ليبيا وسياسة عض الأصابع
يونيو 26, 2020مشاركة المجلس فى فعاليات برنامج مراكز الفكر ومنظمات المجتمع المدنى التابع لجامعة بنسلفانيا – بإشراف البروفيسور Games McGann 13 مايو و30 يونيو 2020
يونيو 30, 2020
احتفلت روسيا فى 24 يونيو الحالى بالذكرى الـ75 للانتصار على ألمانيا النازية بعرض عسكرى ضخم فى الميدان الأحمر وسط موسكو، دُعِى إليه قادة ما تبقى من جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق. وكان مقررا الاحتفال بالمناسبة فى 9 مايو الماضى، كالمعتاد، إلا أن ظروف تفشى وباء كوفيد ــ 19 أدت إلى تأجيله.
ويجىء حرص الرئيس بوتين على الاحتفال بالذكرى هذا العام، رغم عدم تعافى روسيا من الوباء بعد، ليس فقط لأنها عادة ما تكون مناسبة لعرض أحدث ما فى الترسانة العسكرية الروسية من أسلحة، بل وأيضا، وهو الأهم، بسبب ما يمكن تسميته بحروب الذاكرة المنسقة التى يشنها الغرب خاصة منذ عام 2014 فى إطار التدابير العقابية ضد روسيا ارتباطا بالأزمة الأوكرانية وضم القرم، لتشويه دور الاتحاد السوفيتى فى الحرب وتشبيه ستالين بهتلر وجرائمه، لا سيما منذ أن أعلن بوتين فى خطابه الشهير أمام مؤتمر سياسات الأمن فى ميونخ فى فبراير 2007 بأن سقوط الاتحاد السوفيتى السابق كان الكارثة الجيوسياسية الكبرى فى القرن العشرين، وهو ما فتح الباب أمام توجيه انتقادات لبوتين، واتهامه بالتعاطف مع طغاة الاتحاد السوفيتى ومحاولة إعادة الاعتبار لهم بمقولته هذه، والتسويق لفكرة أن النظام السوفيتى الشمولى كان مصدر كل شرور القرن العشرين وأن تواطؤ السوفييت مع النازى ثابت بموجب ميثاق عدم الاعتداء الذى وقعه وزيرا خارجية البلدين فى أغسطس 1939.
وكان البرلمان الأوروبى أصدر قرارا فى سبتمبر الماضى ينتقد ما أسماه «تجاوزات الدول فى تعاملها مع الماضى»، وكانت روسيا الدولة الوحيدة التى أشار إليها القرار بالاسم، مؤكدا أنه يتعين عليها الاعتذار عن المسئولية التى تقاسمتها الشمولية السوفيتية مع الشمولية النازية عن الحرب العالمية الثانية، بما فى ذلك كل مآسى الحرب والهولوكوست، فيما بدا أنه توجه غربى بإنكار أى دور للاتحاد السوفيتى فى هزيمة ألمانيا النازية، على خلاف ما يوثقه أرشيف الحلفاء المنتصرين.
***
وفى 27 يناير الماضى، وعلى هامش احتفال العالم فى إسرائيل بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتحرير معسكر «أوشفيتز»، صدر بيان مشترك عن رؤساء المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبى والبرلمان الأوروبى ذكر: «قبل خمسة وسبعين عاما حررت قوات الحلفاء معسكر الاعتقال النازى فى «أوشفيتز بيركيناو». وأنهوا أبشع جريمة فى التاريخ الأوروبى، الإبادة المخطط لها لليهود فى أوروبا». ولم يرد أى ذكر للقوات السوفيتية التى حررت المخيم بالفعل.
ثم جاء إعلان البيت الأبيض الشهر الماضى عن برقية بعث بها الرئيس ترامب لرئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون بمناسبة الذكرى ذاتها أشاد فيها بدور الحلفاء فى ذلك، مشيرا إلى دولتين فقط هما الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، مضيفا «أن النصر كان حليفا للولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، وأن الروح الأمريكية ستنتصر على الدوام».
وأمام ذلك غرَدت المتحدث الرسمى للخارجية الروسية بالقول: «بإمكانكم أن تسموا ذلك بما تريدون، تزويرا أو إهانة أو إعادة كتابة التاريخ. ولكن عندما تصدر مثل هذه التعليقات عن سلطات بلد يدعى أنه زعيم العالم الحر أو نصير الديمقراطية ويزعم محاربة الأكاذيب بلا هوادة، فإنه لا يمكن التسامح مع ذلك».
ومن باب المزيد من تشويه الدور السوفيتى فى الحرب، أشار بعض القادة الغربيين أخيرا إلى أن «قوات الجبهة الأوكرانية هى من حرر أوشفيتز»، بما يعنى ضمنا أن القوات المحررة كانت أوكرانية وليست سوفيتية حيث كانت أوكرانيا آنذاك جزء من الاتحاد السوفيتى.
وإزاء وصم بعض شعوب المنطقة بمعاداة السامية والحديث عن أدوار بعض قيادات دولها فى المحرقة، خاصة بولندا، أقرت هذه الأخيرة، ودول أخرى فى المنطقة فيما بعد، قوانين لحماية تاريخ ما اعتبرته أبطالها الوطنيين من حملات الافتراء بتورطهم فى جرائم الهولوكوست والتواطؤ مع النازيين. والحال كذلك، ظهر فى ألمانيا فى العقد الأخير مصطلح «سياسات الذاكرة» لوصف وإدانة محاولات التدخل للتلاعب بالوقائع التاريخية والذاكرة الجماعية لخدمة مصالح ذاتية لساسة وقادة سابقين. وفى تقدير الكثيرين، فإن حروب الذاكرة الجارية فى أوروبا اليوم لا تقربنا من الحقيقة الكاملة، فهى تقسم الأحداث إلى جانبين: «نحن» «وهم» وتقلص نحن إلى «الضحايا» وهم إلى «المجرمين»، وهو ما يستحيل معه مواجهة الحقائق. وحيث أنه لا أحد يستطيع أن يربح مثل هذه الحرب، فقد أدى ذلك إلى تزايد هوة عدم الثقة فيما بين الأوروبيين أنفسهم، وبينهم وبين الروس. والنتيجة، كما يقول هؤلاء أن الحرب العالمية الثانية، فى المخيلة الشعبية الغربية اليوم، خاصة فى الولايات المتحدة الأمريكية، كانت صراعا كسبه الأمريكيون فى معارك شواطئ نورماندى واستعادوا بها المدن الفرنسية واستقبل جنود الحلفاء بالورود فى شوارع باريس، «أنه نصر رسمه الجنرال أيزنهاور بفعل رعب القنبلة النووية». وبالطبع فقصة كهذه لا يمكن بيعها عندما تكون فى روسيا، حيث يطلق على الحرب العالمية الثانية «الحرب الوطنية العظمى» التى يتذكرها الروس فى سياق مختلف تماما.
فالوثائق التاريخية للحرب تؤكد أن الجيش السوفيتى لعب الدور الأكثر أهمية فى انتصار قوات الحلفاء. ووفقا لمؤرخين بريطانيين كان الجيش الأحمر «القاطرة الرئيسية لتدمير النازى»، وأن الاتحاد السوفيتى دفع الثمن الأكبر فداحة للنصر ممثلا فى خسائر فى الأرواح تراوحت ما بين 26 إلى 27 مليون مواطن سوفيتى منهم 11 مليون جندى، كما أنه وفقا للبروتوكول الختامى لاجتماعات القوى المنتصرة فى يالطا، وأمام محكمة جرائم الحرب فى نورمبرج، أثبت الاتحاد السوفيتى أن قوات النازى دمرت 71,000 مدينة وقرية ونحو 32,000 مصنع.
***
لقد وفرت الذكرى الخامسة والسبعين للانتصار فرصة للرئيس بوتين لكى يدلى بدلوه حيث قام فى دورية The National Interest فى 21 الجارى وتحت عنوان «الدروس الحقيقية للذكرى الـ75 للحرب العالمية الثانية» بتفنيد الاتهامات الموجهة للاتحاد السوفيتى مشيرا فى ذلك إلى أن «جوهر السياسة الغربية آنذاك كان إرضاء ألمانيا النازية»، وأن أوروبا والغرب يتهمون روسيا بمحاولة إعادة كتابة التاريخ وحرمانها من حقيقة دورها فى هزيمة النازية متهما الدول الغربية، لا سيما كلا من بريطانيا والولايات المتحدة بالمساهمة فى قيام الحرب حيث استثمرت مؤسساتهما المالية والصناعية فى المصانع والآلة العسكرية الألمانية بجانب تأييد الطبقة الأرستقراطية والنخبة السياسية الحركات القومية الراديكالية واليمينية المتطرفة الصاعدة آنذاك فى ألمانيا وأوروبا. وفى هذا السياق، أرجع بوتين جذور الحرب إلى القرارات التى اتخذت بعد الحرب العالمية الأولى، معتبرا معاهدة فرساى رمزا للظلم الفادح لألمانيا التى «سرق اقتصادها وأجبرت على دفع تعويضات هائلة للحلفاء الغربيين». ونقل بوتين عن أحد القادة العسكريين الفرنسيين لقوات الحلفاء (فوش) وصفه للمعاهدة بأنها «ليست سلاما، إنها هدنة لعشرين عاما». مؤكدا أن هذه الإهانة القومية لألمانيا كانت التربة الخصبة للمشاعر المتطرفة التى وظفها الحزب النازى جيدا ووعد الشعب بتخليص ألمانيا من «إرث فرساى».
وقد أكد بوتين أن «ستالين لم يكن الوحيد الذى ألحق بنفسه العار بمقابلة هتلر، الذى عرف فى أوساط البلدان الغربية بالسياسى المرموق وكان ضيفا مرحبا به فى العواصم الأوروبية»، فقد انخرطت بولندا مع ألمانيا وبموافقة بريطانية وفرنسية عام 1938 فى ترتيبات لتقسيم تشيكوسلوفاكيا، تحت ما أسماه بوتين «خيانة ميونخ» والتى جعلت من قيام الحرب قدرا محتوما، مضيفا أن الاتحاد السوفيتى كان البلد الوحيد الذى وقف بجانب تشيكوسلوفاكيا. بل إنه فى الوقت الذى كانت تجرى فيه مفاوضات موسكو بين قادة عسكريين سوفييت وفرنسيين وبريطانيين لإنشاء جبهة موحدة ضد هتلر، كانت تجرى اتصالات سرية نشطة بين بريطانيا وألمانيا.
والخلاصة أنه بغض النظر عن ما كشفه بوتين من معلومات، ذكر أنها من أرشيف دول الحلفاء، والتى تعكس نفاق الغرب وسياساته التى لا تحترم سوى الأقوياء على النحو الذى نراه اليوم من الموقف الغربى من قضايا دولية عديدة بما فيها محنة الشعب الفلسطينى وأزمة ليبيا، فإن بعض القادة الغربيين ربما لا يدرك أنه كلما زادت حدة الانتقادات للرئيس بوتين ونظامه، وهو ما ينصرف أيضا بالنسبة للرئيس الصينى، كلما ترسخت شعبيته وازداد تمسك الشعب الروسى به. ومن الطبيعى والحال كذلك أن يستنهض بوتين الروح القومية الروسية والتذكير دائما بالتضحيات الهائلة التى قدمها الشعب الروسى فى الحرب، والتى تسعى حروب الذاكرة الجديدة إلى سرقتها أو محوها.
نشر المقال في جريدة الشروق بتاريخ 28 يونيو 2020 و رابط دائم :
-
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهات نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رؤية المجلس المصري للشئون الخارجية