الصراع الأمريكي ضد الصين للبقاء على القمة
يوليو 2, 2020الفريق/ د. محمد سعيد العصَار- وزير الدولة للإنتاج الحربي
يوليو 7, 2020
مقدمة:
رغم أن أصول “الدبلوماسية” تعود إلى عهدٍ بعيدٍ، إلا أن المصطلح ذاته ظهر حديثاً نسبياً، حيث استخدم لأول مرة في اللغة الإنجليزية عام 1787، واليوم يوجد ما يسمًى بقانون الدبلوماسية أو القانون الدبلوماسي، الذي يضم مجموعة القواعد التي تنظم مختلف العلاقات الدبلوماسية كما يشكل – بحق- واحداً من أقدم فروع القانون الدولي([i]).ومن الشائع – خطأ – استخدام الدبلوماسية كمرادف للسياسة الخارجية، فالدبلوماسية أداة من أدوات السياسة الخارجية أو شكلٌ من أشكالها، تتفاعل بموجبها الدولة مع الدول الأخرى. هذا التفاعل، إذا ماتم بدون دبلوماسية، يجعل أدوات السياسة الخارجية لأية دولة قاصرة على الصراع باستخدام أدوات مثل الحرب أو العقوبات الاقتصادية أو حتى التجسس. وبهذا المعنى، تعد الدبلوماسية أداة أساسية مطلوبة للعمل بنجاح في النظام الدولي اليوم.
ومنذ مارس الماضي مع بدء نجاح الصين في السيطرة على وباء فيروس كورونا المستجد والمعروف اختصاراً بـ(Covid-19) واحتوائه، بدأت بكين حملة تقديم معونات إغاثة ومساعدات لمختلف دول العالم، بعد أن تلقت الكثير منها وقت اشتداد أزمتها. وفي هذا السياق، بدأ تداول مصطلحات مثل ” دبلوماسية الأوبئة” أو “دبلوماسية الأقنعة” أو “دبلوماسية قناع الوجه” أو “دبلوماسية الفيروس” أو “دبلوماسية المعونات”…إلخ، في تحليلات الكتاب الغربيين بصفةٍ خاصةٍ، في إشارة إلى الاستخدام الجيوسياسي لهذه المساعدات من قبل الصين تحديداً، وروسيا بدرجة أقل كثيراً، لكسب نفوذ ومكانة عالمية في بيئة دولية تتسم بالتنافس والصراع خاصةً فيما بين الولايات المتحدة والصين.
ومن نافلة القول التأكيد على أن تقديم المعونات والمساعدات الدولية والتي يُنظر إليها كأداة للقوة الناعمة، يستهدف تحقيق مصالح سياسية واقتصادية أو استراتيجية تبتغيها الدول المانحة، وهو مبدأ مستقر في العلاقات الدولية عندما نتحدث عن المساعدات.
ويمكن القول بأنه رغم النداءات العديدة لزيادة المساعدات في جميع أنحاء العالم لمعاونة الدول النامية لمواجهة الوباء، إلا أن الملاحظ تركيز الدول المختلفة على الداخل، وبالتالي تتردد في المساهمة بمساعدات خارجية، مما جعل الدول الأشد فقراً والمجتمعات الضعيفة فريسة سهلة للوباء. وهكذا، وبعيداً عن الآثار الاقتصادية والمالية الكارثية للوباء على مختلف دول العالم، كانت منظمة الصحة العالمية، بحلول 24 إبريل الماضي، قد تلقت نحو نصف مبلغ 675 مليون دولار اللازم لخطتها للتعامل مع الفيروس. وبجانب ذلك كان الأمين العام للأمم المتحدة قد وجه نداءً بتقديم مساهمات لتمويل خطة إغاثة طارئة بقيمة 2 مليار دولار، لم يصل منها سوى نسبة 35% تقريباً، وهي الخطة المفترض أن توفر أجهزة اختبار ومعدات طبية لأكثر سكان العالم احتياجاً.([ii]) ويحذر الخبراء من أن الأحكام المتعلقة بحالات الطوارئ الأخرى يمكن أن تنخفض أو تتوقف تماماً. وقد أعاق إغلاق الحدود جهود منظمات الإغاثة الدولية التي تسعى للحفاظ على البرامج الحالية في الوقت الذي تواجه فيها الوباء أيضاً. وقد تضطر المنظمات إلى سحب موظفيها ومتطوعيها من الخطوط الأمامية خوفاً من إصابتهم بالفيروس. ويقول مسئولو الأمم المتحدة أن الدول الغنيًة المانحة للمساعدات عادةً، يمكن أن تخفض مساعداتها إذا تفاقمت أوضاعها الداخلية أو اقتربت اقتصاداتها من الانهيار بسبب تدابير مواجهة الوباء خاصةً سياسات الإغلاق.
وتعرض هذه الورقة ملامح وسمات “دبلوماسية الصحة العامة الدولية”، ولاعبوها الرئيسيين ارتباطاً بإدارة أزمة كوفيد-19وماقُدِم من مساعدات دولية ارتباطاً بها، وردود الفعل الدولية عليها. وقبل تناول هذه المسائل، أرى من المناسب عرض الملامح الرئيسية للبيئة الدولية التي تعمل فيها” دبلوماسية الأوبئة” والتي هيَأت في واقع الأمر إحتدام الجدل حول هذا النوع من الدبلوماسية.
وعلى ذلك، تتناول هذه الورقة النقاط التالية:
أولاً: البيئة الدولية التي تعمل فيها دبلوماسية الأوبئة.
ثانياً: استراتيجيات القوى المختلفة إرتباطاً بدبلوماسية الصحة العالمية (جمهورية الصين الشعبية- الولايات المتحدة الأمريكية -روسيا الاتحادية- الهند).
ثالثاً: ردود الفعل الدولية على المساعدات المقدمة.
رابعاً: الخلاصة.
أولاً: البيئة الدولية التي تعمل فيها دبلوماسية الأوبئة:
أود التأكيد على أن وباء كوفيد-19، والصراع حول تداعياته على النظام الدولي وعلى مستقبل العولمة الاقتصادية وغيرها من القضايا التي استقطبت كتَاباً كثيرين حول العالم، لا يشكل نقطة تحول، وفقاً للرأي الراجح لكتاب غربيين مرموقين،([iii])في التنافس الجيوسياسي الجاري منذ فترة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين- والذي يشكِل مناخاً مثالياً لاستخدام مصطلحات من قبيل “دبلوماسية الأوبئة” أو “دبلوماسية الفيروس”-، وإنما هو محطة على طريق يمضي فيه النظام الدولي، منذ عقدين على الأقل، في اتجاه التعددية القطبية.
وفي هذا السياق، هيمنت الصين بصورة واضحة على المناقشة الجيوسياسية لمؤتمر ميونخ الأخير لسياسات الأمن في 14-16 فبراير الماضي، حيث أكد المشاركون من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية- على مستويات وبطرق مختلفة- على ما تمثلها لصين من تحدي أمني للولايات المتحدة وحلفائها، وأن ثمة حاجة لتعزيز التعاون عبر الأطلنطي لوقف طموحات الصين ومواجهة ” ديكتاتورية” نظامها السياسي. هذا في الوقت الذي حققت فيه الصين اختراقات واضحة في علاقاتها بالعديد من دول الاتحاد الأوروبي، وشراكتها مع سبع عشرة دولة من وسط وشرق أوروبا فيما يعرف بصيغة 17+1. ولم تفلح الضغوط المستمرة من الولايات المتحدة منذ إدارة أوباما وحتى الآن في إجهاض التعاون الاقتصادي والتجاري الصيني/الأوروبي بدءاً بانضمام حلفاء واشنطن للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB) الذي أنشأته الصين عام 2015 أو إقبال هذه الدول على استخدام الجيل الخامس من شبكة الاتصالات التي تطورها شركة هواوي الصينية.
وينصرف الموقف ذاته بالنسبة لعلاقات روسيا بالولايات المتحدة وبالدول الرئيسية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والمتدهورة منذ التدخل الروسي في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وما تلى ذلك من عقوبات اقتصادية ومالية غربية على روسيا دفعها إلى تطوير وتوثيق علاقاتها بالصين إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية والمزيد من التعاون والتنسيق السياسي والعسكري والأمني.([iv])
وهكذا ينبغي قراءة ما تقدمه الصين وروسيا، بصفةٍ خاصة، من مساعدات ومعونات إغاثة في هذا السياق. ولقد جاء رد الفعل الأوروبي الغربي، رسمياً أحياناً وإعلامياً، سلبياً على ما قدمته الدولتين من مساعدات رغم الإشادة الرسمية بها والإعراب عن التقدير لما قُدٍم.
ومن الطبيعي أن تحظى الصين بالاهتمام الأكبر لهذه الورقة في ضوء نشاطها الدبلوماسي الواسع والمنسق ارتباطاً بأزمة الوباء. وكانت دبلوماسية الصحة العامة الصينية تجاه بلدان آسيا وإفريقيا بمثابة قوة دافعة لعلاقاتها السياسية والاقتصادية وأنشطتها التجارية المتزايدة مع مناطق العالم المختلفة لاسيما في إفريقيا، بل إن مساعدات الرعاية الصحية الصينية كانت جزءاً من برنامج الإصلاح الاقتصادي في البلاد منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي كما سيلي البيان.
وفي ضوء الآثار المدمرة للجائحة على الاقتصاديات الضعيفة بإمكاناتها المتواضعة وهشاشة نظم الصحة العامة فيها، جرت محاولات عديدة في نطاق الأمم المتحدة وخارجها لرفع العقوبات الاقتصادية والمالية وسياسات الحصار المفروضة على عدد من الدول لتمكينها من مواجهة الوباء، كما هو الحال بالنسبة لفنزويلا وكوريا وإيران وفلسطين. وقد باءت كل المحاولات في هذا الشأن بالفشل بسبب موقف الولايات المتحدة الأمريكية. وقد فشل مجلس الأمن في التعامل مع الوباء في ضوء إصرار الولايات المتحدة على تسمية الفيروس بـ”فيروس ووهان”، الأمر الذي اعترضت عليه كلاً من الصين وروسيا. أما الجمعية العامة، فقد أصدرت قرارين غير ملزمين أحدهما في 2 إبريل الماضي (القرار 270/74) بعنوان” التضامن العالمي لمكافحة مرض فيروس كورونا “كوفيد-19″، وصدر الثاني في 20 من الشهر ذاته (القرار 274/74)حول “التعاون الدولي لضمان النفاذ العالمي للأدوية واللقاحات والمعدات الطبية لمواجهة الوباء”. ويؤكد القرارين على الدور المحوري لمنظومة الأمم المتحدة في تحفيز وتنسيق الاستجابة العالمية للسيطرة على تفشي الوباء واحتوائه، والإقرار بالدور الحاسم لمنظمة الصحة العالمية والتعاون الوثيق معها والوكالات الأخرى المعنية في هذا الشأن.
وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة أعلنت عدم تأييدها لبعض الفقرات الواردة في قراري الجمعية العامة، بما فيها تلك التي تشير إلى دور منظمة الصحة العالمية وإلى مجموعة العمل المقترح إنشائها من قبل الأمين العام لتنسيق جهود الأمم المتحدة لتعزيز وضمان النفاذ العالمي للأدوية واللقاحات والمعدات الطبية.
وكانت الأمم المتحدة أطلقت مبادرتين للتمويل: 2 مليار دولار أمريكي كخطة لإستجابة إنسانية عالمية لمواجهة الوباء. وتضم الخطة التي ينسق لها مكتب تنسيق الشئون الإنسانية بالمنظمة(OCHA) النداءات الحالية من منظمة الصحة العالمية والمؤسسات الأخرى التابعة للأمم المتحدة. ومع استمرار تزايد الاحتياجات الإنسانية، تم تحديث الخطة في 8 مايو الماضي، حيث تدعو إلى حشد 6.7 مليار دولار لباقي عام 2020. وحتى 7 مايو فقد بلغت المساهمات نسبة 12.5% فقط من المبلغ المطلوب. أما المبادرة الثانية فتتعلق بصندوق الاستجابة للجائحة والتعافي منها، وهي آلية تمويل فيما بين الهيئات المعنية للمعاونة في دعم الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط لتجاوز الأزمة الصحية والتنموية بقيمة 30,969,359 مليون دولار عبارة عن منح قدمت حتى الآن.([v])
أما الاتحاد الأوروبي، فهو يقدم المساعدات ومعونات الإغاثة في إطار مؤسسي ومعايير تتسم بالثبات، وبالتالي لن تتناوله هذه الورقة.
والخلاصة حول هذه النقطة هي أن “دبلوماسية الأوبئة” تجيء في ظروف دولية تتسم بالتنافسية والصراع، خاصةً بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وعزوفاً واضحاً عن العمل المتعدد الأطراف تقوده إدارة ترامب، بجانب حقيقية خصوصية الجائحة وآثارها الكارثية على الاقتصاد الدولي والمشكلات الضاغطة المرتبطة ببنية النظام الاقتصادي العالمي، تجعل من المساعدات الدولية قضية ملحة وضرورية للعديد من الدول ذات الدخل المنخفض والدول الأكثر فقراً.
ثانياً: استراتيجيات القوى المختلفة إرتباطاً بدبلوماسية الصحة العالمية:
بحكم كونها كارثة عالمية بإمتياز، حيث لم يقف انتشار وتفشي “كوفيد-19″عند حدود دولة بعينها، كان من المفترض أن تكون الاستجابة لها عالمية منسقة تقوم على التعاون والتضامن الدولي لمواجهة الأزمة. ومع ذلك، فقد حدث العكس، إذ تقوم كل دولة بالتعامل مع الأزمة في حدود مواردها ونظمها الصحية وثقافة شعبها، وإن ظلت استراتيجية أغلب الدول تبدو متماثلة في هذا الشأن، من حيث قيامها على عناصر ثلاثة هي: سياسات للتأمين، بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال، لإبطاء تفشي الفيروس والتخفيف على النظام الصحي – تحسين قدرات هذا الأخير وتأهيليه- حزمة مساعدات اقتصادية واسعة النطاق رداً على الإغلاق الاقتصادي المفاجئ والأزمة المالية الناجمة عن ذلك.
في السياق عاليه، وفي ضوء كونها القوة الاقتصادية الثانية والأولى تجارياً على المستوى العالمي، وفي سياق رؤيتها الطموحة لموقع متقدم في النظام الدولي يتناسب وإمكاناتها الهائلة من ناحية ويتفق مع مبادئ الحوكمة الداخلية والعالمية التي تؤمن بها وتدافع عنها من ناحية أخرى، اتسمت الدبلوماسية الصينية بقدرٍ كبير من المرونة والثقة والديناميكية، معتمدة في ذلك على أدوات غير تقليدية ومستفيدة في ذلك من تقدمها العلمي المذهل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حيث أطلقت عدد من الآليات التي تخدم أهداف استراتيجيتها الخارجية شملت، بجانب المساعدات، اتصالات مكثفة على كل المستويات بعدد كبير من الدول لتبادل الخبرات وتقديم الدعم وتنظيم عشرات المؤتمرات الإقليمية مع شركاء الصين في مختلف مناطق العالم للغرض ذاته.
والحقيقة أن الدبلوماسية الصينية في زمن الجائحة تعد بمثابة ممارسة غير مسبوقة سعت الدول الأخرى إلى الاستفادة منها على نحو ما سنراه بالنسبة لدولة مثل الهند.
ونعرض فيما يلي استراتيجيات القوى الرئيسية ارتباطاً بالجائحة بدءاً بالصين، ثم الولايات المتحدة الأمريكية، فروسيا والهند.
يصعب تناول المساعدات الإنمائية التي تقدمها الصين للدول الأخرى بمعزل عن رؤية الصين الخاصة لموضوع التنمية الدولية. فالمساعدات الأجنبية، من المنظور الصيني، هي مجرد مكوٍن من مكونات أخرى تقوم عليها دبلوماسية الصين مع البلدان النامية وتشكل جوهر سياستها الاقتصادية الخارجية. فالتجارة والاستثمارات والقروض، كلها أدوات تدعمها الدولة الصينية، تساهم في إنتاج فرص التنمية الاقتصادية، بجانب المساعدات، لكلٍ من الصين وشركائها في البلدان النامية على السواء([vi]).
بالنظر إلى أن لدى الصين تاريخ حافل بالأوبئة والأمراض المعدية، فقد أقرت الحكومة الصينية في عام 1949 سياسات تركز على منع والسيطرة على هذه الأوبئة والأمراض. وكان وباء سارس (2002-2003) بمثابة تحدي كبير للسلطات الصينية دفعها إلى تعزيز نظام الصحة العامة وضمان فاعليته لمواجهة الأوبئة مستقبلاً. وفي بدايات فترة الحرب الباردة، مثلت برامج المساعدات الصحية الصينية مكوٍناً هاماً من جهود الدولة للتفاعل مع العالم الخارجي وكسر العزلة الدبلوماسية المفروضة عليها، خاصةً وأن منظمة الصحة العالمية لم تكن تعترف رسمياً بجمهورية الصين الشعبية. وكان التنافس المحتدم بين الصين وتايوان حول عضوية المنظمة وتدهور العلاقات مع الاتحاد السوفيتي سببين رئيسيين وراء اهتمام بكين بالمساعدات الصحية([vii]).
وفي مساعيها للحصول على اعتراف رسمي، استهدفت الصين الدول المستقلة حديثاً، والتي لم تكن تحت نفوذ القوتين الأعظم، لتوجيه برامج مساعداتها الصحية لبناء وتوسيع نفوذها السياسي. وذهبت معظم مساهمات بكين في مجال الرعاية الصحية خلال عقد الستينيات، للبلدان الإفريقية في صورة مساعدات طبية أساساً، شملت أيضاً استثمارات في البنية التحتية وبناء مستشفيات وواردات وفرق طبية وأشكال أخرى من الدعم الطبي([viii]). وأثمرت جهود الصين في بناء ودعم نظم الصحة الوطنية في إفريقيا عن تحقيق أهداف سياستها الخارجية بنجاح ممثلةً في دعم قوي من الدول الإفريقية للاعتراف الدولي بها عام 1971 ثم، وفي العام التالي، حصولها على عضوية منظمة الصحة العالمية على حساب تايوان، وصيرورتها لاعباً لا يستهان به في أنشطة الرعاية الصحية والمؤسسية في إطار برامج منظمة الصحة العالمية([ix]). وقد جاءت مساعدات الصين في تلك الفترة في وقتٍ كانت فيه مواردها المحلية محدودة، الأمر الذي دفع بلدان القارة إلى تقدير هذه الجهود والشعور بتضامن الصين معها.
ومع تبني الصين برنامجاً للإصلاح الإقتصادي منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، شهدت مقاربتها لمساعدات الرعاية الصحية الخارجية تحولاً جوهرياً، حيث استخدمت أغلب هذه المساعدات، والتي شملت قروضاً ميسًرة لتمويل بناء مستشفيات ومراكز رعاية صحية وعلاجية وأيضاً إيفاد فرق طبية وتقديم معدات طبية وأدوية للبلدان المتلقية، وذلك لتأمين أسواق لشركات الأدوية الصينية، بما فيها الأدوية الصينية التقليدية([x]).
وبحلول عقد التسعينيات، بدأت الصين في تبني مقاربة متعددة الأطراف لدبلوماسيتها للصحة العالمية، مبلورةً مفاهيمها الخاصة في هذا الشأن ارتباطاً بسياستها الخارجية والتعاون الدولي مع تزايد أنشطة تجارتها الخارجية.
ومع بدايات الألفية الثالثة، شهدت دبلوماسية الصحة الصينية تجاه إفريقيا انطلاقة جديدة مع انعقاد المنتدى الأول للتعاون الصيني/الإفريقي عام 2000، وارتبطت هذه الانطلاقة بالتطور الذي طرأ على مجمل العلاقات الصينية/ الإفريقية.
وجاء انتخاب المواطنة الصينية “مارجريت شان” مديراً عاماً لمنظمة الصحة العالمية عام 2006 بمثابة نصر دبلوماسي للصين عكس مكانتها الجديدة في دبلوماسية الصحة العامة العالمية من أجل تحقيق أهداف سياستها الخارجية([xi]).
ومع أزمة وباء إيبولا، عام 2014/2015، انضمت الصين للمرة الأولى إلى الاستجابة الصحية الدولية للوباء، حيث تعهدت بتقديم 125 مليون دولار إلى وكالات الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية وغيرها من المنظمات، وأوفدت نحو 1500 من عمال الصحة وأنشأت مركزاً علاجياً به 100 سرير ومختبر للسلامة البيولوجية، وتشغيل مختبر فحص متنقل، وإرسال إمدادات إضافية، شملت سيارات إسعاف ومعدات طبية ومساعدات غذائية إلى منطقة غرب إفريقيا. وفضلاً عن ذلك، قامت الفرق الطبية الصينية الموجودة في المنطقة بتدريب الآلاف من عمال الصحة المحليين على تدابير الوقاية من إيبولا. وقد باتت علاقات الصين بالقارة الإفريقية، بمثابة نقطة انطلاق للأنشطة التجارية وكسب الأسواق الإفريقية. فقد أصبح بناء المستشفيات، وشراء الإمدادات، وتوزيع الأدوية وإنتاجها وغير ذلك من المشاريع المرتبطة بالصحة في إفريقيا أكثر ارتباطاً بالمشاريع التجارية بدلاً من مجرد تقديم المنح. وظلت المساعدات بنسبة ضئيلة للغاية من مشاركة الصين مع إفريقيا ([xii]).
ورغم نمو مشاركة الصين في الإدارة الصحية المتعددة الأطراف بشكلٍ كبير في السنوات القليلة الماضية، ومساهمتها في برامج وأنشطة منظمة الصحة العالمية وبرامج محددة بدأتها الولايات المتحدة مثل الصندوق العالمي ومؤسسة بيل وميليندا جيتس وغيرها، إلا أن تركيز بكين يظل على المساعدات الصحية الثنائية، وهو ما يلاحظ بوضوح في وباء كوفيد-19، ربما للاعتقاد بأن الانضمام للنظام المتعدد الأطراف قد يحيل المساهمة الصينية وقوتها الناعمة في هذا الشأن إلى مؤسسات دولية حكومية وغير حكومية. ([xiii])
وفي ظل قيادة الرئيس”Xi Jinping” شهدت طموحات الصحة العالمية للصين دفعة قوية، ممثلة في الاصلاحات التي تضمنتها “رؤية الصين الصحية 2030″، التي عكست الأهمية المركزية للرعاية الصحية اليوم في كل السياسات الصينية الرئيسية الأخرى بما فيها السياسة الخارجية([xiv]). وقامت الصين بتوقيع مذكرة تفاهم لتعزيز تعاونها مع منظمة الصحة العالمية من خلال هذه المبادرة،([xv]) وبذلك دخلت المنظمة في تعاون مبتكر بشأن مشاريع مبادرة” صحة طريق الحرير”، بجانب المقاربات التقليدية للمنظمات الدولية الإقليمية([xvi]).
وفي السياق عالية، وفي غيبة من أي جهد قيادي من قبل الولايات المتحدة مماثل لما قامت به خلال أزمة وباء إيبولا مثلاً(2014/2015)، ورغم أنها لم تعلن صراحةً عن استراتيجية رسمية منسقة بشأن مساعداتها الإنسانية ارتباطاً بالجائحة للبلدان النامية، شنت الصين حملة دبلوماسية قوية لم تقتصر فقط على تقديم المساعدات العينية والمالية، بل وامتدت لتشمل عقد عشرات المؤتمرات مع عشرات البلدان ومئات المسئولين، عن طريق الفيديو، لتبادل المعلومات حول الجائحة والدروس المستفادة من تجربة الصين في مكافحة المرض. وكما هي أغلب الممارسة الدبلوماسية الصينية، تحركت الصين على أساس ثنائي بحت، ودون تنسيق أو مشاركة مع النظام الصحي العالمي المتعدد الأطراف، فقد عقدت هذه المؤتمرات على المستويات الإقليمية فقط، ومن خلال وكالات ومنظمات دولية إقليمية شملت الاتحاد الأوروبي ودول أوروبا الوسطى والشرقية(في إطار آلية شراكة الصين مع هذه الدول تحت ما يعرف بصيغة 17+1)، وجامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي و 20 من قادة الصحة في الدول الإفريقية الأعضاء في مبادرة الحزام والطريق، بما فيها مصر، ومؤتمراً مع دول أمريكا اللاتينية تبادل فيه نحو 200 مسئول حكومي وخبير صحي من الصين وهذه الدول وجهات النظر بشأن الوباء والتعامل معه([xvii]). كذلك عقدت مؤتمرات مماثلة مع أمانة منظمة شنغهاي للتعاون واتحاد أمم جنوب شرق آسيا (آسيان) وعشر دول من جزر المحيط الهادئ.
وكانت الصين قد تلقت وقت اشتداد الأزمة فيها ، وحتى 18 مارس الماضي، دعماً عينياً قوياً من نحو 79 دولة وعشر منظمات دولية([xviii])، على رأسها كل من اليابان وكوريا الجنوبية وروسيا الاتحادية وجمهوريات آسيا الوسطى الخمس وبيلاروس وأوكرانيا وأرمينيا ومولدوفا وأذربيجان ولاوس وميانمار وسنغافورة وإندونيسيا وتيمور الشرقية وباكستان والهند وسريلانكا ومصر وغيرها. وكان لافتاً في هذا السياق أن دولاً مثل كوريا الجنوبية([xix])واليابان، وهما من حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في آسيا، قدمتا دعماً إنسانياً ومعنوياً واضحاً للصين عدة مرات منذ تفشي الوباء، وأشادت قيادة البلدين بفاعلية دور الحكومة الصينية في التعامل مع الجائحة والثقة في قدرتها على احتوائها، وقدمت المساعدات اليابانية والكورية، من الحكومة المركزية والسلطات المحلية وجمعيات رجال الأعمال والمنظمات غير الحكومية والمدن التي تربطها اتفاقات توأمة بمدن صينية تحت شعارات منها” صعوبات الصين صعوباتنا” و”ابقي قويةً يا صين” وغيرها في حالة كوريا الجنوبية([xx]).أما اليابان فكانت أول دولة ترسل مساعدات للصين في 25 يناير الماضي وفيما بعد([xxi]).
وبمجرد قيام الحكومة الصينية بالسيطرة على الوباء واحتوائه، تعاملت بالمثل مع الدول التي قدمت لها معونات إغاثة ومساعدات بدءاً باليابان ودول المنطقة الأوراسية ([xxii])، ومروراً بدول منطقة جنوب شرق آسيا وجنوبها وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، بما فيها مصر وإسرائيل وتركيا وإيران والسعودية والكويت وعمان والجزائر وفلسطين وغيرها. كذلك حظيت بلدان أوروبية عديدة بمساعدات صينية، بما فيها فرنسا وألمانيا وإيطاليا وصربيا والجبل الأسود وبلجيكا والبوسنة والهرسك وغيرها([xxiii]). وقد بلغ عدد الدول التي تلقت مساعدات عينية ومالية صينية أكثر من 155بلداً ومنظمة دولية حول العالم، بما فيها 30 بلداً في آسيا([xxiv]). وبعد أيام قليلة من إعلان الرئيس ترامب تجميد تمويل بلاده للمنظمة، أعلنت وزارة الخارجية الصينية عن منحة للمنظمة بقيمة 30 مليون دولار، إضافة إلى 20 مليون دولار سبق تقديمها في مارس الماضي. وتعهدت الصين بمنح المنظمة مساعدات بقيمة 2 مليار دولار على مدى عامين.
-
المساعدات الخارجية الأمريكية ارتباطاً بالجائحة:
عندما ضربت الجائحة العالم استخدمتها إدارة ترامب كذريعة لمزيد من التراجع عن التكامل والتضامن العالمي والعمل المتعدد الأطراف وترسيخ شعار أمريكا أولاً. فبعد أن رفعت الإدارة، على مضض، الرسوم الجمركية تدريجياً عن أجهزة التنفس الصناعي والأقنعة الجراحية الواردة من الصين اعتباراً من 11 مارس الماضي، حيث تستورد الولايات المتحدة نسبة 75% من احتياجاتها منها، عاد ترامب بعد عشرة أيام- واستناداً إلى قانون الإنتاج الدفاعي- وفرض قيوداً على الصادرات الأمريكية من أجهزة التنفس الصناعي والأقنعة. وقد أعلن ترامب مسئولية الصين عن انتشار وتفشي الوباء والتواطؤ مع منظمة الصحة العالمية بحثاً عن كبش فداء لسوء إدارته للأزمة([xxv])، وصولاً إلى إعلان تجميد المساهمة الأمريكية في ميزانية المنظمة في 14 إبريل الماضي، وهو مالم يكن مفاجئاً حيث بدأ الرئيس الأمريكي التشكيك في نزاهة المنظمة وجدوى جهودها عبر سلسلة من التغريدات نشرها عبر صفحته الرسمية على تويتر، واتهامها بالتواطؤ مع الصين والتراخي في التعامل مع الأزمة. وبالتالي، تصدرت الصين المشهد بتبرعها بمبلغ 30 مليون دولار على نحو ما سبقت الإشارة إليه.
وكانت الولايات المتحدة قد انسحبت من منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو) عام 2019، وباتت الصين الداعم الأول لها.
وقد جاء موقف الإدارة على النحو السابق في سياق مقاربة واضحة قبل ظهور الأزمة، تمثلت في تقليص حجم المساعدات الخارجية لاسيما تلك المتعلقة بالصحة العالمية. وفي فبراير 2020، وقت تداول المعلومات حول انتشار الوباء في الصين وخارجها، قررت واشنطن خفض المساعدات المالية الخارجية للسنة المالية 2021 بنسبة 21%، وشملت التخفيضات نسبة 35% من تمويل البرامج الموجهة للصحة العالمية، وهو مايقدر بنحو 3 مليار دولار. وفيما يتعلق ببعض الملفات الأخرى، كالهجرة والسياسة الخارجية، خفضت الإدارة مساعداتها لكلٍ من جواتيمالا والسلفادور وهندوراس وسوريا والأراضي الفلسطينية، التي تعرضت ميزانياتها وأنظمة الرعاية الصحية لديها بالفعل لضغوطٍ كبيرة ([xxvi]).
وفي ضوء ما تقدم ليس من المستغرب أن تشير تقديرات بعض مراكز الفكر الإسرائيلية وثيقة الصلة بالحكومة إلى أنه من العواقب المتصورة لاستمرار الولايات المتحدة في الركود والتركيز على الداخل أن تجري تخفيضات كبيرة في المساعدات الخارجية الأمريكية لإسرائيل، وأن هذه الأخيرة قد لاتنجو من تخفيضات إدارة ترامب([xxvii]).
وتقلصت المساعدات الأمريكية لتصبح 274 مليون دولار ارتباطاً بالجائحة، كما يخصص القانون الذي أقره الكونجرس والرئيس في 27 مارس الماضي مبلغ 1.5 مليار دولار فقط- أي أقل من عشر واحد في المائة من إجمالي مبلغ 2.2 تريليون دولار- لدعم الأنشطة الدولية لوزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ومراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها. وشملت التخفيضات المساعدات المقدمة إلى كلٍ من أفغانستان واليمن. وكما هو معلوم أنهت إدارة ترامب كل الدعم الأمريكي للسلطة الفلسطينية، بما في ذلك المساعدات الإنسانية والإنمائية والصحة العامة، وذلك للضغط على الفلسطينيين للقبول بصفقة ترامب للسلام([xxviii]). ومع ذلك أعلنت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مؤخراً أنها ستقدم 5 ملايين دولار كمساعدة دولية في حالات الكوارث كمعونة فورية منقذة للحياة لسكان الضفة الغربية لمواجهة كورونا([xxix]).
-
المساعدات المقدمةمن روسيا الاتحادية:
بغض النظر عن إدارة روسيا للأزمة داخلياً([xxx])، إلا أنها سعت لاستخدامها لتأكيد وضعيتها كقوة كبرى يصعب عزلها بالعقوبات الاقتصادية والمالية. وفي هذا السياق، أوفدت موسكو وحدة من قواتها المسلحة إلى إيطاليا متخصصة في إزالة التلوث الكيميائي في أوقات الحروب([xxxi]). وفي الوقت الذي اعتبر فيه بعض المحللين الغربيين الدعم الروسي بمثابة حملة دعائية، أبرز الكثيرين من النخبة الإيطالية والإعلام الروسي ردود الفعل الشعبية الإيطالية الإيجابية على المساعدة الروسية وماتم التعبير عنه من عدم الثقة في حلفاء إيطاليا التاريخيين، أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية([xxxii]).
وكانت روسيا في مقدمة الدول التي قامت بدعم الصين معنوياً ومادياً منذ بدايات الأزمة، ارتباطاً بحملة ترامب بتحميلها مسئولية تفشي الوباء وتواطئها مع منظمة الصحة العالمية. كذلك أعلنت الولايات المتحدة على لسان رئيسها في 2 إبريل الماضي عن قيام روسيا بإرسال طائرة محملة بالمعدات والإمدادات الطبية. ووفقاً للصحافة المحلية الروسية فقد عرض الرئيس بوتين تقديم المساعدة الطبية على الرئيس ترامب الذي قبلها. وقد حظيت صربيا باهتمامٍ خاص من روسيا- كما الصين- حيث أرسلت موسكو 11 طائرة عسكرية محملة بمعدات طبية وأقنعة لبلجراد. ودفع ذلك الرئيس الصربي إلى القول بأن ” التضامن الأوروبي غير موجود… إنه قصة خرافية”([xxxiii]).
ويضاف إلى كل ذلك حرص روسيا على الدخول في السباق الدولي للتوصل إلى لقاح قادر على وقف الوباء. وتحت وطأة تزايد أعداد الحالات المصابة وعدم قدرة قطاع الصحة على التعامل مع الموقف، تبدل الدور التقليدي لروسيا من مانح للمساعدات إلى متلقي لها من دول مثل الصين والهند، حيث أرسلت الأولى فريقاً من الخبراء الصينيين – من المركز الصيني لمكافحة الأمراض والوقاية منها.
-
المساعدات المقدمة من الهند:
تنظر الهند ، بقدرٍ كبير من عدم الارتياح لتعاظم النفوذ الصيني في آسيا والعالم، وبالرغم من عدم تمكن نيودلهي من السيطرة على الوباء واحتوائه تماماً، مثلما هو حال الصين، إلا أنها تحركت في محيطها الإقليمي مستفيدةً في ذلك من تجربة الصين، في إطار ما أطلق عليه البعض “دبلوماسية كورونا”([xxxiv]).
فقد عقدت الهند قمة افتراضية للدول الأعضاء في رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (SAARC) في 15 مارس الماضي، حيث تم تخصيص صندوق طوارئ للدول الأعضاء. كما قادت الهند مبادرة لتوفير المعدات الطبية والأدوية والعاملين في قطاع الصحة لدول الرابطة، عدا باكستان الحليف الأكبر للصين في جنوب آسيا والغريم التقليدي للهند، التي أعلنت بعيد هذه القمة، عن تقديم مساهمة بقيمة 3 مليون دولار لدول الرابطة، كما أعلن الرئيس التنفيذي لصندوق تنمية (السارك) عن 5 مليون دولار للتخفيف من تأثير الوباء على أعضاء الرابطة، إلا أن هذا المبلغ لم يخصص حتى الآن([xxxv]).
أحاطت الهند قرارها بالسماح بتصدير الهيدروكسي كلوروكين (HCQ)، والذي تنتج الهند نسبة 70% منه عالمياً، والباراسيتامول إلى الولايات المتحدة، بعد رفض لم يصمد طويلاً أمام تهديد الرئيس ترامب بفرض عقوبات عليها مالم تسمح بتصدير العقار([xxxvi])، بقدرٍ كبير من التغطية الإعلامية وامتدت صادراتها للعقار والأدوية المضادة للملاريا لتشمل البرازيل وإسرائيل وموريشيوس وسيشيل والدومينيكان والكويت ونيبال وألمانيا وإسبانيا وكندا، منها 32 دولة تلقت الدواء كمساعدة([xxxvii])،بينما قامت بتصديره تجارياً لنحو 42 دولة.
أجرى رئيس الوزراء الهندي اتصالات هاتفية مع عدد من زعماء العالم من المناطق المختلفة بما فيهم الرئيس عبد الفتاح السيسي، كما فعل وزير الخارجية الشيء نفسه مع نظرائه.
واعتبر البعض أن الإخلاء العاجل لرعايا الهند من البلدان التي تأثرت بشدة بالوباء والتعاون مع الدول الأخرى لإجلاء رعاياها من الهند مثل أستراليا وكندا وإيطاليا وألمانيا ودول أخرى، والتواصل مع الجاليات الهندية في الخارج، هي كلها مظاهر لدبلوماسية كورونا الهندية.([xxxviii])
والواقع أن سمعة الهند في مجال الصحة العامة العالمية تأثرت سلباً بعد توصية منظمة الصحة العالمية في 26 مايو الماضي بالتوقف عن تناول الهيدروكسي كلوروكين، والذي روَج له الرئيس ترامب بل وقام بتصديره للبرازيل مؤخراً، بعد ثبوت ضرره كعلاج لوباء فيروس كورونا المستجد([xxxix]).
وعادةً ماتسعى الهند في سياستها الخارجية إلى الحفاظ على نوع من التوازن في علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية والصين وأيضاً روسيا. ففي الوقت الذي قدمت فيه مساعدات طبية للصين، قامت بتصدير الهيروكسي كلوروكين إلى الولايات المتحدة. وقد ردت بكين بمساعدات مماثلة لدلهي، بينما مررت وزارة الخارجية الأمريكية طلباً هندياً باستيراد 16 طوربيد خفيف(من نوع MK54) وعشرة صواريخ هاربون لطائرات القوات البحرية الهندية([xl]).
-
ثالثاً: ردود الفعل الدولية على المساعدات المقدمة:
تمثلت ردود الفعل الغربية على الدبلوماسية الصينية، وكذلك الروسية، بقدرٍ كبير من السلبية والتشكيك إلى حد وصف نتائج ذلك بالفشل الذريع([xli])، وأنه على العكس مما استهدفته الصين من دبلوماسيتها، فإن رؤية الدول المختلفة ونظرتها للصين قبل الجائحة لم تتغير بعدها. وفي هذا السياق، تمت الإشارة إلى بعض بلدان أوروبا الغربية ومنها إسبانيا مثلاً التي يحمل 53% من سكانها وجهة نظر سلبية عن الصين “رغم كونها هدفاً لدبلوماسية القناع الصينية. و أبرز الإعلام الأمريكي والغربي تصريحات جوسيب بوريل Josep Borrell مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي الذي ذكر أن الصين “منخرطة في نضال على النفوذ من خلال الحركة السريعة وسياسات الكرم” منوهاً بأن صفقات المساعدات الجماعية الصينية تعكس رسالة الحكومة الصينية بأنها، على خلاف الولايات المتحدة، شريك مسئول ويعتمد عليه”([xlii]). ومع ذلك، وفي كلمة له أمام السفراء الألمان في 25 مايو الماضي، ذكر “بوريل” أنه يتعين على الإتحاد الأوروبي تبني استراتيجية أكثر تماسكاً ضد الصين واعترف بأن “الصين تبدو أكثر قوة وثقة وصعودها مبهر ويدعو للإحترام، غير أنه يثير تساؤلات ومخاوف”([xliii]).
كذلك اتهمت الصين بتبني حملة تضليل ومعلومات مزيفة حول حملتها لمكافحة الفيروس، وأنها ” قامت بدعاية عدوانية إلى حد مذهل” وأن “ما قدمته من مساعدات لن تجعلها قوة عالمية”، كما أن ” النموذج الصيني الاستبدادي” لا يتمتع اليوم بقدرٍ يُذكر من الجاذبية مقارنة بالمعايير الديمقراطية التي تبنتها الدول المجاورة للصين([xliv](.
ووصف بعض التحليلات الغربية الدبلوماسيتين الصينية و الروسية في هذا الشأن بأنها “لعبة جيوسياسية” تستغل الدولتين بموجبها الجائحة لتحسين وضعهما دولياً([xlv]). وأن الصين اغتنمت فرصة الوباء ” لشن حملة علاقات عامة تهدف إلى تلميع صورة الحزب الشيوعي ومحاولة كسب عقول وقلوب الأوروبيين، وهو ما لم يتحقق([xlvi](.
وفي هذا السياق، وفي إشارة إلى المساعدات التي تلقتها بعض دول غرب البلقان، خاصة صربيا، من الصين وروسيا، تم التأكيد على أن ” دبلوماسية الوباء” لن توقف عملية انضمام هذه الدول إلى الاتحاد الأوروبي، والذي قرر منح هذه الدول 38 مليون يورو كمساعدة فورية وإعادة تخصيص مبلغ 374 مليون يورو من أموال وكالة تشجيع الاستثمار لتسريع الانتعاش الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة([xlvii]).
والواقع أن هناك تحليلات كثيرة من كتاب غربيين، لقيت رواجاً لدى بعض الكتاب الغرب، أشارت إلى أن الهدف العام لدبلوماسية القناع الصينية ” هو تحويل الانتباه عن حقيقة أن الجائحة لم تبدأ على أراضيها فحسب، بل وأيضاً إخفاء بكين الوباء في البداية، الأمر الذي سمح بخروجه عن السيطرة والانتشار ليس فقط في مختلف أنحاء الصين، بل وفي العالم بأسره([xlviii]). أما بالنسبة لروسيا، فقد كانت الجائحة بمثابة ” مناسبة أخرى لذرع الفتنة وتقويض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وأن هناك مخاوف من أن تكون روسيا قد استخدمت مساعداتها الطبية للدول الغربية لأغراض استخباراتية، خاصة في حالة الأطباء والمعدات المرسلة إلى إيطاليا والولايات المتحدة، واستخدام هذه المساعدات” لتسجيل نقاط سياسية”([xlix]).
وبالرغم من كل الانتقادات السابقة، اعترف هؤلاء الكتاب، صراحةً أو ضمناً، بأن سوء إدارة الجائحة من قبل الولايات المتحدة ودول أوروبية عدة، بالإضافة إلى الفشل العام لرد فعل الاتحاد الأوروبي عليها، على الأقل في البداية، قد وفر الفرصة للصين لتحقيق نجاح هائل وظهورها كقوة عالمية مسئولة وموثوق بها، بل وأكثر استعداداً ولو ظاهرياً للتعاون مع مؤسسات دولية مثل منظمة الصحة العالمية، بالمقارنة بالولايات المتحدة التي جمدت تمويلها للمنظمة. وفي هذا السياق، تم تقييم دبلوماسية الصين بشكل إيجابي في معظم وسائل الإعلام الآسيوية، عدا تايوان بطبيعة الحال، بما فيها اليابان حيث وصفت بأنها أكثر من مجرد حملة علاقات عامة ولكنها كانت مساعدات ضرورية قوبلت بتقدير يعكس اعتماد المنطقة المتزايد على التجارة والاستثمارات والسياحة الصينية([l]).
من ناحية أخرى، أكد البعض الآخر- بحق- أن حملة المساعدات التي قدمتها الصين بمجرد إحتواء الوباء “تعزز ببساطة حقيقة مفادها أن الكثير مما يعتمد عليه العالم في مكافحة فيروس كورونا المستجد يتم تصنيعه في الصين”، بما فيها الأقنعة بأنواعها وأجهزة التنفس الصناعي والمضادات الحيوية، الأمر الذي وفر لها أداة أخرى للسياسة الخارجية ممثلة في المعدات الطبية([li]).
وعلى النقيض من ذلك، بدت الولايات المتحدة مفتقرة إلى المعروض والقدرة على تلبية العديد من احتياجاتها، ناهيك عن تقديم المساعدات لمناطق الأزمات الأخرى. ورغم أن واشنطن عرضت تقديم المساعدة للصين وغيرها في بدايات الأزمة، إلا أنها أصبحت أقل قدرة على القيام بذلك الآن مع نمو احتياجاتها، على عكس الصين التي تقدم مساعداتها عندما تكون الحاجة العالمية إليها أكبر([lii]).
أتاح موقف الولايات المتحدة الأمريكية من الجائحة وإدارتها للأزمة فرصة كبيرة للصين للعب دور كبير لصالحها. فقد استخفت إدارة ترامب بأهمية أمن الولايات المتحدة في التغلب على الجائحة في الخارج كما في الداخل. وظلً التركيز على حزمة تحفيز وتوفير الإغاثة الاقتصادية المؤقتة للعمال والشركات الأمريكية، وعدم اتخاذ أي إجراءات لمنع انتشار المرض خارج حدود الولايات المتحدة والتخفيف من انتشار الفيروس. وفي بعض الحالات قطعت الإدارة المساعدات الخارجية ورفضت الدبلوماسية، وعلى عكس ما جرى لمواجهة وباء فيروس نقص المناعة المكتسبة/الإيدز عام 2003، ووباء الإيبولا عام 2014، عندما قادت الولايات المتحدة الجهود الدولية آنذاك، لم تمارس إدارة ترامب مثل هذا الدور، واستخدمت الوباء كذريعة لمزيد من التراجع عن العمل المتعدد الأطراف وترسيخ شعار أمريكا أولاً. وعلى ذلك كان المجال مفتوحاً للصين، لكسب العقول والقلوب في بلدان عديدة سواءً كانت متقدمة أو نامية تتسم نظمها الصحية بالضعف ومحدودية الموارد. وقد لعبت الصين- وبدرجة أقل الهند وروسيا- دورها بمهارة شديدة من خلال دبلوماسية نشطة على الصعيدين الثنائي والمتعدد الأطراف، مستفيدةً في ذلك من خبرة تاريخية لا يستهان بها في التعامل مع أزمات الصحة العالمية.
وجاءت رسالة الصين واضحة في هذا الشأن مفادها أن أزمة وباء كورونا المستجد ليست أزمة في العولمة، وإنما أزمة في نظام الحوكمة العالمية الحالي. فهذا الأخير وقع تحت ضغوط وصدمات خلال السنوات الأخيرة، ورغم كون الولايات المتحدة هي من أنشأ هذا النظام، إلا أن هناك مستجدات طرأت أخيراً أضرت بهذا النظام بشدة، منها تبني الولايات المتحدة مقاربةً تقوم على التنافس الدولي بدلاً من التعاون والعمل على إضعاف أو حتى التخلي عن مسئولياتها وتعهداتها الدولية في مجالات عديدة. في الوقت ذاته لاتريد الولايات المتحدة الاعتراف بصعود قوى اقتصادية بازغة، منها الصين والهند وروسيا ودول أخرى، تقود عملية التنمية الاقتصادية الدولية بما يحول التركيز على العلاقات عبر الأطلنطي إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
ويستوجب كل ذلك إعادة ضبط هيكل القوة العالمية ونمط توزيع المصالح وإعادة النظر في الوضع الذي دام طويلاً والذي هيمنت فيه أقلية من الدول الغربية على الحوكمة العالمية ببعديها السياسي والاقتصادي.
وتكشف مقارنة إدارة الأزمة في شرق آسيا بنظيرتها في الغرب، عن وجود فجوة بين نجاح تدابير الاحتواء السريعة التي اتخذتها أغلب بلدان الشرق الآسيوي وإخفاق دول الغرب التي لم يتم فيها إحتواء الوباء تماماً بعد. وقد تكون الدروس المستفادة من الأوبئة السابقة والانضباط السائد في آسيا والاستخدام الماهر للتكنولوجيا، لاسيما تطبيقات الذكاء الاصطناعي، هي كلها أسباب لعبت لصالح آسيا. وبمعنى آخر تؤرخ جائحة فيروس كورونا المستجد لمرحلة جديدة تتقدم فيها البلدان الآسيوية، كالصين والهند وغيرهما، غيرها في الاستجابة للأزمات العالمية، حتى ولو كان ذلك مرئياً بوضوح في الأطر الإقليمية فقط، بحيث يمكن القول بأن هيمنة الدول الغربية في هذا الشأن قد ولًت.
أخيراً يمكن القول بأن “دبلوماسية الأوبئة” الصينية والروسية أو الهندية، لم تؤد إلى تغييرات تذكر في الواقع الجيوسياسي لعلاقات هذه الدول بالولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، حيث ظل هؤلاء، قبل الأزمة وخلالها، على إتهامهم للصين باستغلال الأزمات الدولية لصالحها، ولروسيا بسياساتها الرامية إلى تفتيت الاتحاد الأوروبي، والاثنتين بضرب وتقويض النظام الدولي الراهن والقيم الليبرالية الغربية. وكان سلوك الهند في هذه الأزمة – كما كان قبلها- حريصاً على الاستفادة من الجميع وتوخي الحذر والواقعية في تعاملاته مع كل الأطراف.
سفير/د. عزت سعد
مدير المجلس المصري للشئون الخارجية
نشر المقال بمجلة السياسة الدولية عدد 221يوليو 2020 – المجلد55 – ملف العدد 5 من ص 90- ص 99
منهم كمثال: ) [iii](
([v](Onset of COVID-19 Pandemic boosts Support for International Cooperation, UN news,20 April 2020,https://news.un.org/en/story/2020/04/1062122
([vii](Tuangratananon, T. Tang, K. Siphon Chai Mat, R. Charon Satin, VS.Uibulpolprasert, S.: China Leap Fogging to Become a Leader in Global Health? Journal of Global Health,vol.g(1),2019,dui 10-7189/jogh.og.01031.
([viii]( Huang Y.: Pursuing Health as Foreign Policy: The case of China – Indiana Journal of global Legal Studies, 17(1),pp105-146.
)المرجع السابق.[ix](
)تونجراتانانون وآخرون- المرجع السابق.[x](
([xi](Chin, I.H.Chen, L.&Xu, J.: China’s Engagement with Global Diplomacy: Was SARS Watershed? In Negotiating and Navigating Global Healthcare. Studies in Global Health Diplomacy,2012,pp203-219.
(13) انظر في تفاصيل ذلك – مادالينابركوبيو- دبلوماسية الصحة الصينية في إفريقيا المخاطر وراء الدور الريادي- مرجع سابق.
)المرجع السابق.[xv](
) توانجراتانانون وآخرين-مرجع سابق.[xvi](
([xviii](Foreign Ministry Spokesperson Geng Shuang’s Regular Press Conference online on March 18,2020,official website of China’s Ministry of Foreign Affairs,https://www.fmprc.gov.cn/mfa_eng/xwfw_665399/s2510_665401/t1774380.shtml
)21(Jointly Tackling COVID-19 for a Community of Shared Future in China’s Neighborhood,April2020,China Institute of International Studies (CIIS),pp.11-24-25.
)22(Mutual Assistance Between China and Eurasia in the Face of COVID-19, China Institute of International Studies(CIIS), China and the World , report Series, No.4,April 2020.
([xxiii](China-Europe Solidarity in Fighting COVID-19 with a Shared Commitment to Safeguard Human Health,April2020, “China and the World “ report series,No.8,http://www.ciis.org.cn/english/2020-04/26/content _41135370.html
([xxiv](Haddai Segevs GaliLavi: China’s Donation Diplomacy, INSS Insight, No.1324, Ma 31,2020.
(27)بجانب إمكانية أن يؤدي الانكماش الاقتصادي في الولايات المتحدة إلى عواقب سلبية على اقتصاد إسرائيل في ضوء حقيقة أن الولايات المتحدة هي الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل ومصدر هام للاستثمارات الأجنبية. راجع في ذلك:
) انظر فيليب جوردون- أمريكا أولاً- دورية الشئون الخارجية، 4 إبريل 2020، مرجع سابق.[xxviii](
([xxix](The United States is Continuing to Lead the Humanitarian and Health Assistance Response to COVID-19, US Department of state,16/4/2020:bit.ly/2RQJ54C.
)لمزيد من التفصيل حول الإدارة الروسية للأزمة ، راجع:[xxx](
وانظر ايضاً:
)المرجع السابق.[xxxi](
([xxxii](Marco Di Liddo: Putin infinity war, Coronavirus Recession, Internal Tensions and International Challenges for the last (perhaps) Waltz of the “Zar”: March,2020,http://cesi-italia.org/contents/analisi/ceesi-putin-infinity-war-eng.pdf.
المرجع السابق.)[xxxv](
([xxxvi](VivekMihra: Indian Diplomacy During Covid-19 :Extraordinary times, Extraordinary Measures , May7 2020 https://www.icwa.in/show-content.php?lang= 18level=3&IS_id=4802.
(37) فيفك ميشرا-الدبلوماسية الهندية في زمن كورونا-مرجع سابق.
([xxxviii]) (راجيفبهاتيا- دبلوماسية كورونا الهندية– المرجع السابق)
([xxxix](Hazarika, obja B: India’s Drug Diplomacy: Decoding the HCQ export Decision, April 19,2020,Kalinga Institute of Indo-Pacific Studies; https://www.kiips.in/research /indias-drug diplomacy-decoding-the-hcq-export-decision.
(41)من ذلك على سبيل المثال أنظر:
(42)كيرك لانكستر ومايكل روبن – مرجع سابق.
– وانظر أيضاً –فوكفوكسانوفيك- الصين و”دبلوماسية القناع” في البلقان- مرجع سابق.
(49)المرجع السابق.
(52)المرجع السابق.