيتية من مقاومة ضارية جسورة لغزو النازيين الذي يتسم بالقسوة دون مبرر. ونؤكد ان جسارة وإصرار الجنود والشعب السوفييتي يلقيان التقدير والاعجاب. وسوف نبذل قصاري جهدنا من اجل تقديم العون لكم ، نظرا لأن ذلك سوف يوفر لنا الظروف الجغرافية لحفز إمكانياتنا وحشد مصادرنا. وكلما طالت فترة الحرب، فإنه سوف تتوفر لنا فرصة تقديم أكبر قدر من الدعم والمساعدة. كما تقوم القوات الجوية البريطانية ليلا ونهارا بشن الكثير من الغارات على الاراضي التي تحتلها المانيا، وعلى الاراضي الالمانية نفسها بقدر الامكان. كما نقوم بتكثيف الغارات الجوية من ناحية البحر وفي المناطق الغربية”.
ومضي تشيرشل في رسالته ليعرب عن “أمله في تكون هذه الغارات سبيلا الى إرغام هتلر على التراجع، والتخفيف من الاعباء التي يتحملها الاتحاد السوفييتي “.
كما كشفت الرسالة عن وصول وفد عسكري سوفييتي الى بريطانيا بهدف التنسيق بين البلدين، فيما خلصت الى ضرورة مواصلة حشد الجهود من أجل “طرد الأرواح الشريرة.
ولم يمض من الوقت الكثير حتى أرسل تشيرشل رسالة أخرى تحمل خاتم”خاص جدا” باسم يوسف ستالين في 10 يوليو 1941 ، كشف فيها عن إيفاده لمبعوثه الى موسكو، معربا عن إرتياحه لما أسفر عنه لقاء مبعوثه “السير ستافورد كريبس” مع ستالين .
وأعرب تشيرشل في هذه الرسالة عن ارتياحه للبيان الصادر عن هذا اللقاء، ونص على نقطتين اساسيتين:
-
” أ. التاكيد على ماهية التعاون المتبادل وحجم وطابع هذا التعاون.
ب. إلتزام كل من الدولتين بعدم عقد أي صلح منفرد.”
وفي رده على هاتين الرسالتين، بعث ستالين إلى تشيرشل في 18 يوليو 1941 رسالته التي أعرب فيها عن شكره لما جاء في الرسالتين السابقتين، وانهما:
-
“وضعتا أساس إتفاق بين البلدين، وتؤكدان ان الاتحاد السوفييتي وبريطانيا العظمى صارتا حليفين نضاليين في الكفاح ضد المانيا الهتلرية.
وقال :” اننا لا نشك في ان بلدينا سوف يجدان ما يكفي من القوي لسحق عدونا المشترك، مهما صادفنا من صعوبات”.
ومضي ستالين ليعترف بفداحة الموقف مشيرا الى انه :
” من نافلة القول إبلاغكم بأن أوضاع القوات السوفيتية على الجبهة تظل تتسم بالكثير من التوتر. كما ان الفسخ الفجائي للمعاهدة الموقعة مع هتلر حول عدم الاعتداء، والهجوم غير المتوقع ضد الاتحاد السوفييتي، وفًرا للقوات الالمانية الاوضاع المناسبة لها، في نفس الوقت الذي لا يزال يؤثر فيه على أوضاع القوات السوفيتية”.
ومن اللافت في هذه الرسالة، انها ورغم تحريرها في وقت مبكر جدا من الغزو الهتلري للاتحاد السوفييتي، تطرقت الى فكرة فتح الجبهة الثانية في غرب اوروبا، وهي الفكرة التي طالما تطرق اليها الاتحاد السوفييتي في كل مشاوراته مع الولايات المتحدة وبريطانيا في أكثر من مناسبة وعلى مدى كل سنوات الحرب، وهو ما سوف نتطرق إلي تفاصيله لاحقا في هذه الحلقات .
وكان ستالين أشار في رسالته إلى تشيرشل بتاريخ 18 يوليو 1941 إلى موضوع “الجبهة الثانية” التي لم يُقْدِم الحلفاء على إفتتاحها بعملية إنزال قواتهم في نورماندى إلا في 6 يونيو 1944 أي بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من تاريخ تحرير هذه الرسالة التي قال ستالين فيها :
-
” أعتقد انه كان من الممكن أن تتحسن أوضاع الاتحاد السوفييتي بنفس الدرجة التي يمكن أن تتحسن فيها أوضاع بريطانيا بكثير، لو جرى فتح جبهة ثانية ضد هتلر في الغرب (شمالي فرنسا)، وفي الشمال في منطقة القطب الشمالي. ان افتتاح جبهة في شمالي فرنسا لا يمكن ان يرغم هتلر على سحب قواته من الشرق وحسب، بل ويجعل من المستحيل ان يقوم هتلر بغزو انجلترا . ان افتتاح مثل هذه الجبهة يمكن ان يلقي شعبية ليس فقط بين صفوف القوات البريطانية، بل وبين كل سكان جنوب انجلترا. انني اتخيل مدى الصعوبات التي تكتنف انشاء هذه الجبهة، لكنني اعتقد انه وعلى الرغم من كل هذه الصعوبات فانه يتوجب افتتاحها ، ليس فقط من أجل المصلحة العامة ، بل ومن اجل مصالح انجلترا نفسها. كما انه من المجدى افتتاح هذه الجبهة في الوقت الحالي تحديدا، الذي تتوجه فيه انظار القوات الهتلرية صوب الشرق، وقبل ان تستطيع توطيد مواقعها في المناطق التي تحتلها في الشرق.”
واستطرد ستالين في رسالته، ليشرح كل تفاصيل ما يقترحه من عمليات عسكرية يمكن أن تقوم بها قوات التحالف على مختلف الجبهات .
وتوالت البرقيات بين الزعيمين السوفييتي والبريطاني وحتى 15 اغسطس 1941، وهو التاريخ الذي تلقي فيه يوسف ستالين أول برقية مشتركة بعث بها إليه الرئيس الامريكي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشيرشل.
في هذا الرسالة طرح الزعيمان الامريكي والبريطاني على الزعيم السوفييتي ستالين فكرة عقد مؤتمر في موسكو يتناول فيه ممثلو البلدان الثلاثة المسائل المتعلقة بتوزيع الجهود والمقدرات وتنسيق الجهود من اجل بدء المقاومة المشتركة للقوات الهتلرية على مختلف الجبهات . وكشف كل من روزفلت وتشيرشل عن إمكانية إرسال الدعم العسكري والمادي الى الاتحاد السوفييتي، على ضوء ما يتوصل اليه ممثلو البلدان الثلاثة من تصورات وقرارات. كما أشارا الى ما يقومان به من جهود من أجل إرسال السفن المحملة بمختلف اشكال الدعم في اقرب وقت ممكن، إستنادا الى “صمود الاتحاد السوفييتي وما يبديه من ضروب المقاومة الباسلة”.
وفي رسالته التي بعث بها إلى ستالين في 30 اغسطس 1941 وأعرب فيها عن إستعداده لارسال 440 من المقاتلات في حال توفر الطيارين السوفييت الذين يمكنهم استخدامها، الى ميناء مورمانسك شمال غربي الاتحاد السوفييتي، طرح الزعيم البريطاني فكرة اقامة خط سكك حديدية من الخليج “الفارسي” وحتى بحر قزوين، وتأمين وصول الامدادات النفطية الى جانب ما يمكن إرساله من الهند من معدات للسكك الحديدية، ومن المواد الغذائية، فيما عرض إستئناف دفع المقابل المادي إلى شاه ايران في حال موافقته على ذلك.
وقال:
-
ان ذلك سوف يكون إشارة مناسبة الى العالم أجمع تقول “ان القوات المسلحة في كل من البلدين تتبادل تقديم العون فيما بينهما”.
وتتوالى المراسلات إستعدادا لعقد مؤتمر موسكو الذي جرت الاشارة اليه عاليه، وحتى إنعقاده بالفعل في مطلع أكتوبر 1941 ، والتي أعرب فيها كل من الزعيمين البريطاني والامريكي عن صادق وبالغ تأثره وتقديره، وبالغ إعجابه بالدور البطولي الذي تقوم به القوات السوفيتية في نضالها ضد القوات الهتلرية.
وكان الزعيمان ستالين وتشيرشل، تطرقا أيضا الى ضرورة تنسيق المواقف تجاه كل من فنلندا ورومانيا والمجر التي تقف مؤيدة لالمانيا الهتلرية، وهو ما كان مقدمة لخلافات طالب ستالين صراحة إستيضاح أبعادها وتداعياتها مع تشيرشل، ولا سيما ما يتعلق منها بعدم وجود الاتفاقيات التي تنظم وتحدد ملامح مواقف كل من البلدين تجاه “الهدف من الحرب والتعاون العسكري المشترك بين البلدين في العمليات الحربية في اوروبا، والرؤية المشتركة لسلام ما بعد الحرب”، وما وصفه ستالين صراحة بـ”توفير الثقة المتبادلة بين البلدين”.
وإنتقد ستالين موقف بريطانيا من المسائل المتعلقة بكل من فنلندا ورومانيا والمجر، وما كشفت عنه حكومتها من الوثائق السرية المتبادلة بصدد موقف الاتحاد السوفييتي من البلدان الثلاثة، وما جرى تسريبه إلى الصحافة من تفاصيلها التي كانت تطرقت اليها المراسلات الدبلوماسية السوفيتية السرية، في نفس الوقت الذي سارعت فيه الحكومة البريطانية الى إعلان رفضها لما يطرحه الاتحاد السوفييتي من أفكار. وتساءل ستالين عن السبب الذي يدعو بريطانيا الى إتخاذ مثل هذا الموقف. وفيما كان الاتحاد السوفييتي أعرب عن تقديره لوصول الشحنات العسكرية الى ميناء مورمانسك، توقف ستالين في رسالته المؤرخة في 8 نوفمبر 1941 ، عند الوضع المزري الذي تصل عليه المعدات والدبابات والطائرات، مشيرا الى سوء تعليبها وما أصابها من كسور خلال فترة نقلها.
وتقول الوثائق ان تشيرشل سارع بالرد على هذه الرسالة، مؤكدا استعداده للاستجابة الى كل ملاحظات ستالين تجاه مواقف حكومته بشأن الموقف من فنلندا والمجر ورومانيا، فيما أعرب عن استعداده لايفاد وزير خارجيته أنطوني إيدن الى موسكو للقاء ستالين وايجاز وجهات نظر الحكومة البريطانية وكل ما يتعلق بمسار العمليات العسكرية. وكانت الرسائل المتبادلة بين تشيرشل وستالين تطرقت أيضا الى موقف الولايات المتحدة الامريكية ونتائج لقائه مع روزفلت في واشنطن في ديسمبر 1941-يناير 1942 والذي تناول إعلان الولايات المتحدة عن دخولها الحرب ضد بلدان المحور المانيا وايطاليا واليابان بعد سحق القوات اليابانية للاسطول الامريكي في بيرل هاربر في 7- 8 ديسمبر 1941.
وهاهي مصر تظهر أخيرا في المراسلات المتبادلة بين تشيرشل وستالين حول الاوضاع في شمال افريقيا، والتي إستهلها رئيس الوزراء البريطاني برسالته التي بعث بها الى ستالين في العاشر من يوليو 1942، ويقول فيها انه علم من الرئيس روزفلت بموافقة الزعيم السوفييتي على إرسال أربعين من المقاتلات من طراز “بوستون” التي وصلت الى البصرة في طريقها الى الاتحاد السوفييتي، والتي كانت مخصصة للارسال الى الاتحاد السوفييتي. ولم يمض من الوقت الكثير حتى بعث تشيرشل الى ستالين في 18 يوليو 1942 برسالة اخرى يقول فيها باستعداد قواته لتقديم المساعدة الى الاتحاد السوفييتي، الى جانب مساعداته في الشمال، في المناطق الجنوبية. وقال ان القوات الجوية البريطانية يمكن ان تقوم بذلك في خريف ذلك العام، في حال استطاعت وقف تقدم القائد الالماني روميل في الجنوب. وأضاف ان المعارك تدور ضارية، وتتسم باكبر قدر من التوتر. وكشف عن المحاولات المتواصلة لمحاصرة الموانئ الليبية ومنها طبرق وبنغازي، التي يصل اليها الدعم العسكري لقوات روميل.
ومن اللافت ان هذه الرسالة تحديدا أثارت حفيظة الزعيم السوفييتي، ليرد عليها برسالة بعث بها في 23 يوليو 1942 يقول فيها :
“انه فهم من الرسالة المؤرخة في 18 يوليو الآتي:
أولا: ان حكومة بريطانيا العظمي ترفض مواصلة إمداد الاتحاد السوفييتي بالعتاد العسكري في الشمال(شمال غرب الاتحاد السوفييتي عبر ميناء مورمانسك س.ع.) .
ثانيا : وعلى الرغم من البيان الانجليزي السوفييتي المشترك المتوافق حوله بشأن اتخاذ الاجراءات العاجلة حول فتح الجبهة الثانية في عام 1942، فان حكومة بريطانيا العظمى تؤجل النظر في هذا الموضوع الى وقت لاحق في عام 1943.”
وإستطرد ستالين ليقول :
“إن خبراءنا البحريين العسكريين يعتبرون المبررات التي يسوقها الخبراء البحريون البريطانيون حول ضرورة وقف الامدادات العسكرية الى موانئ الشمال غير ذات معنى. انهم على يقين من انه وفي حال توفر الارادة الطيبة والاستعداد لتنفيذ ما جرى التعهد به من التزامات، يكون من الممكن تنفيذها في نفس الوقت الذي يمكن فيه ايضا تكبيد الالمان الخسائر الفادحة. “
وانتقد ستالين الامر الصادر الى الادميرال البريطاني قائد القافلة البحرية رقم 17 بالعودة الى بريطانيا، وترك السفن المتجهة الى الموانئ السوفيتية منفردة دون حماية او اشراف، وقال ان الخبراء السوفييت يعتبرون ذلك أمرا غير مبرر وغير مفهوم. ومضى الزعيم السوفييتي ليعرب عن شديد سخطه وإمتعاضه من توقف الدعم البريطاني في توقيت تكابد فيه القوات السوفيتية الكثير من الخسائر، وفي الوقت الذي لم يكن الاتحاد السوفييتي يتوقع فيه ذلك. وتحول الى النقطة الثانية والتي نخالها الاهم في هذه الرسالة، وتتعلق بفتح الجبهة الثانية في غرب أوروبا لتخفيف الاعباء على القوات السوفيتية وتكثيف هجوم القوات الالمانية على الجبهة الشرقية، وهو ما سبق وطرحه على رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشيرشل في رسالته اليه في 18 يوليو 1941، والتي أشرنا إليها عاليه.
واستطرد ستالين في ذات رسالته المؤرخة في 23 يوليو 1942 ليقول :
” أما فيما يتعلق بالموضوع الثاني وهو تحديدا “تنظيم فتح الجبهة الثانية في أوروبا” فإنني أخشى ان يجنح هذا الموضوع الى التحول ليتسم بطابع غير جدى. وانني اجد لزاما على، وانطلاقا من الاوضاع الراهنة على الجبهة السوفيتية الالمانية، إبلاغكم وبكل الجدية الحادة، بان الحكومة السوفيتية لا يمكن ان تستكين تجاه تأجيل فتح الجبهة الثانية حتى عام 1943 .
وأعرب عن أملي في ألا تكونوا قد غضبتم من انني رأيت ان اصارحكم بكل الشرف والشفافية بما أراه ويراه زملائي حول الموضوعات التي طرحتموها في رسالتكم “. ي.ستالين
ومن الملاحظ ان الزعماء ستالين وتشيرشل وروزفلت صاروا، واعتبارا من الرسالة التي أشرنا اليه عاليه، يحرصون على ان تحظي مراسلاتهم بقدر أكبر من السرية التامة اللازمة، حيث تصدرت أختام “خاص وسري” و “عاجل وسري” و”سري للغاية “، ومنذ ذلك التاريخ معظم المكاتبات والمراسلات المتبادلة بين الزعماء الثلاثة.
فماذا جرى بين الزعماء الثلاثة بعد هذا التاريخ ؟ وما هي الاسباب التي دفعتهم الى التحول بعيدا عن تبادل الرسائل وبحث ضرورة عقد القمم الثلاثية التي سرعان ما توالى عقدها بعد مؤتمر موسكو، في طهران تارة ، ثم تارة أخرى في يالطا، وهي القمة التي حدد فيها الزعماء الثلاثة مصير العلم فيما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلى جانب القمة الرابعة التي عُقدت في بوتسدام في 17يوليو-2 أغسطس 1945 وهي القمة الاخيرة التي جمعت الزعيم السوفييتي ستالين ورئيس الوزراء البريطاني تشيرشل في آخر ظهور له على المستوى الدولي بعد خسارته الانتخابات التي جاءت بخلفه كليمنت اتلي ، والرئيس الامريكي الجديد هاري ترومان الذي خلف أيضا سلفه فرانكلين روزفلت إثر وفاته متأثراً بنزيف في المخ في 12 ابريل عام 1945 ، أي قبل الاعلان عن استسلام المانيا الهتلرية بأقل من شهر واحد .
وهذا ما سوف نتناوله في الحلقة الثانية، مصحوبا بعدد من الوقائع والاحداث التاريخية ومنها المحورية التي غيرت مسار الحرب، ومعه وجه التاريخ، ومنها معركة ستالينجراد الخالدة.
نشرت في جريدة الاهرام بتاريخ 1 يونيو 2020.
-
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهات نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رؤية المجلس المصري للشئون الخارجية