نقاش مائدة مستديرة بين المجلس ومعهد الدراسات الشرقية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم
مايو 14, 2024بيان المجلس بمناسبة اعتراف إيرلندا وإسبانيا والنرويج بالدولة الفلسطينية
مايو 23, 2024في الفترة من 14 إلى 19 مايو 2024، شارك السفير د./ عزت سعد مدير المجلس في فعاليات مؤتمر “روسيا – العالم الإسلامي”، بدعوة من رئيس جمهورية تتارستان، رئيس مجموعة الرؤية الاستراتيجية، رستم مينيخانوف والدكتور فاريت مخمد شن نائب رئيس المجموعة، كما ألقى كلمة بتاريخ 16 مايو، بعنوان “روسيا – العالم الإسلامي: نظام عالمي عادل متعدد الأقطاب وتنمية آمنة”. وجاء نص كلمته كالتالي:
أود أولاً أن أعرب عن عميق شكري وتقديري للجنة المنظمة لهذا المؤتمر على الدعوة الكريمة وعلى الحفاوة وحسن الاستقبال.
السيدات والسادة:
لقد أدركت دول الشرق الأوسط وإفريقيا عموماً أن قدرة الولايات المتحدة على تشكيل النظام العالمي أصبحت موضع شك كبير، وأن تقديمها على أنها “الأمة التي لا غنى عنها” هو محض هراء، سواء في ظل الانقسامات السياسية الداخلية العميقة، أو عسكرة السياسة الخارجية، حيث تعتقد النخبة السياسية، من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على السواء، أن الحفاظ على الهيمنة العالمية للولايات المتحدة أمر ضروري لضمان السلامة الأمريكية والسلام الدولي. وتؤكد الممارسة أن هذه النخبة، الفاسدة في تقديري، ترى أن السياسة الخارجية الأمريكية ليست سوى سلسلة من التحديات العسكرية التي تتطلب حلولاً عسكرية.
ولقد رأينا كيف قادت هذه السياسة إلى نتائج كارثية في أفغانستان، وفي العراق، وظهور الدولة الإسلامية في العراق والشام وكارثة إنسانية في اليمن، وفوضى في ليبيا، وفشل ذريع لعملية أوسلو للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وللأسف لم تستخلص الولايات المتحدة الدروس من مسلسل فشل سياستها المتواصل في المنطقة. وفي هذا السياق، يؤكد محللون أمريكيون أن النخبة السياسية الأمريكية غالباً ما تجرب كل الطرق الخاطئة، قبل أن تصل إلى الحل الصحيح. هذا إن وصلت لحل. كذلك يشير المتخصصون في دراسات النظام الدولي إلى أن الحديث المستمر للولايات المتحدة، وبعض الدول التابعة لها، عن “النظام القائم على القواعد”، والذي زاد بعد احتدام المنافسة مع الصن وروسيا وتحدي القوتين للهيمنة الأمريكية، هو غالباً استجابة لواقع معاكس، أي غياب القوانين الدولية والميل نحو ترسيخ نظام قائم على القوة وخلق الأزمات والفوضى في العالم. ويفسر ذلك، عملياً، استخدام واشنطن الفيتو لمنع وقف إطلاق النار وإنفاذ المساعدات الإنسانية لقطاع غزة ورفض تفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، بناءً على طلب الأمين العام، لعقد مجلس الأمن في أقرب وقت ممكن، وغير ذلك مما يسمى “دبلوماسية الفيتو” الأمريكية.
والحال على ما تقدم، بوسع المراقب للتطورات في المنطقة، أن يخرج بنتيجة مفادها أن هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية تتراجع تدريجياً، وبشكل واضح، حيث يتبني العديد من دول المنطقة سياسة تنويع الخيارات في علاقاتها الخارجية، والحرص على السعي المتزايد لإظهار استقلالية سياستها الخارجية والاهتمام المتزايد بالتنسيق والتشاور في اتجاه خلق بيئة أمنية تعاونية جديدة ورفض المقاربة الأمريكية للأمن الإقليمي، القائمة على إدماج إسرائيل من خلال المزيد من التطبيع واستهداف إيران. ويعتقد كتاب غربيون كثر أن المنطقة باتت بالفعل في مرحلة “ما بعد الهيمنة الأمريكية”، وأن هذا التوجه بدا أكثر وضوحاً بعد الأزمة الأوكرانية. فقد شهد العامين الماضيين رفض دول الإقليم التصويت مع واشنطن ضد موسكو ورفض المشاركة في نظام العقوبات الغربية.
وفي حالة الصين، ورغم ضغوط الغرب، ما تزال كل الدول العربية والإسلامية ترى أن مسألة حقوق رعايا الصين من المسلمين في إقليم “شينجيانج” هو قضية داخلية صينية لا يجب التدخل فيها، انطلاقاً من الاقتناع التام بأن الغرب يستخدم ورقة حقوق الإنسان لأغراض سياسية.
السيدات والسادة:
لقد مكّنت الولايات المتحدة إسرائيل من الوصول بالأوضاع الكارثية في فلسطين المحتلة إلى ما هي عليه اليوم. والأمر هنا لا يتعلق فقط بما جرى بعد 7 أكتوبر 2023 وحتى الأن، وإنما قبل ذلك بكثير، حيث ساعدت واشنطن إسرائيل على أن تصبح دولة فصل عنصري، تكرّس الاحتلال وترتكب جرائم متواصلة في حق المدنيين الأبرياء من أبناء فلسطين المحتلة، بعيداً عن المساءلة الدولية.
ولكي ندرك أبعاد الكارثة التي حدثت في فلسطين المحتلة، بمشاركة مباشرة ودعم عسكري وسياسي أمريكي، تكفي الإشارة إلى أنه وفقاً لتقييم مرحلي مشترك صادر عن كل من الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي والأمم المتحدة، أصبحت غالبية الفلسطينيين في غزة تعاني فقراً متعدد الأبعاد، “بما في ذلك الحرمان الكامل من الوصول إلى الصحة والتعليم والتوظيف والسكن والسلامة والحرية الشخصية والفقر المائي. ووفقاً للتقرير، سيستغرق الأمر سنوات لإزالة مئات القنابل غير المتفجرة التي زودت واشنطن إسرائيل بها، كما يتوقع مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أن تحتاج غزة إلى “سبعة عقود”، أي حتى عام 2092، لتعود إلى مستواها الاقتصادي في عام 2022.
لقد فضحت حرب غزة، مدى اتساع الفجوة بين منظومة القيم التي تدعى الولايات المتحدة، والغرب عامةً، الدفاع عنها من ناحية، وبين السلوكيات الأمريكية الفعلية كما نراها في فلسطين وأماكن أخرى من ناحية ثانية. والأمر هنا لا يتعلق فقط بالانخراط الأمريكي المباشر في قتل وترويع الألاف من المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، جنباً إلى جنب مع قوات الاحتلال، وتدمير المستشفيات والمساجد والكنائس والمعالم الثقافية والتراثية وقتل عمال الإغاثة والصحفيين، بل وأيضاً قمع الاحتجاجات العارمة في الجامعات الأمريكية ضد جرائم إسرائيل في غزة وفصل المئات من أعضاء هيئات التدريس واعتقال المئات من الطلبة، بالمخالفة للقوانين الأمريكية، وإصدار توجيهات للصحفيين والمراسلين الذين يغطون الحرب بتجنب أو تقييد استخدام مصطلحات مثل “الإبادة الجماعية” و “التطهير العرقي” و “الأراضي المحتلة” و “فلسطين” و “مخيمات اللاجئين”.
ومن المستبعد إلى حد كبير أن تتخلص أمريكا من هذا النفاق والتناقض، الذي يعد جزءاً لا يتجزأ من سياستها الخارجية. ففي قضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ترفع واشنطن شعار “حل الدولتين” إلا أنها تستخدم الفيتو ضد قبول فلسطين عضواً كامل العضوية في منظمة الأمم المتحدة. وفي علاقاتها ببكين، تؤكد واشنطن احترامها لمبدأ “الصين الواحدة”، غير أنها في الوقت ذاته تكرس الوضع القائم في إقليم تايوان من خلال تزويده بأحدث الأسلحة ودعم الاتجاهات الانفصالية.
والمثير للسخرية أن الولايات المتحدة ما تزال تعطي لنفسها الحق في إصدار تقرير سنوي حول أوضاع حقوق الإنسان حول العالم، في ممارسة هزلية تعكس الانفصال عن الواقع.
السيدات والسادة:
منذ تسعينيات القرن الماضي أظهرت كلا من روسيا والصين رفضهما الواضح للاستراتيجية الأمريكية للدفاع عن سيطرتها العالمية بأي ثمن، أو ما يسمي بالاستراتيجية الوقائية. فقد نظرت واشنطن إلى صعود الصين، وتعافي روسيا من الانهيار السوفيتي، وطموحات إيران النووية، وهي طموحات مشروعة مثلها مثل كل دول المنطقة طالما أصر الغرب على إبقاء إسرائيل خارج منظومة منع الانتشار النووي، باعتبارها تحديات لا يمكن التسامح معها. وبدلاً من اللجوء إلى الوسائل الدبلوماسية للتوصل إلى توافقات، دخلت الولايات المتحدة في مرحلة من التنافس والاستفزاز، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية بهدف “إضعاف روسيا”، حسبما أكد مسئولون أمريكيون كبار لتبرير الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا. وفي حالة الصين، شنت الولايات المتحدة حرباً تجارية عليها منذ عام 2018 وأججت التطورات في منطقة تايوان بهدف الضغط على الصين وتعزيز التحالفات المناهضة بكين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
من ناحية أخرى، فإنه مما يعزز من توجه بلدان الشرق الأوسط بصفة عامة لمزيد من الانفتاح والتعاون مع روسيا والصين، بجانب المصالح الضخمة المشتركة والمنافع المتبادلة، حقيقة تبني موسكو وبكين رؤية مغايرة للرؤية الأمريكية للحوكمة العالمية، تتفق إلى حد كبير مع رؤية هذه الدول مثل مبادئ عدم التدخل في الشأن الداخلي واحترم منظومة القيم والتقاليد، والإرث الحضاري، والنموذج التنموي لكل دولة وتعددية الأطراف والبعد عن الهيمنة.
السيدات والسادة
انعكاساً للتحولات الجارية في النظام الدولي، تشهد منطقتنا اتجاهاً كبيراً نحو التنظيم الذاتي وهو ما يبدو واضحاً في السنوات الأخيرة. ذلك أنه بجانب ما أبدته من استقلالية أكبر في سياستها الخارجية، تتبني دول المنطقة نهجاً أكثر عملية وبراجماتية تجاه الشئون الإقليمية والعالمية، يقوم على التنسيق والتفاعل وتجاوز الخلافات. وفى هذا السياق، آثق أن كل من بلدان المنطقة ترحب وتدعم دور كلاً من روسيا والصين البناء في استعادة الأمن والاستقرار في المنطقة، بما في ذلك مبادرات البلدين في هذا الشأن. وبدت دول المنطقة حريصة أيضاً على الانضمام إلى المجموعات والمنظمات الدولية التي يمكن أن توفر خيارات، بجانب المؤسسات التي يقودها الغرب. وفي هذا السياق، يمكن قراءة تمتع مصر ومعظم بلدان الخليج العربية بوضعية “شريك حوار” لدى منظمة شنغهاي للتعاون، وترحيب كلا من مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وإيران وإثيوبيا بالدعوة للانضمام إلى مجموعة بريكس للاقتصادات الصاعدة، اعتباراً من أول يناير 2024.
ومما لا شك فيه أن توسيع عضوية مجموعة البريكس ينطوي على رسالة قوية مفادها أن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، يجب أن يتقبل الواقع المتعدد الأقطاب وأن يتغير مع الوقت. ويشار في ذلك إلى أن العدد الكبير من طلبات الانضمام إلى المجموعة، والمقدر بنحو 40 طلب، هو أحد مظاهر الشعور الأعمق بالضيق من الهيمنة الأمريكية. ذلك أن ميل الغرب إلى فرض عقوبات اقتصادية، وإساءة استخدام آليات الدفع الدولية، والتراجع عن التزامات تمويل المناخ، وتجاهل متطلبات الأمن الغذائي والضرورات الصحية للجنوب العالمي خلال الوباء، هي كلها عناصر تفسر خيبة الأمل المتزايدة تجاه النظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية وتدافع عنه بشراسة.
ومن المأمول أن تساهم مجموعة البريكس بفاعلية في إعادة تشكيل الحوكمة العالمية من خلال زيادة معدلات التبادل التجاري بالعملات المحلية، وإصلاح نظام الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية القائمة، التي لم تعد تستجيب لمصالح البلدان النامية، وذلك من أجل استيعاب تطلعات الاقتصادات الناشئة بشكل أفضل.