أردوغان رهينة استراتيجيته (2023)
نوفمبر 20, 2020لقاء مع السفير الروسي بالقاهرة
نوفمبر 23, 2020
يمر علينا يوم 25 نوفمبر هذا العام كما مر فى الأعوام السابقة دون ذكر أو تنويه عن مدلول هذا اليوم فى تاريخ مصر الحديث، ودون أن نفرد له المسافة الواجبة لتوعية الأجيال الشابة بهذا اليوم الفارق فى تاريخنا.
فى هذا اليوم الأسود الحزين من عام 1875 باع الخديوى اسماعيل حصة مصر من أسهم قناة السويس إلى بريطانيا لتسديد جزء من الديون التى أوقع مصر فيها بسبب إسرافه السفيه وسوء إدارته التى فتحت باب التدخل الأجنبى فى شئون مصر والذى أدى إلى ضياع استقلال البلاد واحتلالها.
وحتى ندرك جسامة الجريمة التى ارتكبها سعيد واسماعيل وتوفيق فى حق مصر علينا أن نتابع القصة من بدايتها.
***
تبدأ القصة يوم 30 نوفمير عام 1854 عندما منح سعيد باشا فريدناند ديليسبس امتيازا لحفر قناة السويس وإدارتها لمدة 99 عاما.
وبمراجعة الامتياز ندرك مدى الجشع الذى يمثله ديليسبس من جانب ومدى السفه والتخاذل الذى مثله سعيد باشا. فالامتياز يعطى الشركة المسافة بين بورسعيد والسويس، قرابة 190 كيلومترا من الأراضى المصرية، ويفرض على مصر تقديم العمالة المجانية للشركة بنظام السخرة وحفر ترعة للمياه العذبة لمصلحة الشركة. ورغم كل هذا قدرت نسبة مصر فى رأسمال الشركة بـ44% فقط دون أن يكون لها نسبة حاكمة تتجاوز 50%.
ولعل أخطر ما قصر فيه سعيد أنه لم يضمن للاتفاق آليه لتسوية أى خلاف ينشب بين الشركة ومصر، وهو أمر سيكون له أثر خطير كما سنرى.
تم تحديد قيمة الأسهم المطروحة للاكتتاب فى الشركة العالمية لقناة السويس بـ200 مليون فرنك، إلا أن ديليسبس رغم الجهد الذى بذله لم ينجح إلا فى جمع 112 مليون فرنك. فقام بدون توكيل من سعيد أو حتى إخطاره بالاكتتاب فى 88 مليون فرنك باسم سعيد، وعندما اعترض على ذلك هدده بأن نابليون الثالث مهتم بإنجاح المشروع وإن اعترض سيتعرض لغضب فرنسا وستقام ضده دعاوى تعويض تكلفة أضعاف هذا المبلغ. وبحسبة بسيطة نجد أن الـ88 مليون فرنك التى اشتراها ديليسبس باسم سعيد تحتل وحدها 44% من حصة أسهم القناة، أى أن ما اكتتب فيه الخديوى بداية والأرض والعمل وترعة المياه العذبة كلها لم تحسب لصالح مصر.
ولعل من أكثر الأمور استفزازا فى قضية قناة السويس أنه رغم كل ما تكلفته مصر فى المشروع، إلا أن مجلس إدارة الشركة لم يجلس فيه مصرى واحد.
***
وتأتى المفارقة التالية التى أظهرت رعونة سعيد فى صياغة الامتياز وإغفال النص آلية لحل المنازعات.
نشأ النزاع فى عام 1868 عندما ألغى إسماعيل الذى خلف سعيد على أريكة الحكم السخرة، ليس إشفاقا على الفلاح المصرى ولكن استجابة لضغوط بريطانيا مكايدة لفرنسا وتعطيلا لمشروع القناة الذى كانت تراه فرنسيا.
احتج ديليسبس بأن إلغاء السخرة هو انتهاك لشروط الامتياز، كما نشب نزاع بسبب إصرار شركة القناة على الاستئثار باستغلال الأراضى المتاخمة لترعة الاسماعيلية التى حولت الأراضى حولها من رمال قاحلة إلى أراضٍ خصبة رغم أن مصر هى التى حفرت الترعة. وبلغ غلو الشركة أنها طالبت احتكار الصيد فى بحيرة المنزلة بدعوى أنها امتداد للقناة.
ولما استفحل النزاع بين الشركة والخديوى طلبت الشركة التحكيم ووافق الخديوى. ويا للعجب أن يكون الحكم هو نابليون الثالث إمبراطور فرنسا وهو لا يمكن أن يكون حكما عادلا لأن شركة القناة شركة فرنسية، فضلا عن صلة القرابة التى تربط ديليسبس بالإمبراطورة أوجينى، فضلا عن جلوس ابن عم الإمبراطور الأمير جيروم فى مجلس إدارة الشركة.
وكما هو متوقع كان حكم الإمبراطور منحازا لصالح شركة القناة ومجحفا بمصر، فحكم بأن تدفع مصر ثلاثة ملايين و800 ألف جنيه استرلينى تعويضا للشركة لاخلالها بشروط التعاقد!
كان هذا الحكم بمثاية المسمار الأخير فى نعش حكم الخديوى اسماعيل والذى عجل بإعساره وفتح الباب أمام التدخل الأجنبى فى الشأن المصرى.
وبدأ ترنح اسماعيل تحت وطأة الديون التى تراكمت عليه بسبب إسرافه السفيه، إلا أن ذلك لم يثنه عن طريق الخراب الذى انتهجه. فكان حفل قناة السويس أوج السفه، ويكفى أن نشير إلى أن تكلفة المأكولات التى قدمت فى وليمة الحفل تكلفت 400 ألف جنيه! وإن قصر الجزيرة الذى بناه لتقيم فيه أوجينى عدة أيام، وهو فندق ماريوت اليوم أحاطت به حديقة ضمت أراضى نادى الجزيرة ومركز الشباب والأرض التى أقيمت عليها عمائر مدخل الزمالك، جلب لها النباتات والأشجار وصخور الزينة من جميع أنحاء العالم.
ومع تردى أوضاع الخديوى استنفر سماسرة المال فى أوروبا كالعقبان التى تنتظر وقوع الفريسة لالتهامها، كان ضمنهم سمسار اسمه إدوارد درفيو له أخ مقيم بالإسكندرية اسمه أندريه درفيو كلفه بأن يجس نبض اسماعيل بشأن بيع أسهم القناة، فتعلق اسماعيل بالعرض تعلق الغريق بالقشة، وفى اليوم الأسود المشهود يوم 25 نوفمبر 1875 تمت الصفقة المشئومة وباع اسماعيل 170 ألف سهم تمثل 44% من جملة أسهم شركة قناة السويس إلى بريطانيا مقابل 3,976,582 جنيه استرلينى ووقع عقد البيع عن مصر اسماعيل صديق باشا المعروف باسماعيل المفتش وعن بريطانيا الجنرال ستانتون قنصل بريطانيا فى مصر.
وبحسبة بسيطة نجد أن ما دفعته مصر من تعويض طبقا لحكم نابليون الثالث 3 ملايين و800 ألف إضافة إلى ما تحمله سعيد للاكتتاب فى الأسهم الذى يزيد كثيرا عما تقاضاه اسماعيل مقابل الأسهم التى باعها، أى أنها كانت صفقة خاسرة.
وبذلك تكون مصر قد استفادت من القناة فترة لا تتجاوز سبع سنوات منذ افتتاحها سنة 1868 إلى أن باع اسماعيل حصتها سنة 1875، فبقى لمصر بعد بيع الأسهم 15% من الأرباح كحق للدولة رهنها اسماعيل للمرابين ثم باعها توفيق لاحقا فلم يبق لمصر أى حقوق فى القناة التى بذلت المال والدم من أجل بنائها.
***
لتكتمل القصة يجب أن نعرف ملابسات الصفقة، فقد اشترى الأسهم رئيس الوزراء البريطانى بنيامين دزرائيلي دون إخطار البرلمان ودون الحصول على اعتماد، بل قدمه له صديقه ليونيل روتشليد دون أى مستندات أو عقود وبفائدة 7% بينما كان البنك قد أقرض اسماعيل بفائدة بلغت 21%.. هوجم بنيامين دزرائيلي هجوما شديدا وطلب بسحب الثقة منه لأنه تصرف بعيدا عن رقابة البرلمان، إلا أن التأييد الشعبى وتأييد الملكة فيكتوريا أنقذ دزرائيلى.
هذا فصل من تاريخ النهب الاستعمارى لمصر نقدمه للأجيال الشابة التى تمجد عصر الخديوى اسماعيل وتطالب بإعادة نصب تمثال ديليسبس.
محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية
نشر المقال بجريدة الشروق بتاريخ 21 نوفمبر 2020 و رابط: