مشاركة السفير د./ عزت سعد مدير المجلس فى القمة الثالثة عشرة للتعاون الاقتصادي بين الدول الإسلامية وروسيا والاجتماع الرسمي لمجموعة الرؤية الاستراتيجية
مايو 19, 2022ندوة حول كتاب السيد وزير الخارجية السابق/ نبيل فهمي “فى قلب الأحداث.. الدبلوماسية المصرية فى الحرب والسلام وسنوات التغيير”
مايو 25, 2022(ورقة مقدمة من د. عزت سعد مدير المجلس المصري للشئون الخارجية)
للاجتماع الرسمي لمجموعة الرؤية الاستراتيجية – “روسيا /العالم الإسلامي” كازان 20 مايو2022
أود أولاً أن أعرب عن عميق شكري وامتناني لفخامة السيد رئيس جمهورية تتارستان رستم مينيخانوف رئيس مجموعة الرؤية الاستراتيجية، وفخامة السيد رئيس الجمهورية السابق منتيمير شيمييف المؤسس المشارك لهذه المجموعة، والدكتور فريد محمدتشن نائب رئيس المجموعة على الدعوة الكريمة للمشاركة، وعلى الحفاوة وحسن الاستقبال الذي نحظى به دائماً في كازان، وأينما حللنا في روسيا الاتحادية.
كما أود أن أهنئ مسلمي روسيا بمناسبة مرور أحد عشر قرناً على دخول الإسلام هذا البلد.
وتحية خاصة أقدمها للجنة المنظمة لهذا الاجتماع على حسن اختيار موضوعه لهذا العام: “التنوع الاثني والثقافي والوئام القومي والديني هي ضمانة لتعزيز الهوية الوطنية المشتركة: التجربة الروسية”.
إذ يحييء اجتماعنا هذا في توقيت بالغ الدقة والحساسية، حيث يجري تقسيم العالم إلى “أمم متحضرة” وأخرى “غير متحضرة” ودول “ديمقراطية” وأخرى “سلطوية”، حسبما جاء في التغطية الإعلامية الغربية – القبيحة والهستيرية المتعالية – لما يجري في أوكرانيا، حيث ألقي الغرب عرض الحائط بالعديد من ثوابت وقواعد العلاقات الدبلوماسية وما جري عليه العمل في العلاقات الدولية المعاصرة وأصول التعامل فيما بين الدول ذات السيادة المتساوية.
إن هذا الحماس والدعم العسكري غير المحدود، وكل أشكال الدعم الأخرى المقدمة إلى أوكرانيا، بما في ذلك تدفق المرتزقة والمقاتلين الأجانب وميليشيات اليمين المتطرف حول العالم إلى هذه الدولة، يظل موقفاً شاذاً، خاصة وأنه في ظروف وأزمات دولية كثيرة وجدنا مواقف غربية معاكسة تماماً. بل إن الغرب هو من ساهم في خلق أزمات وصراعات كثيرة ترتب عليها ملايين الضحايا والكوارث الإنسانية دون أن يحرك ساكناً. وتكفي الإشارة هنا إلى غزو العراق عام 2003 وحرب الناتو في ليبيا عام 2011، والدعم الأمريكي غير المحدود للاستعمار الاستيطاني العنصري لدولة إسرائيل لفلسطين المحتلة.
السيدات والسادة
أعود إلى التجربة الروسية في مجال الحفاظ على التنوع الاثني والثقافي والديني، فهي تجربة ثرية وملهمة وذات خصوصية. لقد عرّف “الإعلان العالمي بشأن التنوع الثقافي” الصادر عن الأمم المتحدة في 2 نوفمبر 2001 ([1])، الثقافة بأنها: “مجمل السمات المميزة، الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي يتصف بها مجتمع أو مجموعة اجتماعية، وتشمل، إلى جانب الفنون والآداب، طرائق الحياة وأساليب العيش معا، ونظم القيم، والتقاليد، والمعتقدات.
وتحتل الثقافة مكان الصدارة في المناقشات المعاصرة بشأن الهوية والتماسك الاجتماعي وتنمية اقتصاد قائم على المعرفة. ويؤكد الإعلان على: “أن احترام تنوع الثقافات والتسامح، والحوار، والتعاون، في جو من الثقة والتفاهم، هو خير ضمان لتحقيق السلام والأمن الدوليين”.
وقد وافق 2 نوفمبر 2021، مرور 300 عام على إعلان بطرس الأول نفسه إمبراطوراً لروسيا. ووفقاً لبعض الخبراء الروس([2]) دخل مفهوم “الأمة” اللغة الروسية، حيث استخدم كمرادف – تقريباً – للإمبراطورية، بمعني تحديد للنظام السياسي السيادي لروسيا. ووفقاً لهذا البعض لم يستخدم أول مقال روسي غير رسمي حول القانون الدولي، نشره نائب المستشار “بيوتر بافلوفيتش شافيروف” عام 1717، مفهوم “الأمة”، وإنما استخدم مفهوم “الشعوب السياسية” والذي ظهر على أنه “أمم متحضرة” في الترجمة الإنجليزية لكتابه الذي نشر عام 1722.
وكان إعلان روسيا إمبراطورية بمثابة تحدياً لأوروبا، حيث استغرق الأمر عقوداً حتى حصلت روسيا على الاعتراف بوضعيتها هذه. ففي الخطاب الأوروبي حول روسيا، كانت هناك دائماً إشارات إلى “دونية روسيا” التي تفتقر إلى أي شيء، في كل وقت، يجعل منها دولة أوروبية طبيعية، أو بالأحرى “أمة متحضرة”. كذلك كان ينظر إلى روسيا – في عهد بطرس في أوروبا – على أنها “بربرية”، وسط نوع من اليأس وربما التسليم بالأمر الواقع من قبل النخب الروسية. ومع الوقت تم حل مسألة مكانة روسيا كجزء من أوروبا أو كجار لها بطرق مختلفة في القرن التاسع عشر. واليوم، أصبحت هذه المسألة ذات الصلة مرة أخرى، ولكن في ظروف تبدو فيها أوروبا ذات أهمية مختلفة تماماً في الشئون العالمية بالمقارنة بعهد بطرس الأول.
ومن المهم الإشارة أنه في تلك الفترة، وبعد الثورة الفرنسية والحديث عن الحريات السياسية وحقوق الإنسان وغيرها من المفاهيم النبيلة، استمرت القوي الأوروبية في سياساتها الاستعمارية العنصرية القائمة على نهب ثروات الشعوب في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، مؤكدة على أنها في مهمة مقدسة من جانب العالم المتحضر لنشر الحضارة خارج أوروبا. بل أنه في داخل أوروبا ذاتها سادت الطبقية في أبشع صورها بل والعنصرية، ولم تتطور الأوضاع للأفضل إلا خلال القرن التاسع عشر، حيث بات ينظر إلى عامة الناس على أنهم جزء من “الأمة”.
واليوم تعيش روسيا على أنقاض إمبراطوريتين – الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتي المنهار. وقد ورث الروس، كركائز لهويتهم الاجتماعية، رغبة لا تلين في الحفاظ على سيادة الدولة ووضعيتها كقوة كبري([3]).
وتتناول هذه الورقة تجربة روسيا في الحفاظ على تنوعها العرقي والثقافي ووئامها القومي والديني كضمانة لتعزيز الهوية الوطنية (أولاً)، ثم مكانة الإسلام في روسيا (ثانياً)، وأخيراً انعكاسات هذا التنوع العرقي والثقافي والوئام القومي والديني في روسيا على سياستها الخارجية (ثالثاً).
أولاً: تجربة روسيا في الحفاظ على تنوعها العرقي والثقافي ووئامها القوم والديني، كضمانة لتعزيز الهوية الوطنية:
تشير بعض الدراسات الدولية البحثية الغربية الحديثة([4])، إلي أنه فيما يتعلق بالهوية الوطنية في روسيا المعاصرة، هناك ثلاثة مواضيع أساسية للرؤي السائدة للامة الروسية هي:
-
التأثير الواسع النطاق للموروثات السوفيتية في المفاهيم المعاصرة للمواطنة والقومية والوطنية والتعددية الثقافية والتكامل.
-
انتشار الخطابات التي تؤكد على الاستقرار والوحدة وتجنب الروايات المتصارعة، على مستوي النخبة والجماهير على السواء، وهو ما يتناقض تناقضاً قوياً مع الحروب الثقافية والاستقطاب السياسي في الغرب.
-
التعبير عن وعي ما بعد الإمبريالية، مثل استيعاب الأولويات “الدولتية” في الحفاظ على تماسك الدول وإعادة إنتاج الأساطير الإيجابية positive myths حول ماض روسيا المتعدد الأعراق التي، على عكس الغرب، لا تتحداها انتقادات ما بعد الاستعمار أو ما بعد الحداثة.
وتشير الدراسة إلى أنه لا ينبغي أن ننظر إلى الجهات الفاعلة “من الأعلى” (القادة) على أنها قادرة على تشكيل الهوية الوطنية حسب الرغبة، ولا ينبغي لنا أن ننظر إلى الناس على أنهم ضحايا سلبيون للدعاية. فلكي تصبح مجموعة من الخطابات القومية مهيمنة، ينبغي أن يعبر عنها الناس العاديون من حيث ما يعتقدون انه صحيح وعادل وطبيعي وفي مصلحتهم. ولكي يحدث ذلك، يجب أن تكون هذه الخطابات متوافقة بما فيه الكفاية مع الذاكرة الاجتماعية والتاريخية الموجودة مسبقاً، والذخيرة الثقافية، وتجارب الحياة اليومية”.
وفي حالة الاتحاد الروسي متعدد الأعراق والطوائف، فإن الأمة ذات الأغلبية الروسية لها صفتان باللغة الروسية: russkii بمعني العرق الروسي، وrossiyskii بمعني مواطن من الاتحاد الروسي بغض النظر عن الانتماء العرقي.
وتشير الدراسة، وأيضاً دراسات أخرى، إلى أنه خلال فترتي ولاية الرئيس بوتين الأوليتين (2000 / 2008) اتسم الخطاب العام الرسمي حول مسائل القوميات والعلاقات العرقية بنوع من الغموض المقصود purposefully ambiguous” “، وهو “غموض مفاهيمي” a conceptual murkiness استهدف مخاطبة شرائح مختلفة في المجتمع دون التزامات أيديولوجية جامدة. ويفسر ذلك بأن الأمر الأكثر أهمية كان هو الدولة بمعني بناء دولة فيدرالية كاملة، لسد “فراغ السلطة” الذي خلفته اللامركزية الفوضوية في عهد يلتسين، توفر الاستقرار والقدرة على التنبؤ وتحسين مستويات المعيشة فضلاً عن وقف انزلاق روسيا إلى وضع القوة من الدرجة الثالثة. وحيث أن الفترتين الأولي والثانية من رئاسة الرئيس بوتين اتسمتا بنمو اقتصادي واستهلاكي غير مسبوقين، فإن السلطة التنفيذية قادرة على تحقيق مستويات جديدة من الاستقرار من خلال تأسيس “السلطة الرأسية” “vertical vlasti”، بدون التخلي عن الالتزام بمفهوم الأمة “المدنية” المتأثرة بالغرب والتي اطلقها يلتسين. وفي هذا السياق، وبدلاً من أي ضغط من أجل “الروسنة” أو “الاستيعاب” rather than representing any push for Russification or assimilation, ، فإنه ينبغي فهم سياسات، مثل الغاء الاتفاقيات الثنائية التي ابرمها يلتسين مع بعض المناطق في روسيا، حظر الأحزاب السياسية القائمة على أسس عرقية ودمج بعض مناطق الحكم الذاتي، على أنها بمثابة جهود من جانب السلطة المركزية في موسكو من أجل استعادة التماسك الداخلي وإعادة إدماج الجميع في بوتقة واحدة.
وقد لاحظ العديد من الكتاب أنه خلال فترة الولاية الثالثة للرئيس بوتين، والتي بدأت في 2012، شهد خطاب الدولة تغييراً أكثر جوهرية، حيث تحول إلي خطاب “الدولة – الحضارة state – civilization” ويرجع هؤلاء هذا التحول إلى تغييرين رئيسيين في الشئون الخارجية والداخلية:
أولاً: تمت إعادة معايرة السياسة الخارجية الروسية في أعقاب خطاب الرئيس بوتين التاريخي في مؤتمر ميونخ لسياسات الأمن (فبراير 2007) والحرب مع جورجيا (أغسطس 2008)، وهو ما ترتب عليه إعادة صياغة النظرة إلى روسيا، من شريك محتمل للغرب إلى قوة أوراسية مستقلة تحريفية revisionist. وفي هذا السياق تم الترويج لمفاهيم الحضارات والتعددية القطبية لشرح هذا الاتجاه الجديد.
ثانياً: أدت احتجاجات “بولوتنايا” في عام 2011/ 2012 إلى تغييرات في العقد الاجتماعي للرئيس بوتين. فقد ابتعدت السلطات عن الطبقات “المبدعة” أو “المتوسطة” نحو صفقة مع “الجماعات المحافظة الفقيرة والمعتمدة على الدولة في المقاطعات.
وهكذا فإن التغيرات الجيوسياسية والاجتماعية عاليه، تطلبت استجابة خطابية من الدولة على نحو ما اتضح جلياً في عام 2012.
ففي مقاله حول برنامج ولايته الثالثة في يناير 2012، رفض الرئيس بوتين التعددية الثقافية الغربية وبناء الأمة المدنية، التي ينظر اليها على أنها فشلت، وكذلك القومية العرقية الضيقة التي ينظر اليها على أنها مدمرة وبدائية. وبالتالي فالبديل عن ذلك هو “حضارة الدولة” في روسيا، والتي لها سمات ثلاث هي:
-
أن لدي روسيا تقاليد “حضارية فريدة” في الحفاظ على التنوع والانسجام العرقي والثقافي. ويلعب “الروس” بوصفهم “الشعب الذي يشكل الدولة” دوراً محورياً في “وجود روسيا ذاته”، الذي تتمثل “مهمته العظيمة” في “توحيد الحضارة وتماسكها” في الفضاء الأوراسي.
-
تم تشجيع نوع مميز من الوطنية المدنية والوحدة civic patriotism and unity، والتي تعتمد على سرديات ما قبل عام 2012 حول “وطنية الدولة” state patriotism. وهذه الوطنية المدنية، في جوهرها، هي غير سياسية، وتركز على الحاجة إلى تجنب التغييرات الجذرية في السياسة والإبقاء على وحدة وتماسك الاتحاد الروسي، رغم ضغوط الخارج وكذلك القوي الداخلية الطاردة للمركزية.
وفي مؤتمر “فالداي” عام 2013، جادل الرئيس بوتين بأنه يجب تطوير “الهوية المدنية” على أساس “القيم المشتركة، والوعي الوطني، والمسئولية المدنية والتضامن، واحترام القانون، والشعور بالمسئولية عن مصير وطنهم، دون أن يفقدوا الاتصال بجذورهم العرقية أو الدينية”.
وفي مؤتمر لاحق لفالداي (2018)، قام الرئيس بوتين بإيضاح رؤيته للقومية “nationalism” قائلاً:
“برزت روسيا كدولة متعددة القوميات … هذا هو أساس وجود روسيا، إذا أردنا الحفاظ على روسيا … ولكن الإفراط في التأكيد على نوع من قومية رجل الكهف وحبال الطين على ممثلي الأعراق الأخرى فسوف نهدم هذا البلد، وهو ما لا يصب في مصلحة الشعب الروسي … هذا ما أعنيه عندما أقول إنني القومي الأكثر صدقاً وفعالية في البلاد”.
“I am the most genuine and effective nationalist in the country”.
أن هذا الموقف المحافظ، الحافظ للدولة، جنباً إلى جنب مع نسخة سوفيتية من “الوطنية المدنية” يظهر أيضاً في سرديات المقابلات، حيث يتم رفض القومية العرقية، وفهم الوطنية من منظور غير سياسي، وهناك موقف محافظ أيضاً حول مسائل التغيير السياسي والاجتماعي.
-
تشجيع هوية “الدولة – الحضارة” على نوع من الوحدة الثقافية (دون الروسنة القسرية أو الحد من التنوع العرقي والثقافي) (without forced Russification or reduction of ethnic and cultural diversity)، المطلوبة في عالم متعدد الأقطاب من المنافسات الجيوسياسية والتكتلات الحضارية المتنافسة. ويتم توفير هذه الوحدة من خلال اللغة والثقافة الروسية وكذلك “القيم التقليدية”.
ووفقاً لتقديرات ودراسات عديدة، فإن هوية “الدولة الحضارية” واضحة في المخرجات المكتوبة والشفهية للإدارات الروسية الفاعلة الحكومية مثل وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي ووزارة الثقافة. وعلى سبيل المثال، أعلن الرئيس بوتين في عام 2012، أنه “يمكن لروسيا، ويجب عليها، أن تلعب دور النبيل الذي يمليه عليها نموذجها الحضاري وتاريخيها المجيد وجغرافيتها وجينومها الثقافي cultural genome، حيث يوجد مزيج عضوي من الأسس الأساسية للحضارة الأوروبية والخبرة الطويلة في التعامل مع الشرق، حيث تتشكل في الوقت الحالي مراكز جديدة للقوة الاقتصادية والنفوذ السياسي ([5]).
والواقع أنه في هذه المخرجات ينصّب التركيز على تجنب زعزعة الاستقرار والحفاظ على الهوية، وأن فقدانها سيؤدي إلى فقدان “الوحدة الوطنية” و “السلامة الإقليمية”. وتسعي المخرجات إلى الترويج لخطاب تقليدي جديد يستهدف التأكيد على فكرة أن روسيا متميزة حضارياً. وقد أسفر الخطاب هنا عن مجموعة من السياسات الاجتماعية ما بعد عام 2012، والتي تحمي القيم الأسرية التقليدية، وتفرض احترام الدين، وتعزز اللغة والثقافة الروسية. وفي قلب الكثير من هذا كانت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي يستمر تأثيرها وظهورها في خطاب الدولة في التزايد يوماً بعد يوم. ويضع الخطاب حول القيم التقليدية روسيا باعتبارها حامية القيم التي تعتز بها أوروبا، في وقت يُنظر فيه إلى الغرب نفسه على أنه يتخلى عن تراثه الخاص. وفي هذا السياق، وقع الرئيس بوتين، في 19 ديسمبر 2012، مرسوماً بالموافقة على “استراتيجية الدولة لسياسة القوميات الجديدة للفترة حتى عام 2025”. وقد استقبلت الاستراتيجية إعلامياً بإشادة كبيرة باعتبارها أول وثيقة شاملة حول سياسة القوميات في روسيا منذ عقود. وبموجب الاستراتيجية، وضعت المبادئ التوجيهية العامة للسياسات السياسية والاقتصادية والثقافية تجاه مختلف الجماعات العرقية في روسيا.
ويخلص المحللون من كل ذلك إلى أنه منذ عام 2012 روجت الدولة الروسية لخطاب متماسك، حتى وأن كان انتقائياً، حول التميز الحضاري الروسي، كما أن هوية “الدولة الحضارية” تعزز هوية مدنية مشتركة تستند على اللغة والثقافة والقيم المشتركة، ولكنها تحتفي أيضاً بالتنوع العرقي والثقافي، حيث تحافظ الأقليات غير الروسية على ثقافاتها الفريدة، وتُوصف الروسية (russkie) بأنها الاسمنت الذي يربط الأمة معا.
أخيراً تؤكد تلك الدراسات على أن عناصر الهوية الروسية التوافقية والشاملة، هي عناصر مستنسخة شعبياً، ويتوافق الكثير منها تماماً مع خطاب الدولة والحضارة، وان الأساطير الشعبية popular myths حول تاريخ روسيا كدولة متعددة الأعراق هي محور وعي روسيا ما بعد الإمبريالية([6]).
ووفقاً لدراسات استقصائية موثوقة، تؤمن أغلبية المواطنين في روسيا بفكرة أنها دولة متعدد القوميات، وأنها يجب أن تكون كذلك وموطناً مشتركاً للمجموعات الوطنية المختلفة وأنها بلد متعدد الثقافات، حيث تفاعل سكانها مع بعضهم البعض لعدة قرون وأن هناك انسجاماً فيما بين الجميع، وأنه وأن كان الروس في قمة قيادة الأسرة إلا أن القوميات الأصغر راضية عن لعب دورها في إطار وحدة عائلية متناغمة([7]).
ومن الناحية الرسمية، لم تشهد روسيا السوفيتية أي صراعات عرقية، حيث عاش الشعب السوفيتي المتعدد القوميات معاً بسلام وبروح شعار “صداقة الشعوب” Druzhba narodov. وعلى الرغم من أن تفكك الاتحاد السوفيتي كان مدفوعاً بالتعبئة العرقية القومية، وأن روسيا الاتحادية الجديدة مرت لاحقاً بحربين مريرتين ضد الانفصاليين الشيشان، فقد ظلت القيادة الروسية ماضية قدماً في التمسك بوصف “الأمة” بأنها حضارة متعددة الأعراق multi – ethnic” or “poly – ethnic”. كذلك كان هناك دائماً إحجاماً عن الاعتراف بالعرقية الروسية باعتبارها “الأمة المكونة للدولة” فضلاً عن حقيقة أن الشعار السوفيتي القديم حول “صداقة الشعوب”، وجد طريقه إلى النسخة النهائية من استراتيجية الدولة الجديدة، بشأن سياسة القوميات، وهو ما يشهد أيضاً على الصواب السياسي السوفيتي التقليدي.
من ناحية أخرى، تؤكد الدراسات أن هناك أيضاً العديد من العوامل التي تدعم هذا المشروع الجديد للهوية. ويشار في ذلك إلى ما يلي بصفة خاصة: ([8])
-
على الرغم من الخطاب الرسمي حول كون روسيا دولة متعددة الأعراق والطوائف، فإن الغالبية العظمي من السكان يعتبرون أنفسهم روس Russkii. وفي أخر تعداد سكاني (2010(، اعتبر ما لا يقل عن 80.9% من السكان أنفسهم من أصل روسي، وهي نسبة أعلى مما كانت عليه في العديد من “الدول القومية” المفترضة.
-
بينما تفخر روسيا الاتحادية بأن “الأوطان التقليدية” traditional homelands تضم عدد كبير من المجموعات العرقية، وتسعي أيضاً في كثير من الحالات إلي التمسك بها في شكل استقلال ذاتي، فإن معظم مجموعات الأقليات العرقية صغيرة جداً من الناحية العددية. وفي حين أن استراتيجية الدولة الجديدة بشأن سياسة القوميات تنص على أن روسيا هي موطن لــ 193 مجموعة عرقية مختلفة، فإنه حتى اليوم لا تشكل سوي خمس مجموعات من الأقليات أكثر من 1% من مجموع السكان (التتار بنسبة 3.9%، الأوكرانيون 1.4%، البشكير 1.1%، التشوفاش 1.1% والشيشان 1.0%). ومن حيث الأرقام المطلقة، لا يوجد سوي سبع عشرة مجموعة تضم أكثر من نصف مليون عضو.
وفي تقدير هذا البعض فإنه في حين أن الهوية الروسية كانت بالتأكيد أكثر شمولاً، من حيث أنها دمجت تلقائياً جميع المواطنين في “الذات الوطنية”، فإن الجوهر الثقافي لهذه الهوية المدنية كان دائماً روسيا أو “روسيا+”. وكانت اللغة الروسية هي لغة الدولة، والتاريخ الذي يدرس في المدارس الحكومية هو تاريخ الدولة الروسية من “كييف روس” القديمة عبر موسكوفي وروسيا الإمبراطورية إلى روسيا الاتحادية الحالية. كما أن الثقافة الروسية بكل مساهميها متعددي الأعراق زودت الهوية المدنية بعمق ثقافي. وهكذا يمكن القول بأن التحول في التركيز من “روسيسكي russiskii إلي “روسكي” russkii لم يتحدى حقاً جوهر مشروع الهوية القديمة. وفي الوقت نفسه، فإن الإشارة الأكثر وضوحاً، في المشروع الجديد، إلى النواة العرقية الروسية والاعتماد عليها، قد تجعل هذه الهوية أكثر قوة من الهوية الروسية القديمة. وبدلاً من افتراض وجود مجتمع قائم على حدود الدولة، يعمل الكريملين الأن على تضيق نطاق الهوية الوطنية إلى شيء يمكن التعرف عليه بشكل كبير بالنسبة لغالبية السكان، في حين يحافظ أيضاً على حدود المجموعة غير واضحة بما فيه الكفاية لتكون قادرة على الترحيب بالكثير من بقية السكان في “الذات الوطنية الموسعة”([9]). وعندما تحدث الرئيس بوتين في برنامجه الانتخابي عام 2012، تحدث عن ” التتار الروس” و “الألمان الروس”، مستخدماً مصطلح.. “روسكي” وليس “روسيسكي”، وهو ما يشير إلى الطبيعة الشاملة، وحتى التوسعية المحتملة للمشروع الجديد. وقد يكون بعض غير الروس” عرقيين” شكلاً، ولكن يمكن قبولهم “روس” في المضمون أو المحتوي. وفي تقدير بعض الكتاب فإن الهوية الوطنية الروسية أكثر ديناميكية بكثير من نظيراتها الغربية. فبعد مرور أكثر من عقدين من الزمان على تفكيك الاتحاد السوفيتي، لا يبدو الكريملين راغباً في تعريف هذه الهوية أكثر مما كانت عليه([10]).
وفضلاً عن ذلك فإن هذه الهوية هي روسية عرقية ثقافية في جوهرها، ولكنها أيضاً متعددة الأعراق والطوائف.
وقد ينظر إلى ذوي الأصول العرقية الروسية على أنهم الأمة “التي تشكل الدولة”، ومع ذلك يرفض الرئيس بوتين بشكل قاطع إعادة تعريف روسيا الاتحادية كدولة قومية روسية.
ويعتقد البعض أن هذا الغموض متعمد ومحسوب، إذا أنه وفقاً للكرملين لا ينبغي تقييد الهوية الروسية بحدود الدولة. فهي حضارة منفصلة فريدة من نوعها، وبالتالي فإن هذه النظرة الجديدة للهوية الوطنية لا تساهم فقط في حشد دعم كبير للنظام داخل روسيا الاتحادية، بل أنها تفتح الطريق للتواصل مع الشتات الروسي في الدول المجاورة([11]).
ثانياً: مكانة الإسلام في روسيا:
من المعروف أن روسيا بلد شاسع ومتنوع يتسم بالتعددية الثقافية والدينية. وقد سبق أن أوضحنا كيف أن روسيا بلد متعدد الأعراق والأديان، سواء من حيث الواقع أو في الموروث الشعبي الروسي. وكما هو معلوم تمثل الأرثوذكسية ديانة أغلبية سكان البلاد. إلا أنه الهوية الوطنية المتعددة الثقافات كانت قادرة على استيعاب الإسلام إلي جانب المسيحية الأرثوذكسية الروسية باعتبارها واحدة من الديانتين المركزيتين في البلاد. وفي هذا السياق يعيش في روسيا ما يقرب من 20مليون مسلم يشكلون 14% من السكان مما يجعل روسيا موطناً لأكبر عدد من السكان المسلمين في أوروبا. والحقيقة أن الرئيس بوتين دافع دائماً عن الإسلام باعتباره عنصراً تاريخيا للثقافة الروسية، ليس هذا فحسب بل انحاز أيضاً إلي الافتراض القائل بأن المسيحية الأرثوذكسية أقرب للإسلام منها للكاثوليكية، وفي حين أن البروتستانت يظهرون قيمهم الليبرالية من خلال دعم الإجهاض والمثلية الجنسية، قال بوتين أن الإسلام والأرثوذكسية ملتزمان في احترامهما لنظام القيم التقليدي([12]).
وكان الرئيس بوتين الزعيم الأوروبي الوحيد الذي أدان الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول محمد عليه الصلاة والسلام، التي نشرتها صحيفة “يولاندز – بوستن” الدانماركية في 30 سبتمبر 2005 بدعوي حرية التعبير، وهو ما فجر براكين الغضب والسخط والاستياء في العالم الإسلامي، مطالباً الوسيلة الإعلامية التي نشرتها بالاعتذار. وتمسكت الصحيفة بموقفها، كما فشلت منظمة التعاون الإسلامي في الحصول على أي ترضية من الحكومة الدانماركية، التي تجاهلت تماماً شكوى قدمتها الأقلية الإسلامية الدانماركية. وفشلت مساعي منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية في تغيير موقف الدانمرك، سواء باتصالات ثنائية أو من خلال منظمة الأمن والتعاون في أوروبا أو الاتحاد الأوروبي([13]).
ولم يقتصر الأمر عن هذا الحد، بل قامت صحيفة مسيحية محافظة في النرويج بنشر الرسوم الكاريكاتورية نفسها بدعوي التعاطف مع الصحيفة الدانماركية، ثم قامت عدة صحف في كل من المانيا وفرنسا وإيطاليا واسبانيا بإعادة نشر الروسم الكرتونية، وذلك في يناير 2006. وفي الوقت الذي اجتمعت فيه مجموعة من دول منظمة التعاون الإسلامي في مقر منظمة الأمم في نيويورك وأصدرت بياناً يدين الرسوم الكاريكاتورية، قدم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك دعمه للحكومة الدانماركية([14]).
والحقيقة أن كراهية الإسلام والتعصب ضد المسلمين باتت من الممارسات العادية في الغرب، وأخر ذلك حرق نسخ من القرآن – كتاب المسلمين المقدس – وإهانته في السويد على يد متطرف يحمل الجنسية الدانماركية أيضاً. والدوافع وراء هذا الفعل سياسية، حيث قام الرجل بفعلته من أجل الحصول على مزيد من الأصوات المؤيدة له بما يسمح لحزبه السياسي بدخول سباق الانتخابات النيابية في السويد.
على آية حال، ننظر إلي اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً في 15 مارس 2022، باعتبار الخامس عشر من مارس “يوما دولياً لمكافحة كراهية الإسلام”، بمثابة تطور إيجابي في هذا الشأن، ونأمل أن يعزز الوعي على المستوي الدولي بنبذ الكراهية والتعصب ضد المسلمين وتعزيز التسامح والتعايش السلمي عبر العالم. وتكشف مثل هذه الممارسات في الغرب عن مدي التفاوت الصارخ في وضعية الأقليات الدينية، وبخاصة المسلمين في الغرب الأوروبي بصفة خاصة، وهنا في روسيا الاتحادية.
وباعتبارها واحدة من الديانات التقليدية الأربع في روسيا إلى جانب اليهودية والبوذية، فإن للإسلام وضع خاص في روسيا حيث قدمت الدولة الدعم لمختلف المؤسسات الإسلامية، بما في ذلك المدارس الدينية وقناه تليفزيونية خاصة([15]). في الوقت ذاته تبدو القيادات الإسلامية الدينية على علاقات وثيقة بالقائمين على الحكم، كما أنه في بعض الاضطرابات التي وقعت في البلاد أثبتت هذه القيادات ولائها المطلق للدولة.
ومن الطبيعي أن تكون الدولة الروسية حريصة على خلق بنية تحتية محلية للإدارة والقيادة الإسلامية بعيدة عن ممارسات خارجية قد تتنافي مع تقاليد وثقافة الشعب الروسي بصفة عامة، وذلك حفاظاً على تماسك البلاد وأمنها القومي واستقرارها الداخلي. وفي هذا السياق حافظت روسيا الرسمية على الالتزام بخطاب سياسي كدولة متنوعة الأعراق. وعلى سبيل المثال، وفي أعقاب أعمال شغب عرقية جرت في عام 2010 في ميدان “مانيز” في موسكو، وفي مدن أخري في روسيا، أدان الرئيس بوتين استهداف مثيري الشغب المعادي للأجانب لسكان شمال القوقاز قائلاً: “نحن جميعاً أطفال من نفس البلد: لدينا وطن أم مشترك لقد كانت روسيا دولة متعددة الطوائف والأعراق”([16]).
وعلى العكس من ذلك، أصبح التطرف حاضراً بقوة اليوم في الثقافة السياسة الغربية خاصة الأمريكية، تحت ما يسمي “اللاليبرالية”. وينبه البعض إلى ضرورة التعامل مع هذا المفهوم على أنه بمثابة أيديولوجية سياسية يجب استكشاف الأسس الفلسفية والأصول الفكرية والاجتماعية لها، لأنها اشد تطرفاً من التيار المحافظ الذي سيطر على السياسة الامريكية خلال الثمانينات من القرن العشرين حيث تتضمن فاشية متشددة ومبادئ رجعية عنصرية ترفض المساواة بين البشر وتمجّد تفوق البيض([17]). وقد باتت لهذه الأيديولوجية منافذ بالألاف على شبكة الأنترنت مما يضاعف من أعداد مؤيديها في العقود القادمة، فضلاً عن انخراط ميليشيات وجماعات فاشية تستخدم الدول في حروبها وتوفر لها العتاد وأدوات القتل على نحو ما نري في أوكرانيا اليوم. فقد كشفت الأزمة الأخيرة، خاصة بالمقارنة بما حدث ويحدث في فلسطين، ثم في العالم العربي بصفة عامة، عن نفاق دولي وسياسي ثنائي المعايير. وللأسف الشديد نري أن من يقدم نفسه على انه المدافع عن حقوق الأنسان هو نفسه من ينتهكها، ومن ينادي بالحرية هو نفسه من يصادرها. لقد فقد الغرب تماماً الإحساس بأي مسئولية أخلاقية أو بمبادئ سامية أكدت عليها كل المعتقدات والأديان والمواثيق الدولية مثل المساواة واحترام حقوق الأنسان، وغيرها من القيم الإيجابية. وبدلاً من ذلك، باتت المصالح الجيوسياسية هي الدافع الرئيسي وراء أفعال الغرب وسلوك قادته. فهؤلاء يعلمون تماماً – كمثال – أن إسرائيل دولة عنصرية بحكم القانون، سواء كان “قانون العودة” الصادر عام 1950، أو قانون “القومية” الصادر عام 2018، والذي رسّخ المواطنة على أساس الدين، وبه تحوّلت إسرائيل إلي دولة شعب محدد بمعايير دينية. ومع أن القانون موجه أساساً ضد السكان الفلسطينيين، إلا أنه يحمل جانباً يتعلق بالسكان اليهود أيضاً، كون الدولة تمنح جناحاً صغيراً من هذا الشعب المحدد بمعايير دينية، إنه جناح اليهود الأرثوذكس الذي يمتلك الحق الحصري في تصنيف الانتماء الديني([18]).
نحن نتابع في العالم العربي وفي الشرق الأوسط عموماً، مواقف القادة الغربيين وردود أفعالهم على ما يجري في أوكرانيا وأحاديثهم المملة عن أن الأمر يتعلق بالدفاع عن الديمقراطية وحرية الشعوب وحقوق الأنسان، وغيرها من الشعارات التي ندرك نحن شعوب الشرق الأوسط – اكثر من غيرنا – أنها شعارات فارغة لا معني لها، ليس فقط بسبب الإرث الاستعماري البغيض لمن يرددها وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبوها في العراق وليبيا وغيرها، بل وأيضاً الدعم غير المحدود لأخر دولة استعمار استيطاني عنصري في القرن الواحد والعشرين، والتي يحلو لهؤلاء القادة ترديد أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. ولم نندهش، والحال كذلك، أن يبدي الرئيس الأوكراني إعجابه الشديد وافتتانه بالنموذج الإسرائيلي متمنياً أن تكون بلاده على صورتها.
ثالثاً: الانعكاسات على السياسة الخارجية:
لا يمكن تجاهل واقع أن دفاع روسيا عن التنوع العرقي والديني في الداخل، هو جزء من أجندة سياستها الخارجية. وفي هذا السياق، كانت موسكو حريصة على اكتساب وضعية المراقب لدي منظمة التعاون الإسلامي، وتبنيها مبادرات دولية تستهدف تعزيز حوار الحضارات والثقافات. وقد نددت روسيا بالتدخلات الأمريكية في العراق وليبيا، وبدت حريصة على الاحتفاظ بعلاقات متطورة مع الدول العربية والإسلامية والسعي إلى التعاون الدولي لمحاربة الإرهاب والتطرف الديني، كواحد من محددات سياسة روسيا الخارجية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ونذكر تصريحات كثيرة للرئيس بوتين يؤكد فيها على حرص روسيا على تطوير علاقات وثيقة ومتعددة الأوجه مع حكومات العالم الإسلامي.
وفي تقدير البعض([19]) فإن الجغرافيا السياسية للرئيس بوتين تضع روسيا كأمة بين الشرق والغرب، غير عندما أنه يتعلق الأمر بالقيم والأخلاق فإن روسيا تتمسك بطابعها المحافظ. وكما يقول الرئيس بوتين، فإن العلمانية الأوروبية تخنق التعددية الثقافية، أو على الأقل تؤسس لتعددية ثقافية مصطنعة”، أما روسيا فهي تحافظ على تركيز غني من الأعراق واللغات لا مثيل له حتى من قبل أرض المهاجرين نفسها، الولايات المتحدة. وفي هذا السياق يشير بعض الخبراء الروس([20]) إلى أن السياسة الخارجية الروسية تكتسي طابعها المحافظ في مواجهة سلوكاً غربياً ثورياً شمل الأخلاق، وأنها، بجانب الصين، تلتزم تقليدياً بموقف محافظ بشأن معظم القضايا السياسية المتعلقة بعدم الانتشار أو ضبط التسلح. ويضيف هذا البعض أنه في الصراع الدولي الحاصل اليوم بين الغرب والقوي الجديدة الصاعدة في آسيا، خاصة الصين، تبدو روسيا في وضع مناسب بحكم كونها دولة متعددة القوميات والأعراق، وهو ما يخلق في حد ذاته الحاجة إلى البحث عن توازن داخلي. ويشير الخطاب التقليدي الذي اعتمدته روسيا بشأن مسألة القيم الأسرية إلى الأسس الثقافية الأساسية لشعوبها، وبالتالي فهو يتعارض حتماً مع النهج الثوري للغرب. ومن الناحية الجيوسياسية، فإن روسيا هي الدولة الأقل اعتماداً على نفوذ النظام الدولي، ولديها ما يكفي من الموارد، ويمكنها الدفاع عن نفسها دون الاعتماد على حلفائها. ولكن في الوقت نفسه فإن روسيا معقدة للغاية في بنيتها، بحيث لا يمكن لها أن تنتهج سياسة خارجية متشددة. ولا يخفي “بورداتشيف” حقيقة أن السياسة الخارجية المحافظة هي أصعب نوع من الاستراتيجية لدولة كبيرة. وفضلاً عن ذلك، عندما يتعلق الأمر بقوة نووية عظمي، فإن القدرات العسكرية تخلق دائماً الشروط المسبقة لاتخاذ تدابير أكثر حسماً، إن لم يكن على الصعيد العالمي، ثم على المستوي الإقليمي. وتتطلب هذه الاستراتيجية رجال دولة ذوي قدرة استثنائية على فهم طبيعة عمليات الحياة الدولية وظواهرها، فضلاً عن البصيرة النفسية العميقة. ويضيف أن السياسة الخارجية الروسية في السنوات الأخيرة هي سياسة محافظة حقاً، فهي لا تنطوي على التقيد الصارم بمسار معين، ولكنها تجد حلولاً وفقاً لظروف كل حالة. فالاستراتيجية المحافظة تعني الحفاظ باستمرار على توازن القوي بين جميع اللاعبين في العالم.
وفي العقد الماضي، نجحت روسيا بالفعل في ذلك في الشرق الأوسط، حيث أدى التدخل العسكري في سوريا إلى تحقيق التوازن في المنطقة ووقف انزلاقها إلى هاوية “حرب الجميع ضد الجميع”. وقد قدم موقف روسيا الحازم مساهمة خاصة في الحفاظ على حكومة شرعية في فنزويلا، ويؤثر تدريجيا على الوضع في أفريقيا، حيث تفقد البلدان الأوروبية مواقعها وهي مستعدة لقبول بداية الفوضى.
المراجع
[1] اعتمدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة هذا الإعلان، وأقرَّته الجمعية العامة للأمم المتحدة كيوم عالمي للتنوع الثقافي في 21 مايو 2022. راجع نص الإعلان على الرابط التالي: https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000127160.page=10
[2] –Alexei Miller: THE 300TH Anniversary of the Russian Empire, valdai Club, Nov. 8th, 2021, https://valdaiculb.com/a/highlights/the-300th-anniversary-of-the-russian-empire
[3] Ibid.
[4] – Matthew Blackburn: Mainstream Russian Nationalism and the “state – civilization” Identity: perspectives from Below, The Institute of Russian and Eurasian studies, Uppsala University, Sweden, Nationalities papers May 18th (2021), 49:1, 89 -107,
https://www.cambridge.org/core/journals/nationalities-papers/article/mainstream-russian-nationalism-and-the-statlcivilization-identity-perspectives-from-below/idbb640a303e684a96c94bf05c22d979
[5] Ibid.
[6] Ibid.
[7] Ibid.
[8] –Helge Blakkisrud: blurring the boundary between civic and ethnic: the kremlin’s new approach to national identity under putin’s Third Term, In: The New Russian Nationalism: Imperialism, Ethnicity and Authoritarianism 2000- 2015, published by: Edinburgh University press, 2016, p 249 open Access: https://www.jstor.org/stable/10.3366/j.ctt1bh2kk
[9] –Ibid.
[10] – Mikhail A. Alexseev: 6 Backing the Ussr 2.0: Russia’s ethnic minorities and expansionist ethnic Russian nationalism, in: The New Russian Nationalism: Imperialism, Ethnicity and Authoritarianism 2000 – 2015, Pp. 160 – 191.
11- Helge Blakkisrud: blurring the boundary between civic and ethnic: the kremlin’s new approach to national identity under putin’s Third Term, Op. Cit.
[12] – Anna Alekseyeva: The Russian Politics of multiculturalism, March 30th, 2015. http://www.opendmocracy.net/en/odr/russian-politics-of-multiclturalism
[13] – راجع فى تفاصيل ذلك: أكمل الدين إحسان أوغلى: العالم الإسلامى وتحديات القرن الجديد – منظمة التعاون الإسلامى. (القاهرة: دار الشروق، 2013)، ص 210.
[14] – المرجع السابق.
[15] – Dmitri Trenin, Russia’s Changing Identity: In Search of a Role in the 21st Century. Available at: https://carnegiemoscow.org/commentary/79521
[16] – Anna Alekseyeva: The Russian Politics of multiculturalism, Op. Cit.
[17] – انظر في تفاصيل ذلك:
Thomas J. Main, The Rise of Illiberalism, Washington, D.c: Brookings Institution Press, January 4, 2022.
[18]– انظر في ذلك: أنطوان شلحت: عن إسرائيل السادرة في عنصريتها على خلفية الحرب في أوكرانيا – المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) – 21 مارس 2022، مدار – عن إسرائيل السادرة في عنصريتها على خلفية الحرب في أوكرانيا (madarcenter.org)
[19] – Alexei Miller: THE 300TH Anniversary of the Russian Empire, valdai Club, Nov. 8th, 2021, https://valdaiculb.com/a/highlights/the-300th-anniversary-of-the-russian-empire
[20] –Timofei Bordachev: Origins And Challenges Of Putin’s Conservative Strategy, Oct. 25th, 2021, Valdai Club, https://valdaiclub.com/a/hightights/orgins-and-challenges-of-putin-s-conservative-str.