تختلف الأزمة الأوكرانية عن كثير من الأزمات الدولية السابقة التى تركت آثارها على مصر فى أن هذه الأزمة سوف تتطلب منا فى بعض الأحيان أن نتبنى مواقف حاسمة وواضحة وضوح الأبيض والأسود، وليس المنطقة الرمادية أو المسك المريح للعصا من المنتصف. كما تتسم هذه الازمة بأن مصر لها علاقة قوية بأطرافها الرئيسية وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى من ناحية وروسيا من ناحية أخرى، ومن ثم فإن أى موقف تتخذه مصر سوف يؤثر بالتأكيد على هذه العلاقات.
فى هذا الإطار يجب أن تكون المصلحة الوطنية المصرية هى المرشد لنا فى تبنى هذه المواقف. ولكن ما معنى المصلحة الوطنية؟ كتبت منذ حوالى أربعة أعوام بـ«المصرى اليوم» وتحت عنوان «الخجل من مصلحة مصر» أن مَن تُتاح له فرصة قراءة كتاب عن نظريات العلاقات الدولية سوف يجد أن مفهوم المصلحة الوطنية أو National Interest يقع فى قلب هذه النظريات، خاصة النظرية الواقعية، التى تنظر للعالم كما هو وليس كما ينبغى أن يكون. المفهوم يعنى ببساطة أن مصلحة الدولة وشعبها يجب أن تحتل الأولوية فى السياسة الخارجية، وضرورة أن يأتى ذلك قبل أى اعتبار آخر يتعلق بروابط تاريخية أو أيديولوجية أو عاطفية، وسنجد العبارة الشهيرة التالية تتردد كثيرًا: «فى العلاقات الدولية لا يوجد أصدقاء دائمون، ولكن توجد مصالح دائمة».
وبالرغم من الإحساس العميق لدى غالبية المصريين بالانتماء والوطنية المصرية، فإن بعض المصريين يختلط عليهم تقدير المصلحة الوطنية المصرية، وخاصة فى أوقات الأزمات الدولية، وكثيرًا ما تتغلب المشاعر الوجدانية على الحسابات العقلية الرشيدة فى تقدير هذه المصلحة. يضاف لذلك أن مفهوم المصلحة الوطنية ما زال خجولًا فى خطابنا الدبلوماسى،
.. ويكاد يكون غائبًا لدى قطاع كبير من نخبتنا الإعلامية والثقافية، وبعض هذه النخبة يشعر بارتباك ويجد نفسه فى حالة دفاع عن النفس عندما يستدعى مفهوم المصلحة المصرية لشرح أو تفسير أحد قرارات السياسة الخارجية.
نعود للأزمة الأوكرانية وكيفية تقدير المصلحة الوطنية المصرية بشأنها. وهنا لابد من توضيح طبيعة علاقتنا بالأطراف الرئيسية للأزمة، ومدى مسؤولية كل منهم عن اندلاع الأزمة وتصاعدها، وحجم الضرر الواقع على مصر نتيجة لها.
ونبدأ بروسيا، فبالرغم من تعاطف البعض مع روسيا بشأن مخاوفها الأمنية من اتساع حلف شمال الأطلنطى فى حالة انضمام أوكرانيا للحلف، وبالرغم من أن روسيا أصبحت شريكًا استراتيجيًّا لمصر فى العديد من المجالات أبرزها المنطقة الصناعية الروسية بشرق بورسعيد ومشروع الضبعة النووى، بالإضافة للتدفقات السياحية والتبادلات التجارية، فإنه لا يمكن إغفال أن روسيا هى التى قامت بالعمل العسكرى فى أوكرانيا، وهو من حيث المبدأ اعتداء على سيادة دولة مستقلة يخالف قواعد القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة، وبغض النظر عن تقدير الرئيس بوتين للخطر المحتمل أو الحقيقى لانضمام أوكرانيا لحلف «الناتو» فهو فى النهاية خطر يرتبط بالحسابات والمصالح الروسية دون سواها.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فهناك أيضًا العلاقات العميقة التى تمتد منذ أواخر السبعينيات، وتشمل جوانب استراتيجية واقتصادية وغيرها. وبالرغم من انتهاء لحظة القطبية الأحادية، فإن الولايات المتحدة لا تزال أكبر اقتصاد وأكبر قوة عسكرية فى العالم، ومن الواضح أنها تستعيد نفوذها السياسى كما ظهر فى تصويت الجمعية العامة بشأن الأزمة الأوكرانية. والواقع أن الموقف الأمريكى من الأزمة الأوكرانية تجنب استخدام القوة العسكرية كما حدث فى أزمات سابقة مثل العراق، وبالتالى وفر على نفسه الانتقادات المرتبطة بذلك، وقرر تبنى نهج العقوبات الاقتصادية، والتى تجاوز تأثيرها روسيا، ليمتد للدول المتعاملة معها، ومنها مصر.
هناك أيضًا الاتحاد الأوروبى، وهو الشريك التجارى الأول لمصر، بالإضافة إلى العلاقات الثنائية القوية مع العديد من دوله مثل ألمانيا وارتباط مصر الاستراتيجى بمنطقة شرق المتوسط ذات الامتدادات الأوروبية. وترى دول الاتحاد الأوروبى أن أزمة أوكرانيا هى قضية أوروبية بالأساس، وتمثل تهديدًا خطيرًا للأمن الأوروبى، ومن ثم تولى الاتحاد الأوروبى القيادة فيما يتعلق بفرض العقوبات على روسيا، وبإجراءات أسبق وأشمل مما تبنته الولايات المتحدة.
بالإضافة لذلك فإن كلًّا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى ينظران إلى هذه اللحظة التاريخية على أنها لحظة الحقيقة التى سوف يظهر فيها مدى وقوف أصدقائهما وحلفائهما معهما، وسوف تتعامل القوتان معهم فى المستقبل بناء على ذلك، بما فى ذلك تقديم مساعدات ثنائية أو من خلال المنظمات الدولية لمساعدة الدول المتضررة من آثار العقوبات على روسيا.
وختامًا، ودون التوصية بتوجهات محددة للسياسة الخارجية المصرية، يمكن القول إن تبنى مفهوم المصلحة الوطنية فى التعامل مع الأزمة الأوكرانية لا يعنى بالضرورة خسارة طرف للأبد لمصلحة طرف آخر، فالسياسة الدولية متغيرة، ومصر دولة إقليمية مهمة، وستسعى القوى الكبرى دائمًا لبناء شراكات معها. ولكن من المهم ألا نخجل من تبنى مفهوم المصلحة الوطنية، وأن تدرك النخبة المصرية حساباته وتوضحه للرأى العام، وتساند الدولة المصرية عندما تبنى سياساتها عليه.
نشر المقال بجريدة المصري اليوم بتاريخ 7 مارس2022،ورابط:
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2542236