طوال العقود الأربعة الأخيرة وأنا أتابع ما يجرى فى أفغانستان.. بدأ اهتمامى بهذا البلد منذ كنت سفيرًا فى باكستان جارة أفغانستان لمدة عام من صيف 1979 إلى صيف 1980.
جاء وصولى لباكستان فى وقتٍ كانت فيه جارتاها فى الغرب أفغانستان وإيران تمران بظروف سياسية جديدة فى تاريخ كل منهما، فقد قامت ثورة إسلامية فى إيران وانقلاب شيوعى فى أفغانستان.. وبينما استقر الحكم لنظام الثورة الإسلامية فى إيران، لم تستقر الأحوال فى أفغانستان، بل أصبحت مسرحا لصراع الدول الكبرى، وعلى وجه الخصوص الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى الذى ارتكب حماقته الكبرى بغزو أفغانستان بقوات الجيش الأحمر يوم 24 ديسمبر 1979.
كان دخول القوات السوفيتية الغازية هو الحدث الذى تلقفته الولايات المتحدة فى عهد الرئيس كارتر، وكان مستشار الأمن القومى آنذاك هو المفكر الاستراتيجى زبيجو برجنسكى، الذى اعتبر أن الغزو السوفيتى يقدم فرصة للولايات المتحدة لتدفع فى أن تصبح أفغانستان هى المستنقع الذى يغرق فيه الاتحاد السوفيتى مثلما كانت فيتنام هى المستنقع الذى غرقت فيه الولايات المتحدة.
ليس واضحا بالضبط الأسباب التى جعلت الاتحاد السوفيتى يتخذ قرارا بغزو أفغانستان، رغم ما كان معروفا عن تاريخ هذا البلد مع الإمبراطوريات الكبرى التى لم تنجح أى منها فى احتلال أفغانستان، بدءا من الإسكندر المقدونى إلى بريطانيا العظمى وهى فى ذروة قوتها كدولة استعمارية.
أعتقد أنه مزيج من أخطاء فى الحسابات الاستراتيجية، وحالة الضعف التى أصابت الاتحاد السوفيتى بدءًا من عصر برجنيف.. وتلك هى الحالة التى لاحظها الرئيس السادات من خلال زياراته لموسكو قبل حرب أكتوبر، واجتماعاته مع قادة الكرملين، وحالة «التخشب» وتصلب الشرايين التى أصابت النظام السوفيتى فى أواخر عهده.
.. وتظل صورة برجنسكى ماثلة فى ذهنى وهو واقف على مشارف ممر خيبر فى الجانب الباكستانى ممسكًا ببندقية كلاشينكوف ويصوبها تجاه أفغانستان ويطلق صيحته المشهورة: «هذا هو طريقكم»، أى طريق المقاومة الأفغانية للغزو السوفيتى… تم تنظيم وتسليح جماعات «المجاهدين» من الأفغان وغير الأفغان الذين توافدوا على بشاور الباكستانية فى الطريق إلى معسكرات التدريب التى أعدتها الولايات المتحدة بمساعدة باكستان فى بشاور.
أصبح «الجهاد» فى أفغانستان هو الصيحة التى انطلقت فى أوساط الشباب فى مختلف بقاع العالم الإسلامى… جاءوا تلبية لنداء «الجهاد» ضد السوفيت، وكان من بينهم أسامة بن لادن وأتباعه.. ونجحت جماعات «المجاهدين»، حسبما كانوا يسمون، بدعم أمريكى فى الإيقاع بالاتحاد السوفيتى، وكان من أهم الأسلحة التى زودتهم بها الولايات «صاروخ ستنجر» الذى كان يوضع على الكتف، ويطلق على طائرات الهيلكوبتر السوفيتية التى تتهاوى وسط صيحات «الله أكبر»…
انتهى «الجهاد» فى أفغانستان إلى نتيجتين رئيسيتين: أولاهما ما خطط له برجنسكى، أى انهيار الاتحاد السوفيتى وتفككه واختفاؤه من الوجود كقوة أكبر super power… أما الأخرى فكانت نشوء حركات الإسلام السياسى المسلحة التى كانت بدايتها فى القاعدة.. ثم جاءت حركة طالبان التى أنشأها الملا عمر ولعبت باكستان دورا مهما فى إنشائها.
ثم جاءت أحداث الحادى عشر من سبتمبر لتشكل محطة جديدة فى البركان الذى تفجر بالغزو السوفيتى.. وتزامنت هذه الأحداث مع مجىء جورج بوش الصغير رئيسا للولايات المتحدة، وكان يختلف تماما عن أبيه جورج بوش الكبير الذى كان سياسيا محنكا وخبيرا بما يجرى فى العالم.
وقع جورج بوش الصغير أسيرًا لمجموعة المحافظين الجدد بقيادة نائب الرئيس تشينى، ووزير الدفاع رامسفيلد وولفوتز وكيل الدفاع والعقل المفكر لهذه المجموعة التى عملت على الزج بأمريكا فى حربين كانتا كارثيتين على أمريكا: حرب أفغانستان التى بدأت عام 2001 وانتهت بعد عشرين عاما.. وحرب العراق عام 2003.. وذلك بحجة القضاء على الإرهاب فى أفغانستان وعلى أسلحة الدمار الشامل فى العراق.
كانت الحرب على العراق مبنية على أكاذيب وتلفيقات، وانتهت بأن أصبحت العراق تحت الهيمنة الإيرانية.. أما الحرب على أفغانستان التى بدأت عام 2001 فقد انتهت إلى تسليم أفغانستان إلى طالبان فى أغسطس 2021 كما نرى اليوم.
هذه الأعوام الأربعون التى شهدتها كواحد من أبناء هذا الجيل لم تكن نهايتها الكارثية بالضحايا فى الأرواح بالآلاف وفى النفقات بتريليونات الدولارات.. ولكن أيضا وربما الأخطر أنها انتهت بإفراز هذه التنظيمات من أمثال طالبان وداعش وغيرهما ومَن على شاكلتهما..
ونشهد اليوم فصلا ختاميا لحرب أفغانستان، بدءا بتوقيع اتفاق الدوحة بين زلماى خليل زادة عن أمريكا مع قادة طالبان.. والذى كان فى الواقع اتفاقا سلمت فيه أمريكا، أفغانستان، لطالبان، وانسحبت تاركة وراءها هذا العدد الهائل من العتاد.. والأهم الفراغ الاستراتيجى الذى تركته.. وأعتقد أنها أيضا فقدت مركزها كقوة أعظم فى العالم super power.
كانت هذه الأعوام ما بين 1979 و2021 هى الأعوام نفسها التى شهدت بزوغ الصين.. جاء سكرتير عام جديد للحزب الشيوعى فى أواخر السبعينيات ليبنى الصين كقوة اقتصادية… وفى سبيل ذلك نأت الصين عن سياسات «ماو» والانشغال بدعم حركات التحرير فى العالم، واتفقت مع بريطانيا على استعادة هونج كونج من خلال المفاوضات… ولا أستبعد أن تنتهى الصين إلى حل مشكلة تايوان مستقبلا بالاتفاق أيضًا.
إن الحديث عن النظام الدولى ينبغى أن يمتد إلى المستقبل، وكيف يمكن استخلاص الدروس والعِبر مما جرى طوال الأربعين عاما الماضية.
ألا يجدر بنا أن نتوقف لنستمع مرة أخرى إلى تحذير الرئيس أيزنهاور فى نهاية فترة حكمه عام 1960 حول أخطار تحالف صناعة السلاح مع صناعة المال والسياسة؟!.
نحن أمام لحظة فى مسيرة النظام الدولى تتطلب منا أن ندرس كيف ي مكن للنظام الدولى الجماعى، بل الدول فرادى، العمل على إيقاف مسلسل الدمار والحروب، ويتنبهون إلى الأخطار الوجودية التى تهدد كوكب الأرض.. فيما نرى اليوم من يدعو إلى حرب جديدة فى الشرق الأوسط!..
هل يمكن مثلا لمجموعة الدول غير المنحازة أن تتحرك مثلما فعلت فى أول مؤتمر قمة لها فى بلجراد من أجل ألا ينزلق العالم إلى حرب انتشار أزمة برلين عام 1961؟!..
هل يمكن أن يكون الاحتفال الذى جرى أمس فى ثلاث مدن أمريكية بذكرى الحادى عشر من سبتمبر وما أحدثه من دمار وخراب يصب أيضا فى إنقاذ العالم – كل العالم – من أجل نظام دولى ينأى عن الحروب والدمار الذى شهدناه طوال العقود الماضية؟!..
هل يمكن اعتبار صعود الصين نحو ذروة النظام الدولى بارقة أمل فتكون الحكمة قادمة من الشرق؟!..
أرجو ذلك.. وللحديث بقية..
نشر المقال بجريدة المصري اليوم بتاريخ 17 سبتمبر 2021و رابط:
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2418915