فى ندوة بالمجلس حول “تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية فى مصر 2021”
أكتوبر 26, 2021توازن القوي في الشرق الأوسط
نوفمبر 1, 2021
السفير محمد عبد المنعم الشاذلي
نشرت صحيفة وول ستريت جورنال العريقة سلسلة مقالات فى شهر سبتمبر الماضى تضمنت تسريبات لوثائق خاصة بشركة فيس بوك تتناول سياساتها التى تضع الربح مقدما على مصلحة المجتمع واستقراره. وظلت الشركة العملاقة تبحث عن مصدر التسريب دون جدوى طوال شهر كامل إلى أن تقدمت فى أوائل شهر أكتوبر الشابة الشقراء ذات السبعة والثلاثين عاما Francis Haugen إلى برنامج «ستون دقيقة Sixty Minutes» الذى تقدمه شبكة CBS الأمريكية الذى يعد أكثر البرامج الحوارية مشاهدة فى الولايات المتحدة واعترفت بأنها مصدر التسريبات لمعلومات حصلت عليها من خلال وثائق أتاح لها عملها الاطلاع عليها.
والسيدة هاوجن امرأة نابهة وهى مهندسة كمبيوتر وحاصلة على الماجستير فى إدارة الأعمال من جامعة هارفارد بدأت عملها فى عام 2006 فى منطقة Silicon Valley حيث تتمركز صناعات الكمبيوتر فى الولايات المتحدة ونظرا لكفاءتها وتميزها التقطتها شركة Facebook لتعمل بها فى عام 2018 والتحقت بفرقة الأخلاقيات المدنية Civic Integrity لوضع ضوابط أخلاقية لمنع إساءة استخدام البيانات المتوافرة للشركة. وتقول السيدة هاوجن أنها بدأت تشعر بعدم الارتياح عندما ألغت الشركة الفريق عقب الانتخابات الرئاسية عام 2020 بعد أن اكتشفت مخالفات جسيمة تتعلق بترويج معلومات مغلوطة للناخبين والناخبات أثرت على نتيجة الانتخابات، وتأكدت شكوكها بعد واقعة اقتحام مبنى الكونجرس بواسطة أنصار ترامب ودور فيس بوك فى حشدهم فاستقالت فى شهر مايو الماضى. إلا أنها لم تكتفِ بالاستقالة وإنما قررت أن تفضح ممارسات الشركة التى فضلت تعظيم أرباحها على حساب الصالح العام وكان من أكثر الأمور التى استفزتها الفضيحة التى عرفت باسم Cambridge Analytical Scandal التى تم خلالها نقل معلومات خاصة لمستخدمى ومستخدمات فيسبوك إلى شركات ومراكز أبحاث وبفضل سطوة الشركة المالية استطاعت أن تدفن الفضيحة.
ثم كانت القشة التى قصمت ظهر البعير عندما قرر موقع Instagram التابع للشركة تدشين موقع للأطفال دون سن الثالثة عشر Instagram Kid وتحدثت عن الأثر المدمر لتعريض الأطفال لوسائل التواصل فيعانى الأقل حظا منهم من تباهى وتفاخر بجمالهم وما يملكون من وسائل ترف مما يؤدى إلى اضطرابات نفسية وصلت إلى درجة الانتحار بين الأطفال.
ثم كيف تجرؤ مهندسة كمبيوتر تعمل موظفة فى شركة على التصادم مع عملاق اقتصادى مثل شركة فيس بوك؟
الشركة أسسها فى عام 2004 مارك زوكربرج الذى كان وقتها لا يتجاوز عمره عشرين سنة. بدأ مشروعه من غرفته فى جامعة هارفارد لخدمة طلبة الجامعة وفى عام 2012 أطلق خدمة الشركة للجمهور بشكل عام ووصل مستخدميها ومستخدماتها إلى بليون مستخدم ومستخدمة ازدادوا اليوم إلى نحو ثلاثة بلايين. وقد استحوذت الشركة على موقع انستجرام فى عام 2012 مقابل بليون دولار ثم على موقع Whats App فى عام 2014 مقابل 16 بليون دولار وتضخمت ثروة زوكربرج وصارت تقدر بـ155 بليون دولار وضعته فى المركز الخامس بين أثرياء العالم. عملاق متوحش على الساحة الاقتصادية كيف جرؤت السيدة هاوجن على مجرد التفكير فى تحديه؟!.
لقد اعتمدت على قانون حماية نافخ الصافرة الفيدرالى Whistle Blower Protection Federal Law الصادر عام 1989 الذى يوفر الحماية لمن يبلغ عن جرائم سوء الإدارة الجسيمة وتبديد الأموال وإساءة استخدام السلطة وتهديد الصحة والسلامة العامة. وساعدها فى حملتها فى شقها القانونى المحاميJohn Tyne مؤسس مركزAid Whistle Blower غير الساعى للربح كما أجرت اتصالاتها السياسية العابرة للأحزاب مع السيناتور الديمقراطى Richard Blumenthal والسيناتورة الجمهورية Marsha Blackburn وتحقق لها من خلال السناتور بلومنثال جلسة استماع فى مجلس الشيوخ.
كيف ستنتهى المواجهة بين العملاق جالوت المدجج بأعتى الأسلحة والمحصن بأقوى الدروع وبين الصبى داود الذى لا يحمل إلا مقلاعه الصغير؟
أعترف بأننى غير مهتم بنتيجة المعركة على الساحة الأمريكية وينصب اهتمامى على التساؤل هل أيقظت الصافرة التى انطلقت فى الولايات المتحدة العاملون فى مصر؟ وهل وعينا للخطر المحدق بنا؟ وهل تنبهنا إلى خطورة هذه الإمبراطورية على حياتنا بقدرتها على اختراق بيوتنا بيتا بيتا، والوصول إلى عقول شبابنا وأطفالنا فردا فردا، وتشكيل فكرهم وقيمهم، إلى جانب قدرتها على تجميع كل المعلومات عنا؛ رغباتنا وأمنياتنا واتصالاتنا؟!
ولعل من المثير للقلق أكثر أنه بسبب نجاحها راجت فكرة فيس بوك التى رفعت شابا لم يتجاوز العشرين من عمره إلى طبقة البليونيرات فى زمن قياسى وستشجع غيره من الشباب على السير على خطاه ليكون الافتئات على خصوصيات الناس تجارة رائجة وحتى من الناحية السياسية وفى إطار التنافس بين الولايات المتحدة والصين. فلقد سارعت الأخيرة فى اللحاق بركب الولايات المتحدة فى مجال التواصل الاجتماعى فتشكلت شركة Byte Dance فى عام 2016 والتى أطلقت موقع TikTok الذى حقق نجاحا هائلا مكنها من الدخول إلى السوق الأمريكى، وبرر الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب سماحه لها بدخول السوق الأمريكى بأنها خلقت خمسة وعشرين ألف فرصة عمل جديدة.
لقد جاهدت مصر ودول العالم الثالث للتخلص من استعمار الأرض وعلينا أن نجاهد الآن ضد استعمار العقول والوجدان عن طريق الفضاء السيبرانى، فإن استمرار الحضارة وتواصلها تكون عن طريق تراكم المعتقد والتقاليد المنقولة من جيل إلى جيل مع تطويرها بما يناسب العصر يهددها اليوم طوفان من الغيث الذى لا ينفع فى أى عصر.
لقد نبهت صافرة السيدة هاوجن مجلس الشيوخ الأمريكى ووصل صداها إلى الاتحاد الأوروبى الذى دعاها للتحدث أمام المفوضية الأوروبية كما تلقت دعوة من البرلمان البريطانى ومن فرنسا الذين أدركوا جسامة التحدى. فهل سمعت الصافرة فى مصر؟ وأرجو فى هذا الصدد أن تكون الصافرة دافعا لتشكيل جبهة عربية إفريقية إسلامية موحدة لمواجهة هذه الكيانات العملاقة التى أكاد أجزم أنها ستتضاعف بتشكيل شركات جديدة فى الصين والهند وروسيا وأوروبا واليابان تكسح القيم والأخلاق والتقاليد والخصوصية.
وختاما أزكى وأؤيد ما طرحه السفير القدير والمفكر المستنير محمد بدرالدين زايد منذ أيام على صفحات «المصرى اليوم» بإدارة دولية مشتركة لوسائل التواصل الاجتماعى.
نشر المقال بجريدة الشروق بتاريخ 26 أكتوبر 2021 و رابط: