حلقة أخرى في انفراط عقد الهيمنة الأمريكية
فبراير 17, 2022مشاركة المجلس فى ندوة مؤسسة كيميت بطرس غالى للسلام والمعرفة حول “الخارجية المصرية فى مئة عام”
فبراير 28, 2022
د. عزت سعد
مدير المجلس المصرى للشئون الخارجية
في صباح 24 الجاري، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه قرر القيام بعملية عسكرية “خاصة” في إقليم دونباس (شرقي أوكرانيا)، مشيراً إلى أن بلاده لا تخطط لاحتلال الأراضي الأوكرانية.
وعلى حين أوردت وسائل الإعلام الروسية، أنه تم تحييد القوة الجوية الأوكرانية وتدمير عدة قواعد عسكرية في الإقليم، أكدت كييف أنها كبدت القوات المهاجمة خسائر في الأرواح والمعدات. وكان الرئيس الأوكراني قد أعلن حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد منذ 23 الجاري. وقد لقي إعلان بوتين عن العملية العسكرية ردود فعل واسعة من دول الغرب، التي أدانتها بشدة وتعهد الرئيس الأمريكي بمحاسبة روسيا، وأكد الاتحاد الأوروبي أنه سيفرض عليها عقوبات غير مسبوقة. وأُعلن عن اجتماع طارئ لحلف شمال الأطلنطي اليوم، والتقدم بمشروع قرار سيطرح على مجلس الأمن يدين روسيا، وهو أمر مستبعد بسبب الفيتو الروسي (تتولى روسيا الرئاسة الشهرية لمجلس الأمن حالياً)، ومن ثم تذهب الأزمة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي بدأت بالفعل في مناقشتها منذ أمس.
ولم يكن قرار بوتين بعملية عسكرية “خاصة” مفاجأة، خاصة في ضوء قراره الاعتراف بالإقليمين الانفصاليين دونيتسك ولوجانسك كجمهوريتين مستقلتين في 21 فبراير الجاري وتصديق البرلمان الروسي في اليوم التالي على قرار الاعتراف والتصديق على معاهدة صداقة وتعاون متبادل بين الجمهوريتين وروسيا، تنص على الدفاع المشترك وتدابير لحماية حدود الجمهوريتين وحق الاستخدام المتبادل للبنية التحتية والقواعد العسكرية على أراضي بعضهما البعض. وفي قرار الاعتراف، أمر بوتين بنشر قوات لــــ “حفظ السلام” في الجمهوريتين، وهو ما كان بمثابة تمهيد للعملية العسكرية، خاصة وأن الانفصاليين الذين تدخلت روسيا لدعمهم لا يسيطرون سوي على نسبة 30% من المساحة الإجمالية للإقليمين وبالتالي فالتدخل العسكري كان لتحرير المساحة الباقية التي تنشط فيها جماعات يمينية متطرفة معادية للأوكران من ذوي الأصول الروسية على نحو ما المح بوتين في خطابه المطول في 21 الجاري الذي أعلن فيه الاعتراف بالإقليمين كجمهوريتين مستقلتين.
والمتأمل للتصريحات الأخيرة للمسئولين الروس، لابد وان يستخلص نقطتين رئيسيتين هما: أن النظام الحاكم في كييف جاء بانقلاب، وأن أوكرانيا لا تنفذ اتفاقات منسك التي تعطي للأقليات الروسية في الإقليمين الانفصاليين حقوقاً وضمانات تحميها. ويعني ذلك أن موسكو أمام أحد خيارين: إما أن يكتسب النظام في كييف الشرعية من خلال تنفيذ اتفاقيات منسك، أو أن تقوم روسيا بتسوية مشكلة وجود حكومة غير شرعية على حدودها. ولما لم تتمكن روسيا من بلوغ النتيجة التي أرادتها بالوسائل الدبلوماسية، فقد صعدت من حشدها العسكري بالقرب من الحدود مع أوكرانيا بما يضع الغرب في حالة توتر، ويجبر كييف والغرب في نهاية المطاف على تبني نهج أكثر مرونة في التعامل مع مطالب روسيا واهمها ضمانات موثوقة بعدم تمدد حلف شمال الأطلسي شرقاً وسحب الصواريخ القصيرة المتوسطة المدي من بلدان شرق أوروبا القريبة من روسيا وإعادة صياغة الأمن الأوروبي بما يلبي احتياجات روسيا الأمنية.
والحقيقة أن قرار الرئيس بوتين التدخل العسكري في شرق أوكرانيا يضع، من الناحية العملية، نهاية لاتفاقات منسك التي استهدفت إنهاء الصراع في هذه المنطقة، والتي كثيراً ما اتهمت موسكو كييف والغرب بالفشل في تنفيذها. وفضلاً عن ذلك، وهو الأهم، أغلق هذا التدخل باب النقاش- على الأقل في الوقت الحالي- أمام مطالب روسيا الأساسية على النحو السابق الإشارة اليه. ومن المنظور الغربي، باتت أولوية الأولويات الأن وحدة أراضي أوكرانيا، على حساب القضايا التي اعتبرت أولويات في السابق (الصواريخ المتوسطة المدي في أوروبا، ضبط التسلح، اتفاقيات منسك، وهواجس روسيا الأمنية). ويعلق بعض الكتاب على الموقف الغربي من اتفاقيات منسك بالقول بأنه لم يفعل شيئاً يذكر من أجل أمن أوكرانيا، وإنما كان تركيزه على تقديم نفسه بوصفه المنتصر المطلق في الحرب الباردة، وان هذا هو الوضع الذي تتحداه روسيا باستخدام القوة. وهنا يكمن التعنت الغربي، أو كما وصف وزير الخارجية الروسي لافروف اجتماعه بنظيره البريطانية – في مؤتمر صحفي في موسكو بعد لقائه بها في 10 الجاري- بأنه “كحوار أبكم مع أصم.. نسمع ولكننا لا ننصت”. ولقد عكست كلمة الرئيس الأوكراني زيلينسكي أمام مؤتمر ميونخ للأمن في 20 الجاري قدراً كبيراً من خيبة الأمل إزاء الموقف الغربي من الأزمة، ملقياً باللوم على “الأنانية والثقة بالنفس وعدم مسئولية الدول الكبرى، ونتيجة لذلك يرتكب البعض جرائم، ويبقي البعض الأخر غير مبال … اللامبالاة التي ينجم عنها التواطؤ”، وأضاف “أوكرانيا كانت درع أوروبا لمدة ثماني سنوات … ومع ذلك، لم يفتح باب الاتحاد الأوروبي والناتو أمامها، وبدت الوعود بحماية السيادة الأوكرانية المنصوص عليها في مذكرة بودابست عام 1994 عديمة الجدوى”. ودعا الرئيس الأوكراني الغرب إلى إرسال المزيد من الأسلحة وفرض عقوبات وقائية فورية على موسكو، قائلاً: “ماذا تنتظرون؟ لسنا بحاجة لعقوباتكم ضد روسيا بعد أن يبدأ القصف علينا”.
ومن جانبه بدا الرئيس بوتين، وبعد أقل من شهرين على الذكري الثلاثين لانهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر الماضي، والذي ستحل مئوية إنشائه في ديسمبر 2022، مصمما، وبطريقته الخاصة، على وضع نهاية للتراجع الجيوسياسي لروسيا، الذي بدأ قبل ثلاثة عقود، وهو الأمر الذي ينظر اليه العديد من الكتاب الغربيين على أنه رغبة محمومة لدي بوتين باستعادة الاتحاد السوفيتي السابق. وعلى عكس هذه الرؤية تشير القيادة الروسية إلى أنها معنية بتأكيد ذاتها كقوة رئيسية هامة على طول حدودها الجديدة، وأنه من خلال إظهار قدراتها العسكرية وتصميمها السياسي على التدخل، تطمح في استبدال النظام الأمني الأوروبي الحالي القائم على هيمنة الولايات المتحدة والدور المركزي لحلف شمال الأطلسي. وصحيح أن أوكرانيا هي خط المواجهة في هذه الأزمة، إلا أن بوتين لا يرى فيها قضية ثنائية بين موسكو وكييف، وإنما فرصة لردع الولايات المتحدة عن قبول أوكرانيا عضواً في حلف شمال الأطلسي أو نشر أسلحة هجومية مثل الصواريخ على أراضيها والاعتراف بمصالح روسيا.
لقد أظهرت الأزمة استعداد روسيا – وللمرة الأولي منذ نهاية الحرب الباردة –لاستخدام القوة العسكرية لمنع المزيد من التوسع من قبل التحالف الغربي في الفضاء السوفيتي السابق. وبطبيعة الحال، يدرك بوتين أن استراتيجيته هذه محفوظة بالمخاطر، إلا أنها يمكن أن تنجح، ولو جزئياً، في ضوء الأوضاع الداخلية في الولايات المتحدة وعدم وجود مصلحة، أو حتى نية، لديها، أو أي من حلفائها، في محاربة روسيا على الأراضي الأوكرانية.
أخيراً ستكشف الأيام القادمة على من يعوّل بوتين في قراره بالتدخل العسكري، وهل سيتوقف عند حدود الإقليمين أم سيمضي إلى ما هو أبعد، والي أي مدي سيصل رد الفعل الغربي على ذلك، وماذا سيكون عليه موقف الصين التي لم تعترف بضم شبه جزيرة القرم ولا بجمهوريتي “ابخازيا” و “اوسيتيا الجنوبية”، اللتين أعلن بوتين الاعتراف بهما كجمهوريتين منفصلتين عن جورجيا في أغسطس 2008 ففي ذلك العام وجه الرئيس الأمريكي بوش الأبن دعوة لميخائيل ساكاشفيلى رئيس جورجيا آنذاك (المسجون حالياً في قضية فساد)لحضور قمة حلف شمال الأطلسي في بوخارست الأمر الذى أعترض عليه كلا من ميركل و ساركوزي مما دعي بوش إلى صرف النظر عن الدعوة. وها نحن نرى السيناريو ذاته يتكرر في أوكرانيا. وفى التقدير لن يختلف الموقف الصيني هذه المرة، رغم شدة التنافس الاستراتيجي الأمريكي الصيني والإعلان المشترك الذي صدر عن قمة شي شينبنج بوتين، على هامش حضور الأخير افتتاح دورة الألعاب الشتوية في بكين في 4 الجاري والذي أنطوى على دعم سياسي صيني للموقف الروسي ومطالبة الغرب بأخذ مصالح موسكو الأمنية في الاعتبار.
ويدرك الرئيس بوتين أن معركته مع الغرب ممتدة، وأن عليه خوضها وحده، وهو ما يتبدى بوضوح في استراتيجية الأمن القومي الروسية التي صدرت في يوليو الماضي، والتي تركز بالأساس على عملية إعادة البناء الداخلي إقتصادياً وعسكرياً، والتأكيد على العودة إلى القيم الروسية التقليدية والأهمية الحاسمة لقضايا مثل التكنولوجيا والمناخ. وتنطلق الاستراتيجية من رؤية روسية لعالم يمر بمرحلة تحول واضطراب، وأن هيمنة الغرب بقيادة الولايات المتحدة تتأكل وهو ما يؤدى إلى مزيد من الصراعات الأكثر خطورة، حيث سيقاوم الغرب –وفقاً للاستراتيجية- بضراوة أكبر مع تراجع هيمنته.
نشر المقال بجريدة الشروق بتاريخ 25 فبراير 2022 و رابط :
https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=25022022&id=efe6edfa-cd42-4482-94dc-296a8632331e