الجائحة والنظام العربي تداعيات فيروس كورونا المستجد على المستوى العربى
مايو 22, 2020تداعيات فيروس كورونا المستجد على المستويين الإقليمي والدولي: الجائحة وامتداداتها الإقليمية: حالة إفريقيا
مايو 24, 2020
سفير د. محمد بدر الدين زايد
عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية
تناقش هذه الورقة فرضية مهمة تستحق لفت الإنتباه الأكاديمي والعملي، فيما يتعلق بتداخل الأزمات، أو بشكل محدد فيما يتعلق بإدارة تفاعلات أزمة قائمة في ظل متغيرات نابعة من بروز أزمة جديدة .
ويمكن القول أن هناك سرديتين رئيسيتين في هذا الصدد، يمكن اعتبارهما متلائمتين مع الطبيعة البشرية، الأولى: أن يتم تجميد إدارة أزمة ما بغرض التفرغ لإدارة أزمة- أكبر أو أكثر إلحاحاً وتأثراً بالضغوط الزمنية، وقد تتفق أطراف الأزمة على ذلك طواعية أوجبراً ، والثانية: أن تستمر الأزمات كلها متفاعلة سواءً لأن أحد الأطراف يعتبر ضغوط الأزمة الأخرى عنصراً داعماً لتحقيق مكاسب أفضل، أو لأن الصراع من التعقيد والتداخل بحيث يصعب تجاهل مقتضيات إدارته فى ظل الأزمة الأخرى .
في حالة موضوعنا جاءت أزمة كورونا بما لها من طبيعة خاصة وما نتج عنها من تداعيات دولية وفي داخل كل دول العالم بحيث أوقفت عجلة الحياة الطبيعية، وعلى المستوى الإقليمى جاء ذلك في ظل تعدد بؤر الصراع وتعقدها في أكثر من موضع، في سوريا والعراق واليمن وليبيا بالإضافة لفلسطين، وساحة صراع أخرى في لبنان .
والجدير بالذكر أنه عند بدء اندلاع أزمة كورونا طرح الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبوالغيط نداءً لوقف الصراعات المسلحة في المنطقة، وتفرغ شعوبها لمكافحة جائحة كورونا،وتلاه الأمين العام للأمم المتحدة بنداء عالمي شامل، وكلا الدعوتين وغيرهما تصب فى السردية الأولى. والعرض التالي سيتناول بقدر من الاختصار والتركيز أوضاع ملفات الصراع والأزمات الأقليمية ومدى تأثرها بجائحة كورونا .
أولاً :الأزمة الليبية
يلاحظ أولاً أن اندلاع أزمة كورونا حدث خلال مرحلة من الغموض والتصعيد المكتوم فى ليبيا، فوفقاً لترتيبات مؤتمر برلين الذي عقد في يناير الماضي، كان يفترض سريان وقف إطلاق نار،وبدء تفاوض فى إطار لجنة عسكرية مشتركة بين طرفي القتال المسلح، أي من الجيش الليبي وحكومة الوفاق التي يرأسها فائز السراج، وقد تم تشكيل هذه اللجنة بصعوبة شديدة كون عدد كبير من القوات المشاركة للوفاق من الميلشيات المتطرفة، بما فيها عناصر لداعش السورية التي نقلتها تركيا، ولم تحقق هذه الاتصالات أي تقدم بهذا الصدد، كما كان يفترض تطبيق إجراءات جادة لحظر نقل الأسلحة والأفراد إلى الساحة الليبية، وهو لم يحدث. واتسمت الأوضاع في البداية بما يشبه حالة التحضير لتصعيد جديد وليس لهدنة حقيقية، والأدلة كثيرة على مواصلة تركيا نقل العناصر المتطرفة والأسلحة إلى الساحة الليبية، وبعد فترة من انتهاك وقف إطلاق النار وتبادل الاتهامات،عاد القتال والكر والفر حول العاصمة طرابلس وعدد من مدن المنطقة الغربية. وعندما بدأت أزمة كورونا ظهرت الدعاوى لوقف إطلاق النار وبدء عملية سياسية وسط تحذيرات من خطورة انتشار الفيروس في ظروف اضطراب الساحة الليبية. على أن ما حدث كان العكس تماماً، وهو أن الطرف التركي استغل الإنشغال العالمي، والأوروبي خصوصًا، للتعجيل بنقل المزيد من المتطرفين والأسلحة، ومحاولة حسم الصراع العسكري لصالح حلفائه من تنظيمات الإسلام السياسى، وساعد على هذا أن ليبيا كانت من أقل دول شمال القارة تأثراً بكورونا. وكانت المفارقة مع شواهد تحسن موقف جبهة الوفاق فى المعارك، المبادرات المتعارضة لجبهة مجلس النواب حفتر. ففي وقت أعلن فيه رئيس المجلس عقيلة صالح مبادرة لإعادة تشكيل المجلس الرئاسي- لم تجد أي تجاوب من فريق السراج- خرج حفتر معلناً انتهاء اعترافه باتفاقية الصخيرات، وأنه حصل على تفويض شعبى لإدارة البلاد، والشواهد من ردود الفعل الخارجية أن تحرك حفتر لم يكن بالتنسيق مع أغلب حلفائه الخارجيين، فضلاً عن الداخل الليبي. ومع ذلك جاءت تصريحات عقيلة صالح في الثاني من مايو الجاري بأنه على تواصل دائم مع حفتر ليقلص نسبياً من وجود خلافات حادة داخل هذه الجبهة. على أن المشهد في مجمله– في مرحلة كورونا الأولى- يشير الى أن تركيا قد استغلت انشغال العالم بكورونا لتوسيع تدخلها في ليبيا، ليس هذا فقط بل واستغلت دول العالم أيضا الأزمة لإخفاء ضعف ردود فعلها ضد تدخل تركي نابع من رؤية استراتيجية تعتبر الأكثر تبلوراً فى مواجهة مواقف أغلب الأطراف .
وتشير التطورات الأخيرة إلى أن التدخل التركي الكثيف قد نجح في تغيير توازنات القوة في الغرب الليبي وتمكنت قوات الوفاق من إحكام السيطرة على العاصمة ومناطق الغرب، وتدور الاشتباكات حالياً قرب سرت وسط تفاعلات جديدة، بعد استضافة مصر لكلٍ من عقيلة صالح وخليفة حفتر، وإعلان مبادرتها الجديدة، وهو مايفتح نمط تفاعلات جديد يشير مرة أخرى إلى الارتباط بديناميكيات هذه الأزمة ولاعلاقة له بآثار كورونا.
وتبقى الخلاصة الرئيسية في هذا المشهد في ما قد يرتبط بكورونا، أن اللاعب التركي اختار التصعيد واستغلال الإنشغال العالمي بهذه الأزمة لمزيد من التوسع والتصعيد في ليبيا وسنحتاج لوقت لتبين مدى التغير في معطيات الموقف في الفترة القصيرة المقبلة، سواءً بعد إعلان وزراء شرق المتوسط وفرنسا وبعد المبادرة المصرية الأخيرة، ويظل من المهم الأخذ في الاعتبار نمط السلوك السياسي لأردوغان وأن هذا التحرك تجاه ليبيا متسق مع هذا النمط السلوكي بشكل كبير ،من حيث الإصرار على متابعة رؤيته الاستراتيجية، ومقدرته على حشد الموارد الوطنية لخدمة هذه الرؤية.
ثانياً :الأزمة السورية
الملاحظة الأساسية هنا، هي استمرار درجة كبيرة من الركود الذي كان يتسم به النزاع أو الصراع في سوريا قبل اندلاع كورونا. فبالعودة للتصعيد الكبير الذي شهده النزاع حول إدلب، وحدوث مواجهة مباشرة تركية ضد كل من سوريا وروسيا، وتدهور الأمور إلى مخاطر مواجهات عسكرية مكلفة وخطيرة، وقد تؤدي إلى انزلاق الأمور بشكل لا يمكن السيطرة عليه ،تم التوصل إلى ترتيبات مؤقتة على درجة من الهشاشة تتضمن الاعتراف بالتواجد التركي مؤقتًا وحتى استئناف الدوريات المشتركة. وتكرست بعد اندلاع أزمة كورونا حالة الجمود هذه، متغلغلاً معها تحذيرات من مخاوف لانتشار الفيروس في سوريا وخاصة في معسكرات النازحين التي تعاني الكثير من الظروف المعيشية الصعبة. وقد صحب كل ذلك حديث جديد عن انتقاد روسي لأداء الرئيس الأسد فسرته بعض المصادر بأن دافعه مطالب روسية اقتصادية وضغوط ضد الشراكة مع إيران. وفي التقدير أن العوامل الأكثر تأثيراً مرتبطة برغبة تركيا في مزيد من التركيز على الجبهة الليبية، وعدم يقين روسيا، ومعها سوريا، من توقيت تحريك الصراع والتضييق على تركيا في المرحلة الراهنة،وقد يكون الهدف هو ترتيبات ضمنية روسية – تركية لنقل أكبر عدد من عناصر الميلشيات المتطرفة أو جيش الاحتياط التركي إلى ليبيا بحيث تسهل مهمة التراجع أو حفظ ماء الوجه التركي بتحقيق انتصار حتى لو تكتيكي في الجبهة الليبية يخفف من تراجعها أمام روسيا في الجبهة السورية.
الخلاصة، أنه من الصعب ربط منطق تفاعلات الأزمة السورية بأزمة كورونا حتى الآن وأن محددات الأزمة وديناميكيتها الذاتية هي الحاكمة للتطورات حتى الآن ، ويبقى أمر أخير بالنسبة لسوريا، وهو توسع العمليات الإسرائيلية ضد الأهداف الإيرانية حيث تمثل هنا مسألة كورونا فرصة لكل من سورية وإيران لإخفاء ردود فعلهما الضعيفة ضد الاعتداءات الإسرائيلية فى ظل الإنشغال العالمي بالجائحة.
ثالثاً: لأزمة العراقية:
يمكن تلخيص تفاعلات الأوضاع العراقية في عدد من الأبعاد :
البعد الأول: أن الساحة العراقية ميدان للتنافس الإيرانى – الأمريكى، ويعجل الانسحاب الأمريكي، الذى بدأت خطواته متسارعة،بإختلال توازن كامل لصالح إيران فى الساحة العراقية .
البعد الثاني: استمرار الإستقطاب السني – الشيعي، ولكن بتفاعلات تتسم بدرجة عالية من البطء.
البعد الثالث: حالة الجمود السياسي، وعجز النظام عن تحقيق الاستقرار السياسى، والسلم الإجتماعي مع تفشي الفساد عموماً منذ احتلال العراق، وهدم مؤسساته الوطنية، وتشجيع الإستقطاب الطائفي مما أثار حالة التظاهرات وتأخر تشكيل الحكومة لعدة أشهر حتى تم تكليف مصطفى الكاظمي مؤخراً.
في ظل هذه الأبعاد جاءت كورونا ولم ينتج عنها تقريباً سوى توقف التظاهرات والتجمعات ، مع استمرار حالة الشلل السياسي والتى سيتضح بعد فترة مدى قدرة الكاظمي على تجاوزها. ومع تواصل الانسحاب الأمريكي عادت داعش لتطل برأسها مرة أخرى، وخلافًا لأن هذه العودة بحسب تقارير إعلامية جراء الإنشغالبكورونا ، فإن تقديرنا بأنها تتغذى على بيئة الإستقطاب والإحباط السياسيين المتواصلين في المجتمع العراقي، ومعتمدة على محاولة ملء الفراغ جراء الأنسحاب الأمريكي. ما يمكن معه القول بأن الأوضاع العراقية قد واصلت تداعياتها المستمدة من متغيرات ومحددات الأزمة ذاتها، وأن الإضافة الرئيسية لأزمة كورونا كانت في توقف حالات التظاهر والإحتجاج الشعبى، دون أن يمتد هذا الى توفير فرص أفضل لحوار وطني جديد يتجاوز الأزمة، الأمر الذي يرتبط باستمرار نفس المحددات والمتغيرات قبل وبعد كورونا، وعدم إنتاجها لمؤثرات جديدة تكفي لتحريك الموقف المتعسر .
رابعاً:الأزمة اليمنية
مثل كل الصراعات الجارية، انطلقت دعاوى في بداية تفشي كورونا تحذر من خطورتها في ظل تدهور الأوضاع الصحية والمعيشية اليمنية، وأعلن التحالف الذي تقوده السعودية عن مبادرة لإطلاق النار بهذا الصدد، ولكن رد الجانب الحوثي كان بإطلاق عدد من الصواريخ في اتجاه السعودية ، وهو ما أثار ردود فعل سلبية دولية مجدداً، وعادت أجواء وقف إطلاق النار الهشة التي لا تعكس قرب التوصل إلى تسوية سياسية قابلة للتحقق، بقدر ما تعكس عجز أي من أطراف الصراع عن حسم الأمور، مع ترسخ أقدام الحوثيين في العاصمة والكثير من المراكز الإستراتيجية، في مقابل تراجع المعسكر الشرعي، الذي تعرض لنكسة حادة مؤخراً مع اندفاع المجلس الإنتقالي الجنوبي الى الخطوات الإنفصالية وانتقال بؤرة الصراع في اليمن إلى أبعاد جديدة .ومرة أخرى تبدو تداعيات المشهد اليمني غير مترابطة مع أزمة كورونا بقدر ما هي نتاج تداعيات تطورات الأزمة اليمنية ذاتها ومساراتها المعقدة .
خامساً:القضية الفلسطينية
تقدم الحالة الفلسطينية نموذجاً مغايراً مقارنة بأغلب النماذج السابقة، فبعد فشل محاولات نتنياهو تشكيل الحكومة الإسرائيلية بعد عقد ثلاث جولات انتخابية، أسفرت عن فروق هامشية، وآخرها الجولة الثالثة التي نجح فيها نتنياهو في الحصول على أكبر كتلة دون أن يكفي هذا لتحقيق أغلبية مريحة، ثم فشل الكتلة الثانية بزعامة “بيني جانتس” في تحقيق أغلبية كافية، تم تكليف نتنياهو وجانتس بمحاولة إقامة حكومة ائتلافية بحجة الحاجة لحكومة طوارئ لمواجهة كورونا، حيث فشلت جولات التفاوض بين الجانبين، وكان ممثلو جانتس قد أعلنوا بعدها أن السبب يعود إلى أن أهداف الليكود ليس التوصل إلى حكومة ائتلافية بحجة كورونا،وإنما إيجاد صيغة لإنقاذ نتنياهو من المحاكمة، حيث دارت شروطهم بهذا الصددعلى حل الكنيست في حالة صدور أمر من المحكمة العليا بمنع نتنياهو من إمكانية تولي منصب القائم بأعمال الحكومة أو حكم من المحكمة بمنعه من تولي رئاسة الحكومة. كما قدم الليكود طلباً بتغيير قانون أساس الحكومة بحيث تمتنع المحكمة العليا من مناقشة موضوع إيقاف ولاية وزير في الحكومة قدمت ضده لائحة اتهام، فضلاً عن طلب الليكود تعيين ثلاثة في لجنة القضاء، وبإعلان حقيقة الصفقة وفشلها عادت جهود تشكيل الحكومة إلى الكنيست، ليفاجئ العالم بعد ذلك بأقل من 48 ساعة، بإعلان الجانبين تشكيل حكومة الطوارئ، والتي عنوانها الحقيقى إنقاذ نتنياهو وتمرير خطته لضم أجزاء جديدة من الضفة الغربية قد تصل إلى ثلثها، وفي الواقع أن تتبع سلوك جانتس منذ مشاركته مؤتمر ترامب ونتنياهو لإعلان صفقة القرن، ومحاولته لإخفاء مواقفه الحقيقية من عملية السلام، وإظهار اعتدال غير حقيقي تجاه عرب إسرائيل ومحاولات التسوية، تشير كلها إلى أن الأنتهازية السياسية هي المحرك الرئيس لجانتس، وأن مسألة كورونا التي اتخذت كساتر ومبرر لهذه الحكومة الإئتلافيةلاتزيد عن كونها ذريعة لإخفاء هذه التحولات. ويؤكد ذلك زيارة وزير الخارجية الأمريكي بومبيو في 13 مايو لتشجيع قيام الحكومة الإئتلافية، ما يؤكد أن هذه الخطوة برعاية أمريكية كاملة، وكأن تصفية القضية انشغال أمريكي أكثر منه إسرائيلي.
الخلاصة:
يمكن من قراءة التطورات التى شهدتها خريطة الصراعات الإقليمية استخلاص الآتى:
1- أنه بشكلٍ عام، فإن تطورات هذه النزاعات-حتى الآن- تمت فى إطار معطياتها والعوامل المؤثرة عليها، وأن أكثر نموذجين يتضح فيهما قدر من التأثير بأزمة كورونا هي ليبيا والصراع الفلسطيني –الأسرائيلي. وفي الحالة الليبية مثلت كورونا فرصة لتركيا فى ضوء إنشغال العالم وهو انشغال تم تجاوزه مع صدور البيان الخماسي الفرنسي اليوناني المصري الإماراتي القبرصي والتطورات التالية حتى إعلان القاهرة في يونيو 2020. وفي حالة إسرائيل كانت مجرد الستار الذى استندت اليه مخططات الأطراف الفاعلة فى السياسة الإسرائيلية للمضي قدماً فى خطة تصفية القضية الفلسطينية. وفي المجمل كان دور كورنا بهذا الشكل أقرب إلى لعب دور الساتر وليس الدوافع الحقيقية.
3- الملاحظ أيضا أن تأثير أزمة كورونا كان لا يسير على وتيرة واحدة بالنسبة للأزمات الإقليمية، بمعنى تباينه من فترة لأخرى خلال زمن الدراسة .
4_ ضرورة النظر إلى الصراعات الإقليمية الجارية من منطلق استراتيجى شامل، وأن عدداً رئيسياً من اللاعبين يمارس الصراع في ضوء خريطة توازنات المنطقة بأكملها وينظر للمكاسب التي يحققها في إطار هذه النظرة الشاملة.
5-وأخيراً يجب الأخذ في الاعتبار أن التحليل السابق يمتد زمنيًا إلى شهر مايو 2020، وأن وحاولنا الإشارة إلى التطورات الأخيرة خاصة في ليبيا بقدرٍ من الاختصار، وأن تأثير الأزمات الممتدة زمنياً ككورونا، قد تكون له تداعيات وتأثيرات إضافية تتضح مع الوقت .
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهات نظر الكاتب ولاتعكس بالضرورة رؤية المجلس المصري للشئون الخارجية.