زيارة السفير الهولندى للمجلس
فبراير 7, 2021أزمة سد النهضة بين الانسداد والانفراج ( 2 )
فبراير 9, 2021
كل التحركات الصهيونية استهدفت قيام دولة يهودية فى فلسطين والحفاظ عليها
ملامح على طريق الوصول إلى “دولة يهودية” على “أرض فلسطين”، وكيفية خلق الالتفاف حولها باستخدام أساليب شتى، وبخاصة ما تردده الدعاية الصهيونية حول مذابح استهدفت اليهود فقط على يد الزعيم الألمانى هتلر، خلال الحرب العالمية الثانية، فى حين أن شعوباً أخرى سقط منه ملايين الضحايا أيضاً.، ومخاطر ذلك على الشعب الفلسطينى. هذا مضمون ما جاء فى ندوة د. زين الشيخ حول “مفهوم الكارثة (الهولوكوست) فى الفكر السياسى الصهيونى، وانعكاساته على الداخل الإسرائيلى” بالمجلس المصرى للشئون الخارجية. وافتتح الندوة السفير د./ منير زهران، رئيس المجلس، وشارك فيها كلٌ من السفراء د./ عزت سعد، مدير المجلس، محمد منير، ود./ حازم عطية الله، وعددٌ من المهتمين بالقضية محل البحث، بتاريخ 9 فبراير 2021.
فقد شرح الشيخ أن مفهوم “الكارثة” يرتبط لدى اليهود بحادث تاريخي محدد هو عمليات الإبادة والقمع التي تعرَّضوا لها خلال الحرب العالمية الثانية على يد الألمان، والكلمة في معناها العبري – شوآه – ليست جديدة على اللغة العبرية، موضحاً أن الذي تغير فقط هو مدلولها الذي أصبح لا يرتبط في أذهان هذا الجيل سوى بذلك الحدث المهم والمؤثر في حياة اليهود، بل أنه يبطل استخدامها في معانٍ أخرى وأن أي تفسير آخر للكلمة لن يصل بها إلى ما يناسب حجمها الحقيقي في فكر الجيل الحالى. كما تستخدم اللغة العبرية مصطلحاً آخر يعطي نفس المدلول وهو – ياد فاشيم – وهو اصطلاح مستمد أصلاً مما جاء في العهد القديم، ويعني أن الإله سيمنح الأتقياء الذين لا أولاد لهم اسماً خالداً أبدياً (سفر إشعيا الإصحاح 56؛ الآية 5). وقد انسحب مدلول هذا المصطلح أيضاً فى وقتنا الحالى على الهيئة المختصة بتخليد ذكرى ضحايا النازي، كما يعني كذلك ذكرى يوم الكارثة، التي احتُفِلَ بها لأول مرة عام 1953 في إسرائيل، تكريماً لذكري الضحايا الذين أبيدوا في الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945على يد النازي، وذلك بناءً على قرار اتخذه الكنيست الإسرائيلي عام 1951 بجعل السابع والعشرين من أبريل يوماً للاحتفال بذكرى ضحايا الكارثة وتمرد الجيتو، وتتميز احتفالات ذلك اليوم بطقوس حزينة، من مظاهرها إطلاق صفارات الإنذار لمدة دقيقتين متواصلتين في الصباح الباكر ثم تسود البلاد حالة من التفرغ التام في هذا اليوم للاحتفال بذكرى الضحايا. وفي عام 1959 اتخذ الكنيست قراراً بتغيير اسم الاحتفال إلى يوم ذكرى الكارثة وأبطالها، كما صدر تعديلٌ على ذلك القانون عام 1961، نصَّ على إغلاق جميع أبواب أماكن الترفيه ليلة يوم الذكرى.
من جهةٍ أخرى، فإن الاصطلاح الشائع الذي يُطلَق على ما حلَّ باليهود في تلك الفترة في اللغات الأوروبية هو كلمة “هولوكوست”، وهي كلمة يونانية الأصل ترمز إلى القربان الذي كان يُضحَّى به إلى الخالق كاملاً غير منقوص. ولقد أصبحت مصطلحاً أيضاً ككلمة “شوآه”، يرتبط بمدلول عمليات الإبادة التي تعرَّض لها اليهود على أيدي النازى الألماني. وتجدر الإشارة إلى أن مصطلح “هولوكوست” يعني بالإنجليزية “What is brought Up”، ومن هنا كان ترجمته بالعربية أقرب ما تكون إلى القربان منها إلى المحرقة، والأمريكيون هم أول مَن استخدم هذا المصطلح، في أعقاب انتهاء محاكمات نورمبرج الشهيرة والتي شُكِّلَت لمحاكمة مُجرِمي الحرب لأول مرة في تاريخ البشرية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وذلك بعدما كان الشائع قبل ذلك اصطلاح –genocide – الذي يعني إبادة الجنس. كما تستخدم بعض المصادر مصطلحاً ألمانياً آخر هو – Endlosung- وترجمته إلى العربية “الحل النهائي” وهو نفس المصطلح الذي كان يستخدم أثناء محاكمة مجرمي الحرب في محكمة نورمبرج الدولية، على الرغم من عدم وجود دليل واحد يؤكد استخدام الألمان له أو العمل به حيث لم يُعثَر عليه مكتوباً في أية وثيقة من الوثائق الألمانية التي تم إيجادها بعد هزيمة ألمانيا عام 1945.
فترة الأحداث :
ثم شرح الشيخ أن فترة الأحداث، التي تعرَّض لها اليهود والتي تندرج تحت مصطلح “الشوآه”، قد استغرقت ما يقرب من 12 عاماً بصورة فعلية. وطبقاً لما تذكره المصادر التاريخية – واليهودية منها بوجه خاص – كانت بدايتها في 30 يناير 1933، وهو التاريخ الذي وصل فيه الحزب النازي بزعامة هتلر إلى الحكم في ألمانيا، وانتهت تلك الفترة في الثامن من مايو 1945، وهو تاريخ الاستسلام غير المشروط لألمانيا النازية. هذا، فيما تميل معظم المصادر إلى تقسيم فترة الكارثة إلى مرحلتين زمنيتين فرعيتين، هما: مرحلة ما قبل بدء الحرب العالمية الثانية، والمرحلة المواكبة لنشوب تلك الحرب. ولعل ذلك التقسيم هو الشائع لتلك الفترة، وإن كانت هناك تقسيمات أخرى تذكرها بعض المصادر.
المرحلة الأولى: منذ وصول الحزب النازي إلى الحكم حتى الغزو الألماني لبولندا (1933 – 1939):
لم يكد الحزب النازي يتقلد مقاليد الحكم بألمانيا، في الثلاثين من يناير عام 1933، حتى شرع في تطبيق سياساته تجاه اليهود. وقد سار هذا التطبيق في اتجاهين، يتمثل أولهم في سن القوانين وإصدار الأوامر التي من شأنها العمل على دفع اليهود إلى التذمر والتبرم نتيجة ما يحدث لهم من مضايقات تحد من نشاطاتهم وتقيد من حرياتهم، فيما أخذ الاتجاه الثاني شكل الممارسات القمعية وأعمال العنف المباشرة ضد هؤلاء اليهود. كل ذلك في إطار خطة رئيسية وممنهجة، هدفها إشعارهم باستحالة قبولهم كمواطنين في ألمانيا، وحملهم على الهجرة، تحقيقاً لمبدأ الحزب النازي المُعلَن قبل التاريخ المذكور بسنوات عديدة، بشأن فكرة “نقاء العِرق” كمنهج رئيسي للرايخ الثالث. ثم تتوالى الأحداث تباعاً وكلها تنبئ بما لا يدع مجالاً للشك بأن اليهود مُقدِمُون على كارثة مؤكدة، وأن النجاة وحقن الدماء لن تُكتَب سوى لمَن يتمكَّن منهم من الهجرة إلى خارج ألمانيا؛ حيث لم يعد هناك أمل في إمكانية حدوث تعايش مستقر في ظل مثل تلك الظروف، يؤكد ذلك ما حدث من منع الأطباء اليهود من ممارسة أعمالهم في المستشفيات العامة، وتحجيم النازي لفرص عمل اليهود، خاصة المؤهلين منهم عن طريق تقليل أعداد الطلاب اليهود في معاهد التعليم العليا بحجة تناسبهم مع عدد الطائفة اليهودية والتي لا تتجاوز الواحد في المائة من مجموع السكان.
هذا، وفى 15 سبتمبر 1935، صدرت القوانين المعروفة باسم قوانين نورمبرج، والتي اشتملت في مجملها على: أولاً: قانون “مواطنى الرايخ”، والذي يقرر أن أصحاب الدم الألماني هم فقط أصحاب الحقوق السياسية الكاملة. ثانياً: قانون “حماية الدم والشرف الألمانيين”، والذي بمقتضاه تم فرض حظر على الزواج والعلاقات الجنسية بين اليهود وبين كل مَن يحمل دماً ألمانياً.
المرحلة الثانية: منذ الغزو الألماني لبولندا حتى استسلام ألمانيا (سبتمبر 1939 – مايو 1945):
يعتبر الغزو الألماني لبولندا في الأول من سبتمبر عام 1939 بداية لمرحلة جديدة من سياسات النازي المعادية لليهود، حيث بدأت تأخذ شكلاً جديداً تميز بتصاعد خطير في حدة أساليب القمع والتصفية الجماعية النهائية للشعب اليهودي في جميع أنحاء ألمانيا والدول التابعة لسيطرتها. وقد بلغت تلك الأحداث ذروتها خلال الفترة من 1941 إلى 1945، فيما يسمى بالإبادة الجماعية لملايين اليهود تحت شعار “الحل الأخير”، مستخدمين في ذلك وسائل عديدة، منها إطلاق الرصاص الجماعي وأفران الحريق وغرف الغاز، تلك الوسائل التي كان يسبقها مراحل اضطهادية، منها التجويع وأعمال السخرة والمعيشة في ظل ظروف قاسية. ومع الإعداد لغزو الاتحاد السوفيتي، قرَّر النازيون ضرورة التوصل لهذا الحل بإبادة اليهود إبادة تامة ومباشرة، وقد استخدموا في سبيل تحقيق هذا الهدف ما اعتبره اليهود وسائل لا إنسانية لمحاولة التخلص من نزلاء المعسكرات بصور متعددة، سواء كانت بإطلاق الرصاص الجماعي أو الغاز المميت.
عمليات الإبادة لم تكن قاصرة على اليهود فقط:
ورد الشيخ على المزاعم الإسرائيلية بأن عمليات الإبادة قاصرة على اليهود بتناول أحداث معسكر – أوشفيتز – أحد أشهر معسكرات الإبادة الألمانية، وقد أقامه الألمان عام 1940 في بولندا. وقد أُجرِيَت توسيعات للمعسكر فى مرحلة لاحقة، بحيث أصبحت مساحته تبلغ 15 ميلاً مربعاً، وتم تقسيمه إلى أوشفيتز 1 و أوشفيتز 2 ، هذا فيما تم بناء أكبر محرقتين تضمَّا أفراناً صغرى فى المعسكر فى شتاء 1942-1943، وبدأ استخدامهما فى ربيع عام 1943، حيث كان يمكن حرق 2000 جثة فى أقل من 24 ساعة، كما يروى الشهود أن عمليات القتل كانت تستغرق وقتاً أقل من عمليات التخلص من الجثث، أعلن كولونيل رودلف هويس قائد المعسكر آنذاك أثناء شهادته أن حوالى 2.5 مليون شخصاً ( وإن لم ينص على أنهم كانوا جميعاً من اليهود) قد لقوا حتفهم فى المعسكر بالغاز والحريق، وأن حوالى 500 ألف آخرين قد ماتوا مرضاً وجوعاً.
ولكن ما يجب الإشارة إليه هنا أن إطلاق مصطلحات “الكارثة” و”الإبادة” و”المحرقة” حصراً على ما حلَّ باليهود على يد النازى، لا يعنى فقط عزلاً لضحايا اليهود عن مجموع ضحايا الحرب العالمية الثانية، والذين بلغوا حسب معظم التقديرات حوالى 60 مليوناً، بل أنه يعطى إحساساً بأن تلك المذبحة لم تكن تخص سوى اليهود فحسب. والواقع أن شعوباً كثيرة قد عانت ويلات حروب سابقة ومجازر هائلة، وتعرَّض ملايين البشر على مدى التاريخ لعمليات إبادة مستمرة لم تنقطع منذ بدء الخليقة، لكن عزل اليهود عن هذه الجموع حتى بالنسبة لضحايا تلك الحرب ذاتها، والتى راح ضحيتها كذلك حوالى ثلاثة ملايين بولندياً، وأكثر من ستة ملايين من “السلاف” الآخرين من غير المقاتلين، إضافة إلى ملايين الضحايا من كافة الشعوب، لا يؤكد سوى مفهوم العرقية والعنصرية.
وجديرٌ بالذكر أن المصادر التاريخية اليهودية تُجمِع على أن فترة الكارثة تعد دون شك أكثر فترات تاريخ الشتات اليهودى مأساة، تلك الكارثة التى تذرع بها اليهود لترسيخ مقولة الاضطهاد الأبدي، مع الحرص على إبراز نغمة أنهم كانوا الضحية الوحيدة للنازي، وهى النغمة التى لايزالون يعزفون عليها حتى اليوم، بالرغم مما يحيط بالموضوع من ملابسات تؤكد عمليات التهويل والمبالغة. وفى هذا السياق، يُذكَر أن الجدل حول طبيعة الاضطهاد النازي لليهود، وحول مسئولية هذا الاضطهاد، والصلات الخفية بين قيادات الصهيونية والنازية – لا يزال يُطرَح إلى الآن فى الدوائر الأكاديمية والصحفية، فقد نشرت جريدة “International Herald Tribune” فى عددها الصادر بتاريخ 13/10/1981 نبأ مفاده أن أحد القضاة الأمريكيين فى لوس أنجلوس رفض الأخذ بالادعاء القائل بأن “الإبادة” لم تقع، ذلك الادعاء الذى أعلنه أحد المعاهد الأمريكية، والذى يضم أحد عشر أستاذاً فى التاريخ. كما نشرت جريدة الدستور الأردنية بتاريخ 8/11/1981 مقالاً عن محاكمة “روبير فوريسون” الباحث الفرنسى بسبب نفيه لكلٍ من وجود غرف الغاز ومذبحة اليهود على يد هتلر، لعدم توافر أى دليل يثبتهما.
واذا كانت الدعاية الصهيونية، فى تعاملها مع هذا الموضوع تركز على عنف ولا إنسانية الممارسات النازية خلال فترة الأحداث، فى وقت لم يكن لليهود القدرة على مواجهتها، فإن نظرة متأنية إلى واقع تلك الأحداث تبيِّن طرفاً من الموافقة الضمنية للرؤساء الأكثر حكمة بين اليهود أنفسهم إزاء الممارسات النازية المعادية لليهود قبل نشوب الحرب العالمية الثانية. فمن ذلك على سبيل المثال أن المجلة اليهودية “روند شاو” التى كانت تصدر فى ألمانيا، قد نشرت النص الكامل لـ “قوانين نورمبرج”، التى صدرت فى 15/9/1939، مع تعليق من “ألفريد برندت” رئيس التحرير المسئول فى مكتب أخبار ألمانيا يذكر فيه أنه قبل أسبوعين فقط من صدور تلك القوانين، قرر كل المتحدثين فى المؤتمر الصهيونى العالمى فى “لوسيرن” أن يهود العالم لابد أن يُنظَر إليهم بشكل صحيح باعتبارهم شعباً منفصلاً فى حد ذاته، وبغض النظر عن مكان معيشتهم، واستطرد قائلاً: “حسبنا إذن أن كل ما فعله هتلر هو تلبية مطالب المؤتمر الصهيونى العالمى بأن جعل اليهود الذين يعيشون فى ألمانيا أقلية قومية”.
وبالإضافة إلى استمرار الصهيونية العالمية فى حملاتها الدعائية القائمة على التهويل فى وصف الممارسات النازية، التى تعرَّض لها اليهود فى أوروبا، يمكن القول أنها قد نجحت كذلك فى إقناع العالم بحقيقة الرقم 6 ملايين، على أنه يشكل عدد ضحايا اليهود خلال تلك الحرب. وبغض النظر عن أن كِبر الرقم أو صِغره لا يقلل بحال من الأحوال من بشاعة الجريمة النازية، إلا أن ملاحظة صعوبة العثور على مصدرين يذكران رقماً واحداً تعد ملحوظة جديرة بالاهتمام. فعلى حين تجمع دوائر المعارف اليهودية على أن عمليات إبادة اليهود على يد النازى قد تسببت فى موت 5.820.960 يهودياً، إلا أنه من الجلي أن التجمعات السكنية الفقيرة والمزدحمة التى كان يُفرَض على اليهود السكن فيها قد أسفرت عن المزيد من الضحايا، في ضوء النقص الحاد فى الخدمات الطبية والمواد الغذائية، الأمر الذى نتج عنه بالطبع هلاك أعداد كبيرة من هؤلاء اليهود.
والواقع – كما ذُكِر سلفاً – أن المجتمع الصهيونى قد جلد نفسه بسياط الكارثة بكثرة حديثه المُسهِب عن أهوالها والفظائع التى تعرَّض لها يهود الشتات، والأعداد الكبيرة التى راحت ضحية الاعتداء النازى. ولكن تنبغى الإشارة إلى أن القائمين على الدعاية الصهيونية قد لاحظوا مؤخراً أن توجيهاتهم بإبراز أحداث الكارثة قد أتت بنتيجة عكسية على غير ما كان يُرجَى منها، حيث ظهر اتجاه – خاصة بين جيل الشباب اليهودى – برفض تلك النتائج بدلاً من التعاطف معها. وإزاء خشية أن تؤدى أوصاف الكارثة التى تزيد فى مشاعر الخزى والعار حول موقف الطوائف اليهودية الاستسلامى، صدرت مؤخراً تعليمات بإبراز القوة الضخمة للرايخ الثالث، وكيف أنه قد نجح خلال بضعة أشهر فى احتلال معظم الدول الأوروبية.
استفادة الصهيونية من الكارثة:
ويشرح د. الشيخ كيفية استفادة الصهيونية من الكارثة بذكر أن الكثير من الصهاينة ينظر إلى هتلر على أنه عصا التاريخ لسوق اليهود العنيدين مرة أخرى إلى فلسطين. وفى هذا المعنى، يقول “اميل لودفيج” كاتب السير الشعبية اليهودى الشهير، معبراً عن الموقف العام للحركة الصهيونية: “سيطوى النسيان هتلر فى سنوات قليلة، لكن سيكون له تمثال جميل فى فلسطين”. ويضيف متقمصاً دور اليهودى البدائى القديم: “إن وصول النازى كان أمراً مرحباً به، لقد كان الكثيرون من يهودنا الألمان يتذبذبون بين شاطئين، آلاف من الذين بدا أن الصهيونية قد فقدتهم تماماً أعيدوا إلى مكانهم بواسطة هتلر، لذلك فإننى شخصياً ممتن له جدا”.
لا ريب في أن أحداث الكارثة قد مثلت أحد العوامل القوية التى ساعدت فى غرس بذور الصهيونية الأيدويولوجية فى نفوس اليهود المترددين فى الهجرة إلى فلسطين، ومن ناحية أخرى كانت عاملاً حاسماً فى إقناع الدول الغربية بضرورة توطين اليهود فى فلسطين. وإذا كان البعض يرى أن الحدثين الرئيسيين فى تاريخ إسرائيل هما الكارثة ثم إقامة الكيان اليهودى فى فلسطين، فإنه لا يمكن فى الواقع فصل هذين الحدثين أحدهما عن الآخر. وقد كان إعلان قيام الدولة أهم مكاسب الصهيونية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث انتهزت الصهيونية تلك الفرصة لإقناع المجتمع الدولى بأن حل قضية اليهود الذين عانوا الاضطهاد والإبادة على يد النازى، يتمثل فقط فى إيجاد ملجأ لهم على أرض فلسطين.
ومن الأدلة على تمسك الصهاينة بأرض فلسطين، رفض الصهاينة خطة أخرى كانت تهدف إلى توطين اليهود في أستراليا عام 1938. وقد نُشِرَت في مذكرة بلغة “الييديش” تحت عنوان “فرص التوطين اليهودي الجماعي في أستراليا”، وعُرِفت باسم “خطة كيمبرلي”، نسبة إلى منطقة كيمبرلي التي اقتُرِحَت كمقر جديد لليهود. وقد راقت الفكرة لحكومة أستراليا التي كانت تخشي محاولة يابانية لاحتلال أراضيها، وكان رد فعلها إيجابياً تمثل في نشر مقالات فى الصحف الأسترالية، أشِيدَ فيها بالتكامل الناجح بين مشكلة اليهود فى أوروبا والضروريات السياسية والاقتصادية لأستراليا. بيد أن الحرب قد نشبت فى تلك الأثناء، وأُغلِقَت الطرق، وبات من المستحيل تحقيق الفكرة التي رُؤي تأجيلها إلى ما بعد انتهاء الحرب التي لم يكن بمقدور أحد التكهن بموعد أو كيفية انتهائها. ولكن فى نهاية المطاف قُضِى على الفكرة نهائياً في 17 نوفمبر 1944، حيث نشرت الحكومة الأسترالية بياناً رسمياً أعلنت فيه أنها تسحب موافقتها السابقة بإقامة كيان قومي لليهود في كيمبرلي، الأمر الذي أعقبه بيان رسمي من وزارة الإعلام الأسترالية في اليوم التالي، تعلن فيه أن الزعماء الصهيونيين أنفسهم يعارضون فكرة الاستيطان اليهودي في كيمبرلي أو في أي مناطق خارج فلسطين.
وقد كان المؤتمر الذى دعا إليه يهود الولايات المتحدة فى مايو 1942 فى فندق “بلتيمور” بنيويورك أحد البدايات من جانب الصهيونية، حيث ناشدوا فيه الحلفاء مساعدة اليهود، وقد وضع هذا المؤتمر برنامجين رئيسيين للعمل هما:
-
فتح أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية.
-
تحويل فلسطين إلى كومنولث يهودى.
فالكارثة التى حلَّت باليهود في الحرب العالمية الثانية تُعَد واحدة من أكثر العوامل التي شكلت العقلية اليهودية في العصر الحديث، وأصبح إحياء ذكراها وتذكير الأجيال القادمة بها من أهم أركان العقيدة الصهيونية. ولقد استقر في وجدان الصهيونية أن اختيار النازية إبادتهم يرجع في الأساس إلى كونهم لا يملكون وطناً يعيشون فيه، ولذلك فإن واجبهم الأول وهدفهم الأعظم هو السعى لتحقيق هذا الحلم الصهيوني القديم في إقامة الوطن القومي اليهودى، وقد كانت الكارثة هي الأساس الصلب الذي وحَّد الجميع لتحقيق هذا الحلم، وذلك من خلال الصورة المبالغ فيها التي يرسمها الفكر الصهيوني لتلك الأحداث، والتى ركّزت على أن اضطهاد شعوب العالم لليهود حقيقة تاريخية ثابتة، وأن الخلاص لن يكون سوى بسعي اليهود لإقامة وطن قومي خاص بهم.
وفى هذا السياق، بيَّن د./ الشيخ قول البعض أن الإسرائيليين قد أحضروا النازية معهم من أوروبا إلى فلسطين، متمثلة فى التعصب والتفرقة العنصرية والتردد والرعب والخضوع للقوة، وأنهم يجتمعون بها ويُعمِلون فيها القوة والاضطهاد لكيلا تدمرهم وتؤدى بهم إلى الزوال. ومع ذلك، تنبغى الإشارة إلى أن المجتمع الصهيونى قد جلد نفسه بسياط الكارثة بكثرة حديثه المُسهِب عن أهوالها والفظائع التى تعرض لها يهود الشتات، والأعداد الكبيرة التى راحت ضحية الاعتداء النازى. وقد لاحظ القائمون على الدعاية الصهيونية مؤخراً أن توجيهاتهم بإبراز أحداث الكارثة، قد أتت بنتيجة عكسية على غير ما كان يُرجَى منها، حيث ظهر اتجاه – خاصة بين جيل الشباب اليهودى – برفض تلك النتائج بدلاً من التعاطف معها. وإزاء خشية أن تؤدى أوصاف الكارثة التى تزيد فى مشاعر الخزى والعار حول موقف الطوائف اليهودية الاستسلامى، صدرت مؤخراً تعليمات بإبراز القوة الضخمة للرايخ الثالث، وكيف أنه قد نجح خلال بضعة أشهر فى احتلال معظم الدول الأوروبية.
واصل الصهيونيون بعد ذلك حملاتهم الدعائية فى سبيل الحصول على الدعم المادى اللازم لوقوف دولتهم الوليدة على قدميها. وفى هذا الصدد، استغلوا الكارثة لمطالبة العالم بتعويض اليهود عما أصاب ضحاياهم. وكانت ألمانيا الغربية أكثر دول العالم تعرضاً لتلك الضغوطات الصهيونية التى انتهت بتوقيع اتفاقية التعويضات بين حكومة ألمانيا الغربية والحكومة الإسرائيلية فى سبتمبر 1952، حيث نصت تلك الاتفاقية، التى لعبت الولايات المتحدة الامريكية دوراً رئيسياً فى توقيعها، على أن تدفع الحكومة الألمانية لحكومة إسرائيل مبلغ 822 مليون دولار (3500 مليون مارك ألمانى) خلال الفترة من 1953 إلى 1962. ويميل البعض إلى إطلاق مصطلح “مدفوعات الترضية – Reparation Payments” على تلك الأموال تمييزاً لها عن “مدفوعات التعويضات -Restitution payments ” التى قدمتها الحكومة الألمانية، ومازالت تقدمها للأفراد اليهود، تلك التى قُدِّرَت عام 1965 بمبلغ مليار دولار (4 مليار مارك ألمانى) ذهب الجزء الأكبر منها إلى إسرائيل.
هذا، وقد أصبح من الأمور المتعارف عليها فى الأوساط السينمائية العالمية أن مَن يتطلع إلى الفوز بإحدى الجوائز العالمية فى المهرجانات السنيمائية – ما عليه إلا اختيار موضوع يتبنى فيه الدفاع عما يسمى بالقضية اليهودية. وتعد تراجيديا اضطهاد النازى لليهود هى النغمة السائدة منذ سنوات طويلة، ويتم تناولها بكل الأشكال والصيغ الدرامية، حيث تلقى قبولاً واستحساناً من القائمين على تلك الصناعة، لما لها من تأثير دعائى قوى على جماهير الشعوب الأوروبية. وقد اهتمت وسائل الإعلام الدولية كثيراً بفوز فيلم “Au Revoire Les Enfants – وداعاً أيها الأطفال” بجائزة أحسن فيلم فى مهرجان فينسيا عام 1987، والفيلم يتناول قصة طفل يهودى تم اغتياله أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد بلغ عدد الأفلام التى تم إنتاجها منذ أربعينيات القرن الماضي وتتحدث عن هذا الموضوع نحو 200 فيلماً روائياً طويلاً تقريبًا. حتى صفحات الوفيات فى كبرى الصحف العالمية لها دور فى التذكير بالكارثة، ومن ذلك على سبيل المثال النعي الذى نشرته جريدة “Le Monde” الفرنسية الشهيرة فى إحدى يومياتها فى باب الوفيات، ونصّه:
Esther Kaminiaski
Deportee a’ Auschwitz – ناجية من معسكر أوشفيتز
ونعيٌ آخر فى نفس الجريدة، نصّه:
Mr. Herman Rafowicz
Ancient Deportee a’ Auschwitz – أحد الناجين القدماء من معسكر أوشفيتز
إذا كانت الصهيونية تخشى خطر زوال تأثير الكارثة على الرأى العام العالمى عامة، والغربى على وجه الخصوص، فإن مجهودها يبدو أقوى وأعنف فى إلحاحها الدائم على إبقاء الوعى العام لليهود فى حالة من التذكر الدائم، كعامل هام لاستقطاب مشاعرهم الوطنية وغرس مفهوم العنف، خاصة فى نفوس أجيال الشباب التى لم تعاصر تلك الأحداث. وتبذل الدعاية الصهيونية قصارى جهدها لربط هذا المفهوم بالعقيدة الصهيونية وجعله ركناً أساسياً من أركانها. وتوضح المادة الموسوعية المسهبة عن الكارثة فى دوائر المعارف اليهودية حجم ذلك الموضوع فى حياة اليهود، وكذلك احتفالات إسرائيل السنوية بذكرى الكارثة، وما يصاحب تلك الاحتفالات من أنشطة حزينة ترسيخاً للحادثة فى الأذهان. وهناك أيضاً التوجيهات الرسمية التى تقدمها مؤسسة “يادفا شيم” بالاشتراك مع وزارة التعليم الإسرائيلية بجعل فصل الكارثة أحد الموضوعات الهامة التى يتلقاها التلاميذ فى المدارس الإسرائيلية، إلى جانب المجهودات التى تقوم بها تلك المؤسسة لجمع كافة الوثائق والقضايا المرتبطة بالموضوع، كجزء لا يتجزأ من مجهودات الصهيونية فى هذا المجال.
بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من الكتب والمؤلفات التى تحوى إرشادات أو مبادئ متطرفة تمثل فى مجملها تنبيهات وتوصيات مقدسة بحكم الشخصيات الصادرة عنها، منها على سبيل المثال كتاب “شريعة الملك” للحاخامَيْن المتطرفَيْن إسحاق شابيرا ويوسيف اليتسيور اللذَيْن يمثلان أحد المدارس الحاضنة والراعية للفكر والسلوك اليهودي المتطرف، والداعين بوضوح إلى قتل وإبادة الشعب العربي الفلسطيني والتحريض على ذلك بشكل سافر، حيث يتناول الكتاب:
– لا يجب تصديق الأغيار في شيء.
– إنقاذ يهودي أهم من استقرار العالم.
– حياة الأغيار لا تساوي شيئاً.
– الأجنبي مباح لإسرائيل.
– كل مَن لا يقبل الالتزام بالوصايا السبع، يجوز السيطرة عليه واستغلاله لمصلحة اليهود.
– لا داعي للتدقيق؛ فمَن ساعد على أذى إسرائيل ومَن لم يساعد… فالقتل أولاً.
– مَن يسرق أرض إسرائيل يستحق القتل (وحسب المؤلفين يعتبر الفلسطيني هو الذي سرق أرض إسرائيل).
– قتل الرضع لئلا يكبروا، ويصبحوا أشراراً.
– قتل المدينة أو الدولة التي ساهم أفرادها في إلحاق الأذى بإسرائيل.
– جواز قتل كل الشهود على قتل إسرائيل للأغيار.
هذا، وتنبغى الإشارة إلى أنه إذا كانت الدعاية الصهيونية تبذل قصارى جهدها لترسيخ مفهوم الاضطهاد الأبدى فى وجدان اليهود مُمثِلة له بأحداث الكارثة، وذلك فى محاولة لتقوية العقيدة الصهيونية فى حربها مع الفلسطينيين، فإن على القيادات الصهيونية أن تعى أن خوفهم من مذابح الأمس لا يعطيهم الحق فى أن يرتكبوا مذابح اليوم، وأن الفلسطينيين لا يجب أن يتحملوا نتائج تاريخ ليسوا هم من صانعيه، لأن ذلك يعنى أن تحرر الإسرائيليين من الخوف لا يعنى سوى إبادة الشعب الفلسطينى بأجمعه، وأنه مباح للضحية الفلسطينية أن تقتل قاتلها وفقاً لهذا التشريع الإسرائيلي. وفي هذا السياق، يجب العمل على تصوير حجم الكارثة الفعلية التى يتعرَّض لها الشعب الفلسطينى، وعرضها على الرأى العام العالمى للتعرف على مدى الفظائع التى يرتكبها “اليهود النازيون” الذين لا يزالون يشكون ظلم الممارسات النازية التى تعرَّضوا لها من قبل، مع الحرص على أن يدفع ذلك إلى تحرك موازٍ لاسترداد حقوق الشعب الفلسطينى المشروعة فى أرضه وموارده.